بعد مضيّ عشر سنوات على بداية الحرب اللبنانيّة (1975-1990)، ظهرت عوارض صريحة لأزمة تضخّم مفرط في آذار 1985. تجلّت الأزمة في تدهور سعر صرف الليرة من 2.43 ليرة للدولار آخر عام 1975 إلى 18.1 ليرة للدولار آخر عام 1985. أصبحت الليرة هدفاً للمضاربة اليوميّة وأدّى تراجع سعر الصرف إلى ارتفاع الأسعار بسبب قلّة اعتماد الاقتصاد على الإنتاج المحلّي. ترافق تراجع القيمة الشرائية لليرة مع ارتفاع أسعار الحاجيّات والمواد الغذائيّة والاستهلاكيّة الضروريّة. وبلغ معدّل التضخّم أعلى مستوى له عام 1987 حين بلغ 487%، وقفز سعر صرف الدولار إلى 455 ليرة نهاية هذا العام. كما انخفض الحدّ الأدنى للأجور من 243 دولار سنة 1982 (925 ليرة) إلى 81 دولاراً عام 1985 (1475 ليرة) رغم تصحيح الأجور 4 مرّات خلال تلك الفترة، ثمّ هبط إلى 19 دولار عام 1987 (4300 ليرة) . وظهرت مطالبات بتصحيح الأجور في شكل فصلي أو شهري. و”خسرت الوديعة بالليرة نحو 96,89% من قيمتها بين 1983 و1987″. فتحوّلت الأزمة المتراكمة منذ بدء الحرب إلى أزمة معيشية، دخل معها لبنان مرحلة جديدة، حملت مؤشرات اقتصادية اعتُبرت الأسوأ منذ بداية الحرب.
نخصص الجزء الأوّل من سلسلة المقالات هذه للمقارَبتين الماليّة والنقديّة وهي تُعنى بثلاثة أطراف: الحكومة، والمصرف المركزي والمصارف. ونتوسّع في المقاربات القطاعيّة في الجزء الثاني، وهي مقاربة تميّز بين النمو والإنماء. لكن المقاربات هذه، توضح أسباب الأزمة لناحية كيفيّة عمل النظام المالي النقدي، ولا تذهب بعيداً في تفسير خلفيّات القرارات المتّخذة ولمصلحة من تصبّ. لذا نتطرّق في الجزء الثالث لمقاربة مختلفة هي المقاربة الاقتصاديّة السياسيّة، ونتناول أيضاً نتائج الأزمة.
ونستند في بحثنا هذا إلى مقابلات أجريناها مع الصحافي الاقتصادي محمد زبيب ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة د. غسّان ديبة ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانيّة د. ألبير داغر، بالإضافة إلى أرشيف جريدتي النهار والسفير، وكتابات وثقت هذه المرحلة من تاريخ لبنان. وتجدر الإشارة إلى أنّه ليس من الوارد مقارنة الأزمة الماليّة-النقديّة خلال تلك الفترة مع الأزمة التي نعيشها اليوم لأسباب نأتي على ذكرها في ختام الجزء الثالث من هذه السلسلة.
المقاربة الماليّة النقديّة لأزمة التضخّم المفرط
لأزمة التضخّم أبعادٌ عدّة تُنتج مقاربات متنوّعة. ترسم كلا المقاربتين الماليّة والنقديّة المعطيات الأوّليّة لواقع الأزمة. تُعنى الأولى بالماليّة العامّة أو السياسة الماليّة للحكومة والثانية بسياسات المصرف المركزي. وتُجمع النظريات الاقتصاديّة على أنّ إقراض المصرف المركزي للدولة يزيد من الكتلة النقديّة، وتعتبر النظريّة الكلاسيكيّة أنّ ذلك يعدّ أكبر مصدر للتضخّم. بناءً عليه، ترتكز كلا المقاربتين الماليّة والنقديّة على وجوب اقتراض الحكومات فقط للإنفاق على الاستثمارات الرأسمالية، مثل البنى التحتية المادية والبشرية، لا على النفقات الجارية. وفي حين تشير المقاربة الماليّة إلى السياسات التي تعتمدها الحكومة لمعالجة كلّ من عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات وعجز الخزينة، تشير المقاربة النقديّة بالمقابل إلى سياسات المركزي تجاه المصارف والحكومة للحؤول دون تضخّم الكتلة النقدية من جهة، وللحفاظ على قيمة العملة الوطنيّة وعلى نظام نقدي فاعل من جهة أخرى.
وقد نظّم قانون النقد والتسليف الصادر في آب 1963 شروط إقراض مصرف لبنان للخزينة وللقطاع العام. ووضع المشرّع قيوداً مشدّدة على لجوء الدولة إلى المصرف المركزي لسدّ عجز الموازنة العامّة أو موازنات المؤسّسات العامّة المستقلّة. والملفت في القانون استباقه لتبنّي سياسات النيوليبراليّة عالميّاً، وهي التي أعطت دوراً أكبر وأكثر استقلاليّة للمصارف المركزيّة. فقد أجازت المادتان 88 و89 تقديم تسهيلات صندوق للخزينة (قروض قصيرة الأجل لتيسير الأمور الماليّة) مؤقّتة ومحدودة بضوابط لحظتها المادتان في متنهما إضافة إلى ضوابط أخرى وردت في المواد 93 و94 و95. كما سمحت المادة 91 إقراض الدولة إذا كانت هناك ظروف “استثنائيّة الخطورة” أو ضرورة قصوى تحتّم ذلك. وأكّدت المادة 90 على أنّ المبدأ العام هو ألا يمنح المركزي قروضاً للقطاع العام.
العجز كسبب مباشر للتضخّم المفرّط
وفيما يتعلّق بعجوزات الماليّة، رأى النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسّان العيّاش في كتابه “أزمة الماليّة العامة في لبنان” أنّ الماليّة شهدت ثلاث مراحل أساسية:
- حتّى بداية الستينيّات، التزمت الدولة توازن الموازنة بين الإيرادات والنفقات وتلافي العجز، وموازنة صغيرة الحجم.
- من عام 1962 حتّى بداية الحرب، نمت نفقات الدولة “بفعل التطوّر الذي أدخلته الشهابيّة إلى دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي”. وظهر عجز الموازنة لأوّل مرّة بتاريخها، وأقفلت كل الموازنات بعد ذلك العام وحتى بداية الحرب بعجز ما عدا الأعوام 1971، و1972 و1974.
- مع بداية الحرب عام 1975، “فقدت الدولة السيطرة على مواردها الماليّة، فأصبحت إيراداتها لا تكفي حتّى لسدّ نفقاتها الجارية”. وبعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، تدنّت الإيرادات الحكوميّة على نحو “دراماتيكي”، فدخلت الماليّة العامّة أزمة لا سابقة لها في تاريخ لبنان.
تفكّك الدولة كسبب مباشر للأزمة
أصيب الاقتصاد بأضرار جسيمة ماديّة وبشريّة جرّاء حرب السنتين (1975-1976)، وقدّرت الخسائر الاقتصاديّة بحوالي 3.2 مليار دولار. “فقدت الدولة السيطرة على البلاد وأصبحت عاجزة عن تحصيل إيراداتها، التي تدنّت أيضاً بسبب تراجع الاستيراد وانكماش الدخل بفعل الأحداث الجسيمة”. وشكّلت لحظة حزيران 1982 منعطفاً مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، بدأت على إثره مرحلة التضخُّم المفرط، بخاصّة مع خروج أموال الميليشيات الفلسطينيّة المسلّحة من لبنان – قُدّر رأس المال الفلسطيني بـ1.5 مليار دولار عام 1982 -، وسيطرة الميليشيات المسلّحة اللبنانيّة على المرافق الاقتصاديّةّ وتفكّك الإدارات العامّة للدولة؛ إضافة إلى الأضرار الناتجة عن الدمّار والتي قدّرت بحوالي 1.8 مليار دولار؛ والأهمّ الهجرة الكثيفة لأصحاب الكفاءات واليد العاملة المهنيّة.
وفي عام 1983، بدأت الإيرادات البترولية في المنطقة بالتراجع، فتقلّص حجم التحويلات المعتادة من الخارج. ولم يقابل ذلك انخفاض في حجم الاستيراد ما أدّى إلى تفاقم العجز التجاري وظهور عجز في ميزان المدفوعات. كذلك، فإنّ الأحداث “الدراماتيكيّة” التي تتالت بين 1982 و1985 أدّت إلى خسائر اقتصاديّة فادحة. وكتب العيّاش أنّ بيروت “فقدت كليّاً دورها كمركز مالي وتجاري وإقليمي، فهجرها ما بقي من شركات ومؤسّسات أجنبيّة، كما شهد لبنان نزوحاً كثيفاً للرساميل إلى الخارج”. بناءً على ما سبق، يجمع الاقتصاديّون على أنّ السبب المباشر لأزمة التضخّم المفرط (hyperinflation) في الثمانينيّات هو العجز المالي الناتج عن تفكك الدولة كمؤسّسة أو كجهاز. لكن يبقى أنّ هذه العوامل مجتمعة لا تفسّر استمرار الأزمة وتفاقمها.
1950- 1984: أزمة التضخّم سبقت أزمة سعر الصرف
على خلاف ما أشاعه البعض في الثمانينيّات، فإنً أزمة التضخّم سبقت أزمة سعر الصرف وكانت بدأت قبل الحرب وفق ما أشارت إليه الإحصاءات. فعلى الرغم من معدّل نمو اقتصادي بلغ 7% سنوياً في الفترة الممتدّة بين 1950 – 1974، ورغم أنّ متوسط الارتفاع السنوي لمؤشّرات الأسعار (التي كانت تصدرها وزارة التصميم) لم يتجاوز نسبة 2% في الستينيّات، غير أنّ الدورة التضخّميّة للاقتصاد بدأت في السبعينيّات، قبل بدء الحرب. علماً أنّ الدّولة توقّفت منذ آذار 1975 عن إصدار إحصائيّات عن الحسابات الوطنيّة، بسبب تعطّل أجهزتها وصعوبة تكوين معلومات مركزيّة عن الاقتصاد اللبناني بفعل الحرب. يقول المدير التنفيذي لـ “مؤسسة البحوث والإستشارات” كمال حمدان في مقابلة تلفزيونية، إنّه افتتح مؤسّسة لإجراء الإحصاءات معتمداً المنهجيّة ذاتها للإحصاء المركزي، وبقيت تلك المؤسسة من عام 1977 وحتى عام 1999 المصدر الوحيد للأرقام على حد تعبيره.
وفي وقت اعتبر بعض الاقتصاديين في الثمانينيّات أنّ سبب ارتفاع الأسعار والتضخّم حينذاك، يعودان إلى تدهور سعر صرف الليرة، رأى حمدان أنّ تدهور سعر الصرف ناتج عن أزمة التضخّم لا العكس. وتحدّث عن ثلاث مراحل لهذا التضخّم قبل الحرب وخلالها:
- خلال النصف الأول من السبعينيّات، كان معدل الارتفاع الوسطي للأسعار بين 7 و8%. “ترافقت مع طفرة اقتصادية وتزامن التضخّم مع تفاقم الأزمة الإقتصادية في الدول الصناعية إن من حيث التضخّم أو من حيث البطالة”.
- بين عام 1975 وعام 1982 (الاجتياح الاسرائيلي)، كان معدّل الارتفاع الوسطي للأسعار نحو 19.6%. “ظلّت نتائج هذا التضخّم قابلة للمراقبة والسيطرة عليها”. وقد صمد الاقتصاد اللبناني بسبب عوامل مساعدة، وأهمها هجرة اليد العاملة وتحويلات المغتربين خصوصاً من الخليج الذي شهد طفرة بترولية. وكان الناتج المحلي يشكّل نحو نصف أو ثلثي الناتج القومي والبقية كانت تمثل المداخيل التي كانت ترد من الخارج.
- بعد الاجتياح الاسرائيلي، بدأت مؤشرات الأزمة المالية بالظهور عام 1983: سجّل مؤشر الأسعار ارتفاعاً بنسبة 10% فقط، لكن ذلك كان ناتجاً عن الانخفاض في سعر الليرة. وانفجر التضخّم عام 1984، ووصل الارتفاع في مؤشر الأسعار في الربع الأخير من هذا العام إلى 17%. “وعام 1985 استمرّ هذا المنحى الخطير والتصاعدي وراوحت نسبة الارتفاع بين 65 و70% وسطياً”، إلى أن أصبحت الليرة عام 1984 تساوي 10 قروش عام 1974.
الحكومة تقترض من المركزي
اشتدّت الأزمة المالية للدولة منذ عام 1978. بدأت الحكومة اللبنانية استخدام امتيازها بمصادرة 80% من مكاسب الميزانية العمومية لمصرف لبنان الناتجة عن انخفاض قيمة الليرة اللبنانية (المادتان 115 و116 من قانون النقد والتسليف) لتمويل عجزها المتزايد. وبلغت هذه التحويلات 1.5 مليار دولار بين عامي 1976 و1983 . لكن في الواقع يعادل هذا الأمر اقتراض الدولة من البنك المركزي من حيث تأثيره، إذ يؤدّي إلى زيادة المعروض النقدي. ويشرح غسّان ديبة في ورقة بحثيّة بعنوان “السياسة الاقتصاديّة للتضخّم وتخفيض سعر صرف العملة في لبنان بين 1984 و1992” أنّ هذه السياسة الماليّة تتناقض والهدف المعلن للسيطرة على التضخّم.
وقال حمدان في مقابلة مع جريدة “النهار” إنّه “اعتباراً من عام 1983 بدأ ميزان المدفوعات يسجل عجزاً. ومن أسباب ذلك تراجع التحويلات الخارجية، فقد بلغت نحو 20% مما كانت عليه قبل الاجتياح”. كما تكشّفت ظاهرة أخرى عام 1984 تمثّلت في تصدير لبنان الرساميل إلى الخارج بدلاً من استقطابها. بدأت الضغوط على سعر صرف الليرة في النصف الثاني من عام 1984 ، وظهرت موجة المضاربة العنيفة ضد الليرة اللبنانية في الربع الأخير من هذا العام، فبلغ متوسّط سعر الليرة مقابل الدولار في أيّار 5.8 ليرة للدولار، وزادت سرعة التدهور، ثم بلغ السعر 18.1 ليرة في كانون الأوّل 1985 .
وأشار ألبير داغر في ورقة بحثيّة بعنوان “سياسة سعر صرف العملة: التجربة اللبنانية والدور المطلوب من هذه السياسة” إلى أنّه “ابتداء من العام 1985 على الأقلّ، سينطبق على الدولة ما قاله عنها حاكم المصرف المركزي في العام 1989، من أنها “تعيش على التسليفات التي يقدّمها لها مصرف لبنان”. واعتبر الصحافي الاقتصادي عصام الجردي في مقالة في “جريدة السفير” عام 1986 أنّ مصرف لبنان كان يدرك محدوديّة قراره الدفاع عن سعر الصرف منذ آذار 1985، لكنّه راهن على أن تتراجع الضغوط على الليرة في مستقبل قريب. وشرح الجردي كيف أنّ “المركزي” لم يرد عبر التضييق على السيولة بالليرة أن يضيّق على المصارف (سيولة المصارف تستخدم أيضاً للاستثمار في القطاعات المنتجة) لكنّه أراد في الوقت ذاته الحدّ منها لأنّها تستخدم في المضاربة ضد سعر الصرف. لذا اعتمد “المركزي” بشكل كبير على بيع سندات الخزينة، لأنّه وبحسب الجردي، فإنّ “محفظة سندات الخزينة المصرفية، هي محفظة كبيرة قياساً إلى الودائع المصرفية. ولم تكن فقط مصدر تمويل للعجز العام وربحية للمصارف بقدر ما كانت احتياطاً مأموناً ومضموناً من الدولة سيكون له دور مهم في المرحلة المقبلة. في المقابل كانت بعض المصارف تؤدّي دوراً سلبياً، فقد عمدت إلى إنشاء فروع لها في الخارج وهو ما أدّى إلى تدويل الليرة “والمضاربة بغير المقيم منها داخل سوق بيروت”. علماً أنّها كانت تمتلك أحجام ودائع كبيرة جداً قياساً بإجمالي الودائع المصرفية.
وحسب ورقة داغر، فـ”إنّه طوال الفترة بين عامي 1985 و1990، لم تتعدّ نسبة إيرادات الخزينة إلى مجموع الإنفاق العام الـ 14%. وأصبح المركزي المموّل الرئيسي للإنفاق، وابتداءً من شباط من العام 1987، عمد إلى وضع قواعد لتسليف الدولة، التزم بها حتى نهاية الحرب. وأضاف داغر أنّ المركزي قام بدور “حكومة بديلة” خلال حقبة الحكومتين (حين انقسمت البلاد بين حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش ميشال عون وأخرى برئاسة سليم الحص) وفي الوقت ذاته واجَه القطاع الخاص من خلال وضعه ضوابط لحركة سعر صرف الليرة، ابتداءً من العام 1986. في المقابل أشار ديبة إلى أنّه بحلول عام 1986 بلغت حصة التمويل التضخّمي كمصدر لتمويل العجز العام 30.3% مقارنة بـ15.8% في عام 1984. وتراجع معه الدين العام، الذي كان بلغ ذروته عند 6.45 مليار دولار، فأصبح 2.23 مليار دولار بحلول عام 1990 على الرغم من أنّه زاد بنحو 40 مرة كمبلغ بالليرة. وبالتّالي استخدم التضخّم أداةً لتخفيض الدين العام، ولكنّه كان أداةً لتعويم الطبقات الغنية وأطراف نافذين على حساب المجتمع، وهو ما نتناوله في الأجزاء المقبلة.
–يتبع– سوف نتعمّق أكثر بالحديث عن سياسات المصرف المركزي في الجزء الثاني، حيث سنقدّم مقاربة اقتصاديّة قطاعيّة ونستكمل الحديث كذلك حول أسباب الأزمة وتطوّر مجرياتها. وبأيّ حال لا يعدّ الشرح المقدّم في المقاربات الثلاث وافياً لتفسير الأسباب التي أسّست وكوّنت الأزمة، ولا تلك التي زادت من تفاقمها بعد عام 1985، وهو ما سنتطرّق إليه في الجزء الثالث.