يصعب على متابع من خارج تونس فهمُ ضعف حماسة الشارع التونسي في الدفاع عمّا سُمِّيَ في المنطقة الاستثناء الديمقراطي يوم 25 جويلية 2021، وهو يوم تفرّد شخص واحد بحكم بلده. ولئن كان الحديث عن شعبيّة الفاعل – أي الرئيس سعيِّد – أو عن الظاهرة الشعبوية التي يمثّلها أو تفشّي الفساد في البرلمان وضعف الحكومة هي من الأجوبة التي قُدِّمت في محاولات التفسير والشرح، فإنّنا نظنّ أنّ تعميق البحث قد يكشف عن أسباب هيكلية أكثر عمقاً. ومن أهمّ الأمور الجديرة بالبحث في هذا الخصوص، القضاء الذي شكّل إحدى ورش العمل الكبرى في مسار البناء الديمقراطي. وأوّل ما نلحظه في هذا الإطار-الخطاب سطوة القيم القطاعية والإفراط في التركيز على تطوير هيكلة المؤسّسات في مقابل تغييب فكرة البحث عن نجاعتها والبطء في تنزيل وعود الإصلاح نتيجة الاهتمام بالتموقع والمصالح.
دولة القطاعات كانت عنوان الأزمة الأوّل
في 2011[1]، بدت قصور العدل عنواناً لفخر المحتفين بالثورة، لما كان من دور للمحاماة في قيادتها وما ظهر من حماسة وسط القضاة وهياكلهم لقيمها. لم يمنع هذا الأمر التطوّر السريع لخصومات بين مكوّنات المشهد القضائي طغت على ما سبق وحاول المتخاصمون فيها تلبيس بعضهم البعض بوصف الفساد والانتهازية. فكان أنْ اتُّهم المحامون بمناسبة تمريرهم المرسوم الخاصّ بمهنتهم من قِبل القضاة وعدول الإشهاد[2] والمؤتمنين العدليين بالانتهازية واستغلال السلطة للإضرار بمكتسبات غيرهم من القطاعات وفرض أنفسهم متحكّمين في العدالة[3]. وكان أن اتّهم محامون نشطوا في مكافحة الفساد زملاء لهم باستعمال شعارات الثورة في ابتزاز أصحاب الأعمال والسياسيين المحسوبين على النظام القديم. وقد حصل كلّ ذلك في السياقات ذاتها التي كان القضاة يوجّهون فيها الاتّهام إلى المحامين باستعمال الإضرابات للتغطية على فساد زملاء لهم ومنع ملاحقتهم أمام القضاء، والمحامون يوجّهون فيها الاتّهام إلى القضاة بتعطيل مرفق العدالة في إضرابات غايتها تحقيق مكاسب مالية لهم.
وإذ تطوّرت، بفعل التضامن القطاعي ما بعد الثورة، وضعيّة العاملين في العدالة أدّى ذلك إلى انقسامات وصراعات عطّلت في كثير من الأحيان مرفق القضاء ومسّت صورته لدى المتقاضين الذين باتوا يسمعون عن الإصلاح في وقت لا يلمسون فيه إلّا آثار فوضى المعارك القطاعية.
غبار فشلٍ غطّى على إصلاحٍ نوعي..
خلال السنوات العشر من البناء الديمقراطي، تمّ إرساء ضمانات دستورية وقانونية هامّة لاستقلاليّة القضاء ونشر ثقافة المحاكَمة العادلة بشكل واسع في أوساط المتدخّلين في مرفق العدالة. كما خُصّصت استثمارات هامّة لإحداث تطوير نوعي في البناءات والتجهيزات والإطار البشري للمحاكم والمؤسّسات السجنية. وكان ذلك مُنجزاً هامّاً لكنّه لم يكن ما لمسه المواطن في تعامله اليومي مع مرفق العدالة.
قبل الثورة، أمّنت رقابة السلطة السياسية على عمل القضاء سرعة معتبرة في فصل القضايا. كما كان حافزاً لضمان حسن سير المرفق القضائي بفعل ما فرضته من انضباط مهني في الالتزام بمواقيت العمل على جميع المتدخّلين. في إثرها، لم تنجح منظومة الإدارة الذاتية التي تطوّرت في إيجاد آليّات ناجعة تضمن التزاماً مماثلاً. وكان من أثر هذا تطوّر ظاهرة التأخير غير المبرَّر في فصل القضايا، خصوصاً في عمل المحكمة الإدارية. وهذا ما نبّهت إليه المفكّرة القانونية في دراسة أنجزتْها انطلاقاً من قضايا مجموعة براكة الساحل؛ وقد كشفتْ فيها أنّ حصول المتقاضي على نسخة قانونية من حكم يتعلّق به يحتاج انتظار فترة تتراوح بين السنة والسنة والنصف من تاريخ صدوره، وأنّ معدّل نشر القضايا يتجاوز عشر سنوات[4]. وهي أمور قد يصحّ وصفها بالإنكار الفعلي للعدالة لفقدان الأحكام التي تصدر بعد فوات وقت طويل كلّ أهمّيّة عملية. وربّما، في السياق ذاته، كان فشل القضاء في التعاطي مع ملفّات الفساد من العوامل التي فاقمت أزمة صورته لدى الرأي العامّ.
قضاء فاسد لم يحاكم الفاسدين: تهمة مسّت الثقة العامّة في القضاء
بمقتضى نص الفصل الأوّل من القانون عدد 77 المؤرّخ في 06 ديسمبر 2016 استُحدث لدى محكمة الاستئناف في تونس قطب قضائي اقتصادي ومالي يختصّ بالبحث والتتبّع والتحقيق والحكم في الجرائم الاقتصادية المتشعّبة. وقد اعتُبر ذلك في حينها إنجازاً مهمّاً من شأنه أن يُحسّن السياسات القضائية في مكافحة الفساد لما قيل عن حاجة قضاياها إلى خبرة خاصّة وتفرّغ في العمل عليها. تالياً، وبعد فترة طويلة نسبياً من عمله، لم يحقّق القطب ما كان يُنتطَر منه لبطء عمله وغياب الجرأة حيال من يُتَّهمون بالفساد وتطوُّر الحديث حول استخدامه في التصفيات السياسية للخصوم من قِبل النافذين.
لا يُعلَم هنا إن كان الاتّهام بالتقصير الذي نُسب لقضاء مكافحة الفساد مؤسَّساً على معطيات موضوعية أم أنّه استند إلى شبهات لا غير. ومردّ هذا الأمر إلى عدم نشر القطب إحصائيات حول نشاطه وعدم انفتاح نيابته على الإعلام، ممّا ولّد الشبهة وعزّزها. لكنّ المؤكّد أنّ اقتران تصدُّر مَن يُتَّهمون بالفساد المشهد السياسي وغياب الملاحقات القضائية الجدّية ضدّهم، مع ما بات يُتداوَل من تطوّر لظاهرة الفساد القضائي بدون محاسبة، عوامل عزّزت الأزمة بما يُستفاد منه أنّ مجلس القضاء الذي كان يُظنّ أنّه مَن سيصلح في القضاء كان من أسباب العجز.
مجلس القضاء: مكسب أسيء استعماله
قبل الثورة، استعمل النظام السياسي إدارة المسار المهني للقضاة أداة لصناعة قضاة مُنسجمين معه ميّزهم عن غيرهم من القضاة وخصّهم بالنظر في القضايا التي كان يتدخّل فيها. بعدها، وعلى ضوء ما كان من تجربة سابقة وتحت مفاعيل الرغبة في بناء القضاء أولت السلطة التأسيسية أهمّيّة خاصّة لفكرة إرساء مجلس أعلى للقضاء يكون الضامن لاستقلاليّة القضاء ويمنع التدخّل السياسي في المسار المهني للقضاة. وعبّرت بذلك أحكام الدستور الخاصّة به عن تلك القيمة، فكان أن خصّصت ثلاثة فصول من الدستور لمجلس القضاء الذي وُصف بكونه “يضمن حسن سير القضاء واحترام استقلاله”.
تالياً، كان مسار سنّ القانون الخاصّ بذاك المجلس الأكثر تعقيداً في تاريخ التشريعات التونسية لما ظهر من خلافات قطاعية أثناء نقاشه، ولما كان من حضور لافت للحسابات السياسية في تصوّره. كما كان بعد ذلك مسار تركيز الهيئة الأولى له متعثّراً أيضاً بفعل الصراعات بين هياكل القضاة التي كان من بعض خلفياتها تنازع السيطرة على المجلس. فاستنزفت وعورة طريق البناء جانباً هامّاً من الأحلام التي عُلّقت على المؤسّسة التي كان أداؤها سبباً في استنزاف جانب أهمّ منها.
كان يُنتظَر من أعضاء مجلس القضاء أن يبادروا بمجرّد مباشرتهم عملهم إلى صياغة نظام داخلي ينظّم عملهم و يكون عنواناً لشفافيّته وإيلاء موضوع مدوّنة سلوك القضاة الأولويّة اللازمة لما لها من دور في رسم صورة القاضي في المجتمع الديمقراطي. كما كان يؤمَل منهم فتح ورش إصلاح للقضاء تكون غايتها محاربة مظاهر الفساد صلبه وتعزيز قيم المحاسبة. لكنّهم لم ينجزوا شيئاً من ذلك رغم مضيّ أربع سنوات من عملهم، اكتفوا خلالها باستعمال ما لهم من استقلاليّة مالية لفرض مخصّصات مالية لهم بعنوان منح كانت معيّناتها الكبيرة وغير المبرَّرة صادمة للقضاة كما للمتتبّعين. كما تسبّب تالياً ما نُسب إليهم من استعمال للسلطة في التغطية على الفساد في زيادة ترذيل المؤسّسات الديمقراطية.
في 2021، كان الاهتمام الشعبي مسلّطاً بشكل كبير على ملفّ الفساد المالي الذي لاحقت شبهات التورّط فيه الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب التونسية الطيّب راشد وعلى ما سُمِّي بملفّ التغطية على الإرهاب الذي وجّه فيه الاتّهام إلى وكيل الجمهوريّة لدى المحكمة الابتدائية في تونس حينها بشير العكرمي. وكان أن لاحظ جميع متابعي عمل المجلس على الملفَّين غياباً كلّياً للشفافيّة وللمعلومة الرسمية. كما بدا واضحاً أنّ سبب ذلك هو انقسام المجلس إلى شقَّين متعارضَيْن يسعى كلّ واحد منهما إلى فرض براءة في ملفّ وتحقيق إدانة في الآخر. وقد شكّل ذلك دليلاً على تخبّط المجلس وعجزه عن فرض المحاسبة. كما أدّى إلى تعزيز الشكوك في نزاهته وبالتالي في قدرته على الإصلاح المطلوب للقضاء. وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في إرساء خطاب عامّ يدّعي أنّ المؤسّسات مجرّد أدوات حماية للفساد وأنّ الإطاحة بها سبيل للإصلاح. ويكون من المهمّ تالياً التنبّه إلى محرّكات ردّ الفعل تلك وقد بدأت تنحسر مع مضيّ الوقت لكيْ يكون الدفاع عن الديمقراطية، وقد عاد صوته إلى الارتفاع، مناسبة للدعوة إلى إصلاح عميق يخلّصها من أعدائها وضمناً من علل تجربة إرسائها. فيكون تشخيص علل تجربة الإصلاح في جبهة القضاء وغيرها سبباً في مواصلة البناء الديمقراطي لا عملاً غايته هدم المنجز بحثاً عن منطلقات جديدة كما تنذر بذلك خطب الرئيس سعيِّد ومَن يناصرونه. فنحن بكلّ بساطة ربّما أخطأنا لكن لم نضلّ الطريق: فقضاء تونس بعد ثورتها أفضل منه قبلها وتونس وقد استحالت أرض حرّيّات أجمل ممّا كانت عليه زمن الاستبداد.
نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
زلزال ديمقراطيّة فتيّة
[1] يراجع لتعميق البحث في الفكرة للكاتب: “القضاء التونسي خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي“؛ منشورات المفكّرة القانونية، 2016.
[2] عماد عميرة؛ “مشروع المرسوم المتعلّق بمهنة المحاماة اعتداء صارخ على مهنة عدول الإشهاد”؛ وكالة تونس أفريقيا للأنباء، 10 ماي 2011.
[3] للاطّلاع على الجدل الذي أُثير: “مرسوم مهنة المحاماة …كيف ينظر إليه المحامون والقضاة؟”؛ صحيفة التونسية، 28 جوان 2011.
[4] “الزمن القضائي بالمحكمة الإدارية وقد استحال إنكاراً للعدالة: قضيّة براكة الساحل نموذجاً”؛ المفكّرة القانونية-تونس العدد 20.