لأزمة القضاء وجوهٌ وتفاصيل كثيرة طبعًا، بعضها سياسيّ وإداريّ يتّصل بتنظيم القضاء والتدخّلات السافرة في شؤونه وبعضها ماليّ واقتصاديّ واجتماعيّ تمثّل في تراجع القيمة الشرائية لرواتب القضاة والإضرابات المتكررة فضلًا عن تعليق المهل. وبعضها قانونيّ يتّصل بالهرمية المفرطة في تنظيم النيابات العامّة، وبعضها إنسانيّ يتّصل بالتأثيرات المختلفة الناتجة عن مجمل العوامل تلك على إرادة القضاة وتطلّعاتهم. لكن العنوان الأكبر الذي يفرض نفسه هو الظلال السوداء التي ألقتها المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية على القضاء منذ بداية 2022 بعد تحوّلها إلى سلاحٍ بإمكان أيّ مُتقاضٍ استخدامه لتعطيل القضاء وعمليًّا لنسف سلطته ودوره وتاليًا مبدأ فصل السّلطات برمّته. إذ بفعل هذه المادة، بات التعطيل امتيازًا لكلّ مدّعى عليه، مع ما يستتبع ذلك من تقويض للعدالة ومأسسة للإفلات من العقاب.
تمّ ذلك بعدما بلغ أكثر من نصف رؤساء غرف التمييز سنّ التقاعد ممّا أفقد الهيئة العامّة لمحكمة التمييز المكوّنة من رؤساء هذه الغرف نصابها وتاليًا قدرتها على النظر في دعاوى المخاصمة. ويبقى تعطيل الهيئة العامّة على هذا الوجه قائمًا رغم مرور أكثر من سنتين ونصف منذ ذلك الحين بعدما أجهض مرّتين وزير المالية يوسف الخليل إقرار التشكيلات القضائية بتعيين بدائل عنهم وبعدما فقد مجلس القضاء الأعلى قدرته بفعل تسيّس العديد من أعضائه، على وضع تشكيلات جديدة. وعليه، فلئن كانت “مخاصمة الدّولة على خلفيّة أعمال القضاة” تؤدّي، عملًا بهذه المادة، إلى كفّ يد القضاة المشمولين بها عن النظر في القضية المعنيّة لفترة قصيرة بانتظار بتّ الهيئة العامّة لمحكمة التمييز في مدى جدّيتها، فإنّها باتت بعد فقدان هذه الهيئة نصابها، تؤدّي إلى كفّ أيديهم بصورةٍ شبه دائمة، أقلّه بانتظار إتمام التعيينات في رئاسات محكمة التمييز بموجب تشكيلات جديدة، وهو حدثٌ لا يوجد أيّ مؤشّر على حصوله في المستقبل المنظور.
وتاليًا، لم يعد يتعيّن على أصحاب النّفوذ التفنّن في وسائل الترغيب والترهيب لمنع القضاء من اتّخاذ أيّ قرار يناقض مصالحهم وضمان إفلاتهم وإفلات أتباعهم من العقاب. ولم يعد على أيّ منهم أن يجهد لتعيين هذا القاضي في هذا المركز أو لإقصاء ذاك عن ذاك المركز أو أن يجازف في افتضاح تدخّلاته أو الظهور مظهر المُعادي للعدالة أمام الرأي العام لضمان نفاذ إرادته في القضاء. كلّ ما عليه أن يفعله إجراء بسيط للغاية، غير عنفي ولا يعدو كونه، أقلّه من حيث المبدأ، تجلّيًا لممارسة حقّ الدفاع المضمون دستوريًّا: تقديم دعوى مخاصمة ضدّ القاضي النّاظر في القضية التي تعنيه على خلفيّة ما يعتبره خطأ جسيمًا. فبمجرّد تقديم هذه الدعوى، تكفّ يد القاضي تمامًا حتى ولو كانت دعوى المخاصمة مجرّدة من أيّ أساسٍ قانونيّ وتتحوّل أصابع الاتهام نتيجة ذلك، من الشخص النافذ المذكور إلى القاضي الذي يصبح هو المتهم بارتكاب خطأ جسيم.
وليس أدلّ على الاستخدام الخطير لهذه المادّة، من الوقاحة التي عبّرت عنها جهات عدّة في اللجوء إليها من دون أن تتكبّد حتى عناء التقصّي عن سبب جدّي لتقديمها ضدّ الدولة والقضاة المعنيّين. لا بل أنّ بعض هؤلاء ذهبوا إلى حدّ تقديم دعوى مخاصمة بالجملة ضدّ عدد كبير من القضاة بصورة استباقيّة على نحو يؤدّي إلى وأد التحقيقات في شبهة الأفعال المنسوبة إليهم قبلما تبدأ حتّى. وفيما دفعت النتائج العبثية التي وصل إليها تطبيق هذه المادة بعض القضاة إلى مواجهتها باجتهادات أو إجراءات تمكّنهم من تجاوزها حفظًا لحقّ التقاضي ذات القيمة الدستورية، فإنّ وقاحة الذين لجأوا إليها، وصلت حدّ التواطؤ مع كبار المسؤولين في الدولة لمحاصرة هؤلاء القضاة ضمانًا لإخضاعهم لنظام المادة 751 من دون أي اعتراض.
هذا ما سنعمل على تفصيله في هذا المقال.
اللجوء المنتظم إلى “مخاصمة الدولة”
في أصلها، كان يُفترض أنّ دعوى مُخاصمة الدّولة هي دعوى استثنائيّة، يتمّ اللجوء إليها فقط في حالات وجود “خطأ جسيم” هو في طبيعته نادر الحصول. لكن بفعل ما تقدّم، راج تقديم هذه الدعوى بعد تحوّلها من دعوى تستند إلى وجود أسباب جديّة تحت طائلة إهمالها بصورة شبه فورية إلى إجراء شكليّ يؤدّي، بمجرّد تقديمه، إلى تعطيل الملاحقات والتحقيقات القضائية بصورة شبه دائمة، من دون الحاجة لإثبات أي شيء. وفيما تمّ استخدامها أوّلًا من أجل تعطيل التحقيقات في قضية المرفأ، فإنّ نجاحها التعطيلي سوّق لها في أوساط المحامين الذين سارعوا إلى استخدامها في مجمل القضايا الهامّة اجتماعيًا، وبالأخصّ في قضايا حاكم مصرف لبنان والمصارف وبشكل أعمّ قضايا الفساد.
ومن أهمّ المؤشرات على الاستخدام السيّئ لهذه المادة، وفق ما رصدناه أو وفق المعلومات التي حصلنا عليها بشأن عدد دعاوى المخاصمة الواردة إلى الهيئة العامّة لمحكمة التمييز خلال الفترة الممتدّة منذ مطلع العام 2022 إلى شهر تموز من العام 2023 والتي بلغ مجموعها (132)، المؤشرات الآتية:
-تكثيف استخدام هذه الآلية لتعطيل التحقيقات الأوّلية والابتدائية الجارية أمام النيابات العامّة وقضاة التحقيق حيث بلغ عدد هذه الدعاوى في الفترة المذكورة 61 دعوى. كما تمّ استخدام هذه الآلية ضدّ مراجع قضائيّة ابتدائية، لتعطيل سير الدعاوى، علمًا أنّها استخدمت لكفّ أيادي قضاة في دعاوى تتبع الأصول المستعجلة مثل قاضي الأمور المستعجلة أو مجلس العمل التحكيمي أو دوائر التنفيذ. وقد بلغ عدد هذه الدعاوى 11 دعوى مخاصمة خلال الفترة المذكورة. وعليه، يكون عدد دعاوى المخاصمة بهدف وقف تحقيقات ودعاوى لا تزال في مراحلها التحقيقية أو القضائية الأولى قد وصل إلى 72 أي 55% من مجمل دعاوى المخاصمة.
-سجّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه والمشتبه فيهم بتحقيق ثروات من خلاله دعاوى مخاصمة في حقّ كلّ من النيابات العامّة التمييزية والنيابة العامّة المالية وكلّ من النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت وجبل لبنان، على حدة. وقد نجح من خلال ذلك، في كفّ أيدي النيابات العامّة الثلاثة الأولى عن مواصلة التحقيق والادّعاء ضدّه في شبهات الاختلاس وتقاضي عمولات وتبييض أموال (تقارب قيمتها نصف مليار دولار أميركي). إلّا أنّ سلامة امتنع في المقابل عن تقديم دعوى مشابهة ضدّ المحامي العام في بيروت رجا حاموش وذلك للإيحاء أنّ قضيّته يُحقَق فيها لبنانيًا وذلك بهدف تأخير وضع القضاء الأوروبي يده على كامل الملف. وإذ أخذت لاحقًا الهيئة الاتهامية في بيروت قرارًا باستجوابه مجدّدًا للنظر في طلب توقيفه، فإنّه سارع إلى الادّعاء ضدّ 3 هيئات للهيئة الاتهامية، ضمّت القضاة الأصيلين والمناوبين خلال العطلة القضائية، كما بادر قبل أيام إلى الادّعاء ضدّ هيئة رابعة تمّ تكليفها بمتابعة الدعوى قبل أن تضع يدها حتى عليها. وبنتيجة ذلك، ما تزال الدعوى معطّلة تمامًا.
-سجّلت المصارف ومدراؤها 7 دعاوى مخاصمة في تحقيقات ودعاوى ما تزال جارية، 6 منها ضدّ المحامية العامّة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون وواحدة ضدّ رئيسة دائرة التنفيذ مريانة عناني. ويلحظ أنّ هذه الدعاوى قدّمت أحيانًا ضمن مخطّط جماعي من المصارف لوقف التحقيقات في القروض التي حصلت عليها من قبل مصرف لبنان في فترة ما بعد الأزمة، ولإجهاض طلباتها بتطبيق قانون رفع السرّية المصرفية، كما حصل في شباط 2023.
-تمّ تقديم 3 دعاوى مخاصمة من متهمين في قضية المرفأ، 2 منها ضدّ محكمة التمييز الناظرة في طلب ردّ المحقق العدلي طارق بيطار، ممّا أدى إلى تأبيد كفّ يده بفعل تأبيد دعوى الردّ المقامة ضدّه. وفيما حاول التنصّل من كفّ يده من خلال ما أسميناه اجتهاد الضرورة بعدما تمّ تعطيله سنة كاملة، تمّ الادعاء عليه بجرم اغتصاب السلطة. وما يزال تحقيق المرفأ معطلًا منذ ذلك الحين.
-تمّ تقديم دعوى المخاصمة في عدد من قضايا الفساد، منها 3 في قضية النافعة.
انخراط كبار المسؤولين في إخضاع القضاة لنظام المادة 751
رغم المفاعيل العبثيّة لتطبيق المادة على هذا الوجه، انخرطت مرجعيات وجهات كان يفترض أن تكون الأكثر حرصًا على حسن سير العدالة أو على حقوق التقاضي والحق العام، في ضمان نفاذها وتحديدًا في مواجهة أيّ قاضٍ تسوّل له نفسه الاجتهاد للتفلّت منها.
أبرز الأدلّة على ذلك هو تكتّل القوى الهادفة إلى التصدّي لمسعى القاضية عون التفلّت من دعاوى المخاصمة من خلال رفض تبلغّها، بهدف إكمال التحقيقات في الملفّات العالقة أمامها، علمًا أنّ طلبات المخاصمة ضدّها بلغت 16 ملفًا في الفترة المذكورة أعلاه. التصدّي الأبرز في هذا الخصوص تمثّل في الكتاب الذي وجّهه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في تاريخ 22/2/2023 إلى وزير الداخلية بسام المولوي والنائب العام التمييزي السابق عويدات للإيعاز للضابطة العدلية وقوى الأمن الداخلي بعدم الاستجابة لمطالب عون في القضايا التي يثبّت أنها محلّ دعاوى مخاصمة. واللافت أنّ هذا الكتاب صدر عن ميقاتي بناء على طلب مصرفيْن اشتكيا لديه من متابعة عون التحقيقات معهما رغم تقدّمهما بدعوى مخاصمة في حقها وذلك خلافًا للمادة 751. وقد سارع ميقاتي إلى قبول طلبهما دفاعًا عمّا اعتبره واجبه في حماية الانتظام العام، وهو بذلك تحوّل إلى مرجع أعلى على القضاء. ولم يتأخّر المولوي وعويدات عن تأكيد موقفه في شأن مفاعيل المادّة المذكورة.
وقد بقيت المادة 751 تطارد عون كلّما تمسّكت بممارسة دورِها كنيابة عامّة، حيث استندت إحالتها إلى هيئة التفتيش القضائي كما الحكم التأديبيّ الصادر بصرفها من الخدمة على رفضها تبلغ دعاوى الردّ والمخاصمة، رفضًا لتعطيل عملها. وقد عادتْ المادة نفسها لتطاردها مؤخّرًا بواسطة النائب العام التمييزيّ المكلّف جمال الحجّار الذي أكد في كتاب وجّهه إليها في تاريخ 7 أيار: “على كتاب النائب العام التمييزي… التوقّف عن سير التحقيقات في كلّ الملفات التي قدّمت دعوى مداعاة الدولة عن أعمال القضاة إلى حين البتّ فيها”. وإذ لم تلتزم عون بهذا الكتاب، أصدر الحجّار في تاريخ 6/6/2024 قرارًا بمنع الضابطة العدلية من الاستجابة لأيّ طلب أو إشارة منها، وذلك بصورة مطلقة.
الشاهد الآخر هي الإجراءات المتّخذة ضدّ المحقّق العدلي طارق بيطار ردًا على الاجتهاد الذي أخذه بهدف التحرّر من تعطيل دعوى المخاصمة ودعاوى الردّ. وقد جاء الردّ هذه المرّة من قبل عويدات من خلال الادّعاء على بيطار بجرم اغتصاب السلطة، بحجّة أنّه وضع يده على الملف رغم أنّ يده مكفوفة عنه بموجب دعاوى المخاصمة والردّ المقدّمة في هذا الشأن. كما أصدر عويدات أمرًا بمنع سفر المحقق العدلي (سارع الأمن العام إلى تنفيذه) وأمرًا آخر إلى الضابطة العدلية برفض الاستجابة إلى أيّ من إشارات بيطار (وهي ما تزال سارية حتى اليوم تبعًا لامتناع النائب العام التمييزي بالتكليف الحجّار الرجوع عنها). ومنذ ذلك الحين، تعطّلت مجددًا قضية المرفأ.
فكأنّما القضاة باتوا أمام خيار الخضوع لنظام المادة 751 طوعًا أو التعرّض لإجراءات تنتهي إلى إخضاعهم لها قسرًا، من دون أي مجال للاجتهاد لإعادة المعنى لهذه المادة التي خرجت تمامًا عن الغاية التي وضعت من أجلها، بعدما تحوّلت من أداة لحق الدفاع إلى أداة لتدمير أي مجال للملاحقة أو المحاكمة. وأمام إغلاق أبواب الاجتهاد القضائي على هذا الوجه، كان من الطبيعي أن يطرح التساؤل حول المبادرات النيابية للحدّ من هذا العبث المتمادي.
اللامبالاة وتضليل الرأي العامّ في تفاصيل ثانويّة
فضلًا عن انخراط عدد من كبار المسؤولين في تثبيت نظام المادّة 751 كما سبق بيانه، لا تزال السّلطة التشريعيّة قاصرة عن اتخاذ أي موقف في هذا الشأن. ورغم أنّ بعض الكتل النيابية (نوّاب التغيير، نوّاب لبنان القوي) تقدّمت باقتراحات بتعديل هذه المادة (وعمليًا تجريدها من مفعول المعطّل فلا تؤدّي دعوى المخاصمة إلى كفّ يد القاضي إلّا في حال قرّرت المحكمة المختصّة ذلك)، فإنّ أيًّا من هؤلاء لم يتابع اقتراحه أو يعمل على بناء إرادة سياسيّة واسعة حوله. أما الكتل الأخرى فتراوح تعاملها مع مفاعيل هذه المادة بين التجاهل واللامبالاة الكلية (حالة نوّاب كتلتي الوفاء للمقاومة والتنمية والتحرير مثلًا) والانتقائية. وقد تجلّت هذه الانتقائية في سحب عدد من النوّاب (وأبرزهم نوّاب كتلة الجمهورية القوية) الاقتراح المُقدّم منهم سابقًا بتعديلها على الوجه الذي تقدّم ليعودوا ويقدّموا اقتراحًا آخر بتعديلها فقط بما يحول دون تعطيل القضايا المحالة إلى المجلس العدلي ومنها قضايا المرفأ. واللافت أنّ عددًا من النوًاب الذين استهجنوا تعطيل قضية المرفأ على أساس دعوى المخاصمة، لم يجدوا حرجًا في مهاجمة عون على وسائل الإعلام لرفضها كفّ يدها عن التحقيقات مع المصارف متى باتت موضوع مخاصمة. وقد كشفت هذه الانتقائية عن إرادة بعض الكتل تعطيل مفاعيل المادة في القضايا التي يهمّها مواصلة التحقيقات فيها، مقابل تماهيهم مع تعطيل التحقيقات التي لا تتناسب مع أولوياتهم السياسية.
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF