يرتبط اسم الجميزة ومار مخايل اليوم بكونهما من أشهر أماكن السهر في بيروت، شارعان إذا ما وطأتيهما في ساعات الليل الأولى تجدينهما يعجّان بالرواد الذين يملؤون المطاعم والبارات، لكن سرعان ما يتغير المشهد عند ساعات الفجر الأولى، وكأن ضبابًا يتلاشى أو سرابًا يزول، فتعود الشوارع لتتّشح برداء الحداد الذي ما خلعته يومًا منذ تفجير الرابع من آب، وليظهر من بقي ومن عاد من سكان المنطقة كتائهين يجولون بوجوه حَفر التفجير فيها ملامح صدمةٍ لن تُنسى.
أربع سنوات مرّت على تفجير مرفأ بيروت، ولا يزال الكثير من مباني منطقتي الجميزة ومار مخايل إما قيد الترميم، او مهدّمة أو مقفلة أو خالية من ناسها، ولا تزال مساحات عدّة من أرصفتها مكسّرة، فيما لا يزال مبنى شركة الكهرباء المتشظّي بين المنطقتين ينتصب كشاهد على هول التفجير وعلى عبثية أعمال الإغاثة والترميم والتعويضات، حيث لم تكترث أي جهة رسمية وخاصّة بترميمه وتأهيله.
أما السكان فمنهم من عاد الى منزله، وكثر منهم إما هاجروا أو استقرّوا خارج المنطقة، ومنهم ما زال غير قادر على ترميم منزله. تقول ريتا التي لم تعد لغاية اليوم إلى منزلها كونها لا تملك المال الكافي لترميمه، إنّ التفجير كسرها وإنّها لن تتعافى لأنّ الحقيقة لم تظهر، أما جوزفين فترفض العودة إلى المنطقة التي شهدت فيها وفاة جيرانها وأصدقائها “الزاروب بيذكّرني فيهم ما بقدر إرجع وما شوفهم”. وبخلاف جوزيفين تتمنى آمال لو أنّ مالك العقار سمح للجمعيات بترميم منزلها لكانت عادت إلى حيث ولدت ونشأت.
وراء كلّ باب من بيوت الجميزة ومار مخايل قصة مع التفجير.
وكان محافظ بيروت مروان عبود قد أعلن بعد أيام على التفجير تشرّد حوالي 300 ألف شخص، وفي العام 2022 أصدر استديو أشغال عامة دراسة بعنوان “التشرّد بعد الفاجعة: الأوضاع السكنية في المناطق المتضررة بعد التفجير”، تظهر أنّ 30 % فقط من سكان الأحياء قد عادوا إلى منازلهم.
وكان فريق “مختبر المدن” قد عمل بعيد التفجير على موقع وخريطة، يحتويان على كافة المعلومات المتعلقة بالوحدات السكنية في المنطقة المتضرّرة يتم تحديثهما بشكل مستمر. ولغايات هذا التحقيق، اختار فريق المختبر عيّنة من 466 شقة سكنية في منطقتي الجميزة ومار مخايل، ومحدّثة معلوماتها في شباط 2024. وأظهرت النتائج أنّ 203 شقق من العيّنة، مأهولة فيما 263 بقيت شاغرة، أي ما نسبته أكثر من 50%، وأنّ 265 شقة منها رُمّمت بشكل كامل، و124 رُمّمت بشكل جزئي ، فيما بقي 77 منها بلا ترميم. وتتوزع الشقق المأهولة في العيّنة، بين 25 مؤجّرة بإيجار جديد، و60 بإيجار قديم، 109 منها ملك خاص، و6 سكن عمال و3 بوضع اليد.
وهذا ما تبيّن لنا خلال عملنا الميداني، حيث زرنا أحياء ومباني في شوارع متفرّقة من المنطقتين، وفي كلّ مبنى كان هناك 5 شقق سكنية على الأقلّ من أصل عشرة خالية من السكان، وفي كثير من المباني تبيّن لنا أنّه حتى الشقق المأهولة لا يسكنها أصحابها القدامى الذين كانوا قبل التفجير، بل حلّ مكانهم مستأجرون جدد بعدما تحوّلت الكثير من الشقق إلى بيوت ضيافة بعضها مدرج على تطبيق Airbnb، ما يرفع من نسبة هجرة السكان القدامى من المنطقة إلى أكثر من 50% بعد التفجير.
وفي مقابلة مع “المفكرة” يقول رئيس دائرة الهندسة في بلدية بيروت جهاد البقاعي، إنّ أكثر من 25% من المباني في المناطق الأكثر تضررًا لم ترمّم بعد. ولا يملك البقاعي أو حتى مختار منطقة المدوّر فرانسوا الجلخ معلومات دقيقة حول نسبة عودة السكان الذين سكنوا المنطقة قبل التفجير.
ويمكن حصر أسباب عدم عودة السكان بمعوّقات عدّة منها: هجرة الكثير منهم بعد التفجير، وجود عدد كبير من المباني والمنازل المصنّفة أثرية وذات طابع تراثي التي لم ترمّم بعد والتي تحتاج للكثير من الدعم المالي والوقت، عدم موافقة أصحاب العقارات والمالكين على ترميم منازلهم القديمة كنوع من ممارسة ضