بعض اللبنانيين يعودون إلى استخدام "النمليّة" التي كان أجدادهم يخزّنون فيها الطعام قبل اختراع الكهرباء
لأزمة المحروقات ومعها أزمة الكهرباء ومن ورائهما الأزمة المعيشية، ضحايا كُثر في جميع البيوت وفي مختلف القطاعات. فكما القطاع الصحّي والصناعي والزراعي والتربوية وغيرها، يبرز الغذاء ومستهلكوه والعاملون فيه. فالمستهلكون تغيّرت أنماط استهلاكهم للغذاء نظراً إلى توقّف اعتمادهم على البرّادات التي حوّلها انقطاع الكهرباء يومياً لساعات، إلى خزّانات فارغة إلّا من زجاجات قديمة وربطات خبز تنتظر أن يعلوها العفن. وأصبح تأمين الطعام اليومي وتخزينه عملية معقّدة مليئة بالحذر، وبات من اعتاد أن يطلب وجبة دليفيري، يفكّر مرّتين قبل أن يرفع سمّاعة الهاتف، خشية من التسمّم الغذائي الذي بات منتشراً كثيراً وعوارضه أكثر شدّة بحسب الخبراء، من دون أن تتمكّن وزارة الصحّة من إحصاء عدد الإصابات به نظراً إلى أنّ المرضى لا يقصدون المستشفيات سواء بسبب كورونا أو ارتفاع الفاتورة الاستشفائية.
ورغم هذه المعطيات، لا تزال الرقابة والتوعية من جانب الوزارات المعنيّة بسلامة الغذاء وحماية المستهلك، غائبة تماماً في حين لا تتحرّك وزارتا الاقتصاد والصحّة إلّا حين تتلقّيان شكاوى من المواطنين عن تعرّضهم للتسمّم الغذائي.
ورغم أنّ الخطر المحدق بسلامة الغذاء ليس وليد اللحظة بل بدأ منذ سنوات وسلّطت عليه الضوء حملة لسلامة الغذاء التي أطلقها وزير الصحة الأسبق وائل أبو فاعور (2015 – 2017)، يستمرّ تلكّؤ الحكومة عن إصدار المراسيم التطبيقية لقانون سلامة الغذاء رقم 48 الصادر في العام 2015 الذي نصّ على تشكيل الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء من دون أن تُشكل حتى اليوم، وأمام عدم تفعيل “المجلس الوطني لحماية المستهلك” المرتبط بقانون حماية المستهلك الصادر عام 2005.
ومن تداعيات أزمة المحروقات في هذا المجال أنْ بدأت المطاعم والمؤسّسات والمشاريع الغذائية لا سيّما الصغيرة منها تعلن الإغلاق المؤقّت أو النهائي الواحدة تلو الأخرى أو تقليص خدماتها أو الأصناف التي تقدّمها.
أزمة المحروقات تغيّر النمط الاستهلاكي
“ما عدنا نشوف الكهربا، لا كهربا الدولة ولا اشتراك الموتور”، تقول سوازن وهي زوجة وأم لابنتين تعيش في منطقة الشويفات. تُضيف بسخرية سوداء، “البرّاد تحوّل إلى خزانة، فلم نعد قادرين على تخزين الأطعمة فيه”. قبل نحو الشهر وبسبب الانقطاع المستمر للموتور، قرّرت سوزان وزوجها إلغاء الاشتراك فيه والاستعاضة عنه ببطارية تشريج كلّ ما تقدمه إضاءة وتلفزيون وأحياناً مروحة ولكنّها بالتأكيد لا تشغّل البرّاد. توضح قرارها بالقول: “الموضوع مبدئي، نحن لا نقبل أن يسرقنا أحد، فهو يأخذ المال ولا نرى الكهرباء سوى لساعات قليلة في النهار، كنّا ندفع في السابق نحو 150 ألف ليرة ومنذ فترة بدأت الفاتورة تتصاعد حتى وصلت إلى مليون و300 ألف ليرة لـ 5 أمبيرات فقط”. وتُضيف: “لا أجد فارقاً بين البطارية واشتراك الموتور، حتى حين كنت لا أزال أشترك فيه كنت لا أضع المأكولات في البرّاد لأنّنا لا نرى الكهرباء سوى لساعات قليلة”.
منذ ارتفاع ساعات التقنين بدأت سوزان تدخل تغييرات على الأطعمة التي تؤمّنها لعائلتها، “كنت في السابق أشتري اللحوم لما يكفي لأسبوعين، أضعها في الثلاجة وأستخدم كمية منها لكل طبخة، وكان ذلك يوفّر عليّ عناء الذهاب إلى السوبرماركت كلّ يوم وبخاصّة في ظل انتشار فيروس كورونا”. لكنّ تغيّر هذا الواقع منذ أشهر، “بدأت أشتري حاجتي اليوميّة، منذ يومين اشتريت من الدكّان أقلّ من وقية لبنة، وأقلّ من وقية جبنة، نظرت إلى البائع وسألته: “هل طلبي غريب؟، فأجابني، على العكس بات جميع الزبائن يطلبون طلبات مماثلة”.
هذه التغييرات جعلت “موضوع تأمين الطعام الآمن على الصّحة موضوعاً مربكاً، فلم يعد الطبخ بالسهولة التي اعتدنا عليها، وحتى في أيام الآحاد كنت أطلب الطعام الجاهز لتغيير الجو، اليوم توقفت نهائياً بسبب الخوف من التسمّم”.
تجربة سوزان هي نموذج عن حالة قسم كبير من المقيمين في لبنان الّذين استغنى الكثير منهم عن شراء الأغذيّة التي تحتاج إلى تبريد كالألبان والأجبان واللحوم والخضار المثلّجة وغيرها بسبب انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في النهار عن منازلهم وعن السوبرماركت والدكاكين أيضاً، فأصبحت برّاداتهم شبه فارغة، فيما عاد بعضهم إلى استخدام “النمليّة” وهي خزانة بشبك ناعم كانت تستعمل قديماً قبل اختراع البرّاد والكهرباء لتخزين الطعام. فمشهد البرّادات الفارغة لم يعد محصوراً بأصحاب المداخيل المتدنّية بل بدأ ينتشر في بيوت كثيرة مع انقطاع الكهرباء المستمرّ ممّا يمنع من تخزين الأطعمة تفادياً لحالات التسمم الغذائي جرّاء ارتفاع الحرارة على المأكولات ما يؤدّي إلى تكاثر البكتيريا.
تشرح سُعاد من عكّار أنّها استغنت نهائياً عن شراء الألبان والأجبان، وتقول: “بدأت أشتري اللبن الطازج بكمّيات محدودة، ولجأنا أكثر فأكثر إلى إعداد اللبنة المنزليّة المحفوظة بزيت الزيتون وكمّيات أكثر من المونة البلدية التي لا تحتاج لبرّاد لحفظها لتأمين المواد الغذائيّة في الأشهر المقبلة”.
لكن هذا التغيير في النمط الغذائي لم ينشأ فقط بسبب أزمة المحروقات بل “بدأنا بالتقشّف منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة، أشهر مرّت ولم تدخل اللحوم إلى منزلنا”. والكهرباء في عكّار تنقطع بشكل كبير، إذ بحسب سعاد “لا تتعدّى ساعات التغذية خمسة يومياً، دولة واشتراك معاً، لذلك رأينا أن نوقف الاشتراك والاعتماد ليلاً على ضوء الشموع وبطاريّة صغيرة”.
1 من كل ثلاثة أشخاص يدخلون الصيدلية يسأل عن أدوية التسمّم
بات سماع خبر تعرّض أحد للتسمّم الغذائي خبراً اعتيادياً لا بل متوقّعاً يردّه من يصاب به إلى تلوّث الطعام الذي تناوله نظراً إلى انقطاع الكهرباء عن برّادات وثلّاجات المورّدين أو المطاعم. وموضوع تلوّث الطعام ليس جديداً في لبنان بل هو أزمة تعود لعقود ولكنها بحسب خبراء مشكلة ستتفاقم بشكل كبير بسبب انقطاع الكهرباء عن المنازل والمطاعم. ولكنّ المشكلة الأكبر اليوم أنّه ليس كلّ من يصاب بالتسمّم قادراً على تأمين الدواء ولا حتى دخول المستشفى سواء بسبب كورونا أو لعدم قدرته مادّياً. فتروي علياء لـ”المفكرة” أنّها أصيبت بإسهال حاد وأوجاع كبيرة في المعدة بعد ساعات من تناولها طعاماً طلبته من مطعم مشهور على اعتبار أنّ شهرته ضمانة لجودته، ونصحتها طبيبتها بدخول المستشفى لأنّ عوارضها تدلّ على إصابتها بالتسمّم ولكن هواجس كورونا منعتها من اتّخاذ ذلك القرار. تضيف: “قصدت أكثر من صيدلية بحثاً عن أدوية للإسهال ومسكّن للألم ومصل لأعوّض السوائل التي أخسرها، وحين لم أجد نصحتني الطبيبة بشرب “سڤن آب” وGatorade لتعويض السوائل”. وتُتابع “بعد أيّام من الألم المبرح في المعدة وجدت دواء ساعد في إنهاء الإسهال ولكن بقي جسمي منهكاً لأيّام وأصبت بتشنّجات في عضلة المعدة نتيجة ضغطي المتواصل على بطني في محاولة يائسة لتخفيف الألم”.
علياء واحدة من عشرات الأشخاص من حولنا الذين نسمع يومياً بإصابتهم بالتسمّم والذين لم يدخلوا المستشفى خوفاً من كورونا أو الفواتير المرتفعة وبالتالي لم تسجّل إصاباتهم لدى وزارة الصحّة التي تقوم عادّة بإحصاء حالات التسمّم الغذائي عبر المستشفيات. وتقول مديرة الوقاية الصحية في وزارة الصحة وأخصائية سلامة الغذاء د. جويس حدّاد إنّ “الوزارة لا تعرف بجميع حالات التسمّم لأنّ ليس جميع الناس يشتكون إليها كما أنّ حالات عدّة لا تدخل المستشفيات”. وبالفعل فوزارة الصحّة رصدت في العام الحالي 32 حادثة غذائية نتج عنها 210 حالات تسمّم فقط، بينما رصدت عام 2019، 645 حالة من أصل 70 حادثة غذائية. في المقابل تؤكّد الصيدليات أنّ الأعداد أكبر بكثير حيث تبيّن بعد اتصالنا بعدد من الصيدليات في بيروت توافد يومي لأشخاص يعانون من عوارض تسمّم. وأحصت إحدى الصيدلانيات في اتصال مع “المفكرة” يومياً خلال دوامها شخصاً من بين كلّ ثلاثة أشخاص يدخلون الصيدلية يسأل عن أدوية إسهال وغثيان وتقيّؤ وهي عوارض تسمّم غذائي ومعظمهم يقولون إنّهم أكلوا في مطعم وبعضهم في البيت. وتقول الصيدلانية التي فضّلت عدم ذكر اسمها إنّ العدد أحياناً يكون أعلى خصوصاً في المساء فيدخل ثلاثة إلى أربعة أشخاص في الوقت نفسه يسألون عن أدوية تسمّم. وتشير إلى أنّ عدد من يطلبون المصل الذي يؤخذ بالوريد ارتفع كثيراً هذا العام لأنّ الناس تتفادى الدخول إلى المستشفى.
د. أنطوان الزغبي رئيس قسم الطوارئ في مستشفى “أوتيل ديو” يقول في اتصال مع “المفكرة” إنّ عدد الإصابات بالتسمّم التي تدخل المستشفى ليست أعلى من العام الماضي لكن الملفت هذه الفترة أنّ العوارض أقسى. وهو أمر يلتقي مع ما يلاحظه البروفيسور د. عصمت قاسم، مسؤول مركز سلامة الغذاء في الجامعة الأميركيّة في بيروت عن تصاعد الاعتماد على الكوليستين وهو مضاد حيوي يُستخدم في الحالات شديدة الخطورة أي حين لا يستجيب المريض للمضادات الحيوية العاديّة. وهو أمر برأيه “يُنبئ بنمو بكتيري كبير مقاوم للمضادات الحيوية على المواد الغذائيّة”.
ويحذّر د. أنطوان الزغبي من فقدان الأدوية الخاصّة بالتسمّم سواء في الصيدليات أو المستشفيات حيث يقول: “نستغرق وقتاً للعثور على العلاج لذلك فمن كان يحتاج إلى يومين أصبح يستغرق أيّاماً للشفاء”. ويلفت إلى أنّ التسمّم الغذائي منتشر في لبنان بشكل عام منذ ما قبل الأزمة نظراً إلى عادات الأكل السيئة للبنانيين وغياب الرقابة على المواد الغذائية والمطاعم.
ويوضح د. عصمت قاسم بدوره بأنّ الطارئ اليوم بخصوص سلامة الغذاء “أنّنا في بلد مقطوع من الكهرباء ومن الأدوية بخاصّة المضادات الحيوية وإن حصل تسمّم غذائي فله عواقب خطيرة على المريض”. ويلفت إلى أنّ “الأشخاص الأكثر عرضة للخطر هم كبار السن والأطفال وذوي المناعة المنخفضة”. ويشرح بأنّ “الموضوع ليس لإخافة الناس وإقلاقهم إنما بهدف التحذير من مخاطر انقطاع الكهرباء على الغذاء والتي يُمكن توخّيها عبر بعض الإجراءات التحذيرية”.
المشكلة تتفاقم منذ عام 2015: دراسة حديثة على جبنة العكاوي
د. قاسم كان مشاركاً في حملة سلامة الغذاء 2015 – 2017 التي أطلقها وزير الصحّة الأسبق وائل أبو فاعور. حينها أخذت الوزارة 13 ألف عيّنة غذائيّة وأخضعتها للتحاليل، ويأسف لأنّ الوزارة “لم تستفد من نتائج التحاليل المخبرية من أجل دراستها من دون أن نفهم الأسباب، فأخذنا في مركز سلامة الغذاء في الجامعة الأميركية تلك النتائج ودرسناها ووصلنا إلى معلومات هامّة استفدنا منها للمقارنة مع دراسات لاحقة”. ويلفت إلى أنّ كلّ شيء يُشير إلى أنّ “المشكلة تتفاقم”. ويوضح أنّ التلوّث الجرثومي هو فيروسات وبكتيريا وطفيليات تتكاثر على الأطعمة، لافتاً إلى أنّ العديد من الفيروسات لا يوجد لها تحاليل بعد في لبنان. وعليه، ما يقومون به في المركز هو البحث عن “مؤشرات” أي الجراثيم التي تؤشر إلى وجود أنواع أخرى من البكتيريا مثل الإيكولاي.
ويشرح د. قاسم أنّ الألبان والأجبان من أكثر الأطعمة الحسّاسة تجاه الحرارة، وإنّ أحدث الدراسات التي أجراها المركز كانت على عيّنات من جبنة العكاوي التي أُخذت من مصادر متعدّدة في نطاق بيروت فقط، وذلك نتيجة صعوبات الوصول إلى المناطق الأخرى في ظلّ انقطاع البنزين. ويؤكد د. قاسم أنّ النتائج أخبرتنا أنّه يوجد تلوّث عال بالبكتيريا الاشريكية القولونية التي تسبب التسمم الغذائي في جبنة العكاوي، ووجدنا على بعض العيّنات تلوّثاً عالياً تخطّى المعدّل المقبول المعترف به من مؤسّسة المواصفات والمقاييس اللبنانيّة “ليبنور” 70 مرّة”. فتُظهر النتائج التحليلية على عيّنة مأخوذة من سوبرماركت في منطقة ساقية الجنزير في بيروت أنّ عدد البكتيريا وصل إلى 79600 في حين أنّ العدد المقبول هو ما بين 100 إلى 1000. ما يعني أنّ التلوث زاد عن حدّه 78.600 مرّة. ويلفت إلى أنّ “هذه من أخطر الأرقام التي شهدناها”.
من جهتها تشرح د. جويس حدّاد بأنّ “مسألة سلامة الغذاء تتفاقم مع انقطاع الكهرباء عن سلسلة التبريد على المواد الغذائيّة التي لا يمكن تخزينها من دون برادات”. ومع ذلك، تُشير إلى أنّه لا يُمكن بالتحليل المخبري ربط التكاثر الجرثومي على أطعمة معينة بانقطاع الكهرباء، كون التحاليل المخبريّة لا تقول لنا سبب التكاثر الجرثومي بل نوعية الجراثيم وعددها. ومع ذلك، فإنّنا نؤكد أنّ انقطاع الكهرباء بهذا الشكل اليوم ممكن أن يكون مؤشراً إلى التكاثر الجرثومي والبكتيري وبتفاقم المشكلة.
هل تقوم وزارة الصحّة بدورها في حماية سلامة الغذاء؟
تؤكد د. جويس حدّاد أنّ موضوع سلامة الغذاء يرتبط بمهام أكثر من وزارة، ويأتي دور وزارة الصحّة حين تتلقّى شكاوى من مواطنين عن حصول تسمّم غذائي، فتتعقّب حالة المريض عبر فهم نوعيّة الأطعمة التي تناولها، كما إجراء الاختبارات اللازمة له ثم إجراء كشف على مصدر الأغذية، وغالباً ما تتخذ إجراءات بحق مصدر الغذاء في حال تبيّن أنّه خالف المعايير المطلوبة لسلامة الغذاء. وتلفت إلى أنّه حصل في مرّات عدّة إغلاق محال أو إنذارها بعد الكشف عليها وتبيان النتيجة التي تؤكّد عدم التزام المحل بالمعايير المطلوبة، وتعطي أمثلة على حصول هذا النوع من الاجراءات بحق بعض الملاحم.
وتؤكد بأنّ وزير الصحة حمد حسن أعطى التوجيهات لتكثيف العمل في مجال سلامة الغذاء، ولأجل العمل لتفادي الغش الغذائي، كما أنّ الدور ستقوم بالتنسيق مع الجهات المعنية لتنفيذ خطة قريبة في هذا الخصوص سيتم الإعلان عنها لاحقاً”.
وتشرح أنّ “الوزارة تقوم بالكشف الدوري على المحال التي تبيع مواد غذائية، لكنّها تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال فهي غير قادرة على القيام بعدد كبير من الكشوفات”. وتُضيف: “الوزارة منذ عامين تضع كل طاقاتها في مجال مواجهة فيروس كورونا، وهو الأمر الذي تختصّ به وحدها فلا يمكن لأي جهة رسمية أخرى أن تؤدي هذا الدور بدلاً عنها، على خلاف موضوع سلامة الغذاء الذي تتولّى الرقابة عليه أكثر من جهة”.
كما وتواجه الوزارة تحديّات أخرى تتعلّق بعدم القدرة على تأمين كشوفات أكثر لأسباب منها: أوّلاً، أنّ مفتشي الوزارة عددهم قليل لا يتعدّى خمسين مراقباً، وهم يحصلون على رواتب باتت لا تؤمّن حاجاتهم، فيما هم غير متفرغين لهذا المجال إذ يعملون في مهام أخرى داخل الوزارة كالكشوفات على الشكاوى وتراخيص المؤسسات والرقابة على المختبرات ومؤسسات التجميل. كما تلفت د. جويس إلى أنّ “الوزارة تفتقر لمختبر مركزي خاص بها، وهي حين تقوم بالاختبارات عبر عقود مع مختبرات خاصّة وهذا الأمر يحتاج لإماكانيات مالية لتمويله”.
ماذا عن الجهات والوزارات المعنيّة الأخرى؟
يُسجّل في هذا المجال غياب الرقابة والتوعية من جانب الوزارات المعنيّة بسلامة الغذاء وحماية المستهلك، مع استمرار تلكّؤ الحكومة عن إصدار المراسيم التطبيقية لقانون سلامة الغذاء رقم 48 الصادر في العام 2015 الذي نصّ على تشكيل الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء من دون أن تُشكل حتى اليوم، وأمام عدم تفعيل “المجلس الوطني لحماية المستهلك” المرتبط بقانون حماية المستهلك الصادر عام 2005، وهذا المجلس لو قرّر وزير الاقتصاد يمكنه أن يُطلق حالة طوارئ اليوم لحماية المستهلكين، بحسب الخبيرة في السلامة الغذائية في جمعية حماية المستهلك د. ندى نعمي. وتشدّد على أنّ “المسؤولية أيضاً تقع على جهات عدّة من بينها وزارات الصحة والاقتصاد والسياحة والصناعة والزراعة كما البلديات أيضاً لها صلاحيات في مراقبة سلامة الغذاء ضمن نطاقها”، إضافة إلى المالية والزراعة والداخلية والبلديات، إضافة إلى مؤسسة ليبنور والمجلس الوطني للبحوث العلمية.
تردّ كلّ من وزارة الاقتصاد والتجارة ووزارة الصحّة العامّة أنّ التدخل الذي تقومان به اليوم غالباً ما يحصل عند تلقّي الشكاوى من المواطنين عن حصول حالات تسمّم غذائي لتقوما بالتحقيقات اللازمة.
ويشرح مدير عام وزارة الاقتصاد محمود أبو حيدر بأنّ “الوزارة تتدخل حين تتلقى شكاوى من المواطنين عبر الخط الساخن تشكو تعرّضهم للتسمم الغذائي بعد تناولهم من استهلاك معيّن، ونحن كنّا نقوم بأخذ عينات من المحال وثم فحصها وبعدها اتخاذ الاجراءات اللازمة بحق المحال التجارية أو الملاحم و محال بيع الدجاج التي لا تسوتفي الشروط” من دون أن تكون هذه الاجراءات مرتبطة مؤخراً بارتفاع التقنين. ويعتبر أنّ الحل يكمن في تأمين الكهرباء متوجهاً إلى وزارة الطاقة بأن تقوم بتأمين المازوت للسوبرماركت على الأقل.
ومن الخطوات القليلة التي اتخذتها وزارة الاقتصاد في هذا المجال كانت حين تلقت شكوى من مواطن اشترى علبة بازيلاء وحين فتحها كانت تطفو عليها رغوة بيضاء. فقامت الوزارة بحسب أبو حيدر “بأخذ عيّنات من البازيلاء من مصادر مختلفة لإجراء التحاليل عليها وتبين أنّها غير مطابقة للحدود الجرثومية المقبولة، فاتخذ القرار بسحبها من السوق”.
من جهتها، تشدد د. ندى نعمي على أنّ “سلامة الغذاء ليست عملاً لحظياً، إنّما هو نشاط مستمر على الجهات المعنية أن تقوم به بشكل يومي من دون توقف، فالتسمم ليس مزحة ويؤدّي إلى الموت أحياناً، وهو عمل لا يُختصر فقط في التحقيقات التي تجريها الوزارات حين تتلقى شكاوى على الخط الساخن”.
تؤكد د. ندى نعمي على أنّه في أبسط الأحوال، “نتوقع من البلديات اليوم أن تفعّل نشاطها في هذا المجال، وأن تكون جهاز مراقبة على الدكاكين والسوبرماركت من دون أن تشعر بالحرج، فهذا الموضوع يتعلّق بسلامة الناس”. وعليه، “على البلدية أن تتأكّد بأنّ المحال التي تنقطع عندها الكهرباء لا تبيع البضائع لأنّها تعتبر بضائع تالفة”.
وتُدين تلكّؤ الدولة منذ العام 2015 حين صدر قانون سلامة الغذاء فلم تقم بتفعيله وكان مجرّد واجهة لإنجاز وهمي يُضاف إلى إنجاز آخر لم تستفد منه الدولة، هو إنشاء اختصاص سلامة الغذاء منذ أكثر من 10 سنوات في المعاهد الرسمية التي تخرّج سنوياً 120 متخصصاً في الرقابة لم تستفد منهم البلاد، وهؤلاء يتخرّجون ويتّجهون للعمل في مجالات مغايرة لتخصّصهم للأسف، بحسب تعبيرها.
في غياب الرقابة المواطن رقيب نفسه: توصيات من خبراء لسلامة الغذاء
يتّفق كلّ من ندى نعمي ود. قاسم على أنّ مسؤولية التوعية في مجال سلامة الغذاء هي مسؤولية الدولة، إنّما بسبب تلكّؤها عن القيام بعملها يسعى كلّ شخص بتقديم المعلومات التي لديه ليستفيد منها المواطنون. إذ يوصي د. قاسم بـ “ضرورة التوقّف عن تناول الأطعمة النيئة، أي طبخ اللحوم وحتى الأجبان، وشراء المواد الغذائية من مصادر موثوقة”. ويضيف: “نقول هذا الأمر ونحن على أبواب أزمة انقطاع الغاز أيضاً”.
من جهتها، تشرح ندى نعمي بأنّ “غياب الكهرباء المتقطّع خطر أيضاً لأنّه حين ترتفع حرارة البرّاد تبدأ الجراثيم بالتكاثر وتتوقف حين تعود الكهرباء لتعود وتنشط حين تنقطع، وعلى المستهلك الانتباه لهذه المخاطر ومراقبة درجة حرارة البرّاد في غياب الكهرباء”. وتُتابع، “من الضروري ألّا ترتفع درجة الحرارة عن الخمس درجات وإلّا أصبحت الأطعمة في خطر التسميم، كما على الناس أن تطبخ طعامها على حرارة لا تقلّ عن 65 درجة مئوية”. ومن ناحية الاستهلاك، توصي نعمي بأن يلجأ الناس إلى شراء الأطعمة التي لا تحتاج لتبريد واللحوم الطازجة من مصادر موثوقة وطهيها مباشرة. كما تلفت إلى ضرورة الابتعاد عن الخضار المثلجة واستبدالها بالمجففة.
وبدورها، تشير د. جويس حداد إلى “ضرورة استبدال الأطعمة بأخرى تتحمّل الحرارة وتلفت إلى أمثلة منها استهلاك اللبنة المحفوظة بالزيت بدلاً من اللبنة العاديّة، ونقع الأجبان بمزيج مالح يخفّض تكاثر البكتيريا، وطبخ اللحوم على أنواعها جيّداً، وتخفيض نسبة فتح البراد أثناء انقطاع الكهرباء، وبأفضل الأحوال اعتماد المأكولات التي لا تحتاج إلى تبريد”.
الأزمة تضرب المشاريع الصغيرة
انقطاع الكهرباء باستمرار مضافاً إلى التغيير في النمط الاستهلاكي، انعكس أيضاً على أصحاب المشاريع الصغيرة الذين يعملون في مجال الأطعمة الجاهزة التي تحتاج إلى تبريد. أم كريم التي تعمل في إنتاج المونة والطعام الجاهز في الضاحية الجنوبية، أتت الأزمة على قسم كبير من إنتاجها وبالتحديد الأطعمة المعدّة مسبقاً والتي تحفظ مثلّجة مثل الرقاقات والكبّة والمعجّنات. وتشرح لـ “المفكرة”: “كنت أحضّرها بشكل مسبق فتكون جاهزة حين يطلبها الزبون، اليوم ما عدت قادرة على تأمينها إلّا عند التوصية وأبيعها في اليوم نفسه”. تُضيف: “منذ شهر والكهرباء تنقطع بشكل كثيف، لذلك اضطررت للتوقّف عن تخزينها”. وتتابع، “في السابق كنت أبيع عدّة طلبيات في اليوم نفسه لأنّ لديّ وفراً في الثلاجة، اليوم لا أعدّ سوى طلبية واحدة وأرسلها مباشرة للزبون ولا أتركها عندي”. وتشرح أم كريم أنّ “الزبائن ما عادوا يطلبون كالسابق، اليوم فقط الزبون الذي لديه عزيمة أو مناسبة يطلب، ولكن بكميات محدودة جداً”. وهذا انعكس تالياً على حجم إنتاجها ومدخولها، وهو أمر ينسحب على العديد من النساء اللواتي دخلن معترك الإنتاج في السنوات الأخيرة من خلال مشاريع صغيرة تكون مطابخهنّ هي المعامل فيها والبرّادات هي أماكن التخزين.
ومن بين هؤلاء مطبخ في رأس النبع، يعدّ وجبات يومية ويُرسل إلى زبائنه يومياً لائحة الطبخات التي تعدّها سيّدتان. منذ بداية الأزمة بدأ عدد الأكلات على اللائحة بالتناقص وصولاً إلى التوقف قبل نحو الشهر عن إرسال أي لوائح إلى الزبائن. ولدى الاستفسار قال لنا المسؤول عن التواصل مع الزبائن “أغلقنا منذ نحو الشهر بسبب انقطاع المازوت والبنزين، نحن غير قادرون على تأمين الكهرباء للبرادات ولا البنزبن لتوصيل الديليفيري”. وأضاف: “قررنا الإقفال المؤقّت ريثما تنفرج أزمة المحروقات وكي لا نسقط في فخ تراجع الخدمة”.
في بيروت مثلاً بات مشهد المطاعم المقفلة اعتادياً، فيما بعض الحانات والمطاعم التي لا تزال تفتح أبوابها، تستخدم إضاءة خفيفة، وبعضها أطفأ المكيّفات وآخر قلّص لائحة الأصناف التي يقدّمها. يوضح الأمين العام لاتحادات النقابات السياحية أنّ “المطاعم الصغيرة تأخذ الكهرباء من اشتراكات الموتور، أمّا المطاعم الكبيرة التي تمتلك مولداتها الخاصّة، فتُحاول قدر المستطاع الاستمرار عبر تأمين المازوت المتوفر عبر المحطات بكميات قليلة أو السوق السوداء ذات الأسعار المرتفعة”. ويُشير بيروتي إلى أنّ “المطاعم قلّصت عدد مشترياتها وباتت تعتمد سياسية المشتريات اليومية التي تكفي حاجتها ليوم واحد، كما خفّضت عدد الوجبات”. ويؤكد أنّ “المؤسسات التي لم تتمكّن من تأمين الكهرباء أغلقت أبوابها، لأنّها لا تريد تعريض سلامة الغذاء لديها للخطر كونها تهتم بسمعتها قبل كل شيء”.
وعليه، يؤكد بيروتي عدم ثقته بأي وعود من الدولة اللبنانيّة، مشيراً إلى أنّ “الدولة غير قادرة اليوم على تأمين الحلول، علماً أنّ القطاع السياحي من أهم القطاعات التي يجب الحفاظ عليها في هذه الظروف”. يُضيف، “تمكنّا هذا العام من إدخال ثلاثة مليارات دولار على البلاد، ومع ذلك لم نجد الدولة تؤدي أي دور لحماية القطاع وضمانة استمراريته، لا بل على العكس، أصدرت وزارة السياحة تعميماً بمنع أي زبون بدخول المطاعم إلّا إذا كان ملقحاً فيما المستغرب أنّ المفتشين الّذين تُرسلهم غير ملحقين”. هذا عدا عن أنّ التعميم لم يطبّق أساساً.
الدكاكين vs السوبرماركت
البرّادات الفارغة يمكن ملاحظتها في الدكاكين الصغيرة أيضاً التي تحصل على الكهرباء من اشتراك الموتور في الأحياء كذلك الملاحم ومحلّات الدواجن والباتيسيري. وقد دفع التقنين العالي بعدد كبير من المؤسّسات الصغيرة إلى إغلاق أبوابها سواء مؤقتاً بانتظار تأمين المازوت أو نهائياً بعد أن ضربت الأزمة الاقتصادية معطوفة على أزمة المحروقات عملها، حيث أصبح خبر إغلاق محلّ أو متجر خبراً يومياً ومشاهد الجرّارات الحديد المغلقة مشهداً مألوفاً.
في المقابل تنعم السوبرماركت الكبيرة بالكهرباء بشكل دائم كونها تعتمد على مولّداتها الخاصّة، حسبما يؤكد رئيس نقابة أصحاب السوبرماركت نبيل فهد لـ “المفكرة”. ويلفت فهد إلى أنّ “معظم السوبرماركت تشتري المازوت من السوق السوداء، وتعمد إلى تقليص الإضاءة والمكيفات في بعض الأقسام لتوفير المازوت”، وشرح بأنّ “الأولوية لسلامة البضاعة التي تحتاج لتبريد، وأنّ السوبرماركت يقوم بإيصال البرّاد بالكهرباء طيلة الوقت”. ولكن في الوقت نفسه “خفّضت السوبرماركت أعداد المواد الغذائيّة التي تحتاج لتبريد وما عادت تطلبها من المورد كما في السابق”. ومنذ نحو الشهر أصدرت وزارة الصناعة قراراً بعد اجتماع مع رئيس الجمهورية يسمح للصناعيين استيراد مادّة المازوت مباشرة لتأمين استمراريّة عملها، وعليه، يؤكّد فهد أنّ “نقابة أصحاب السوبرماركت طلبت الأمر نفسه لكن وزارة الصناعة قالت أنّه يجب أن يكون لدينا رخصة صناعية ليُسمح لنا بذلك”.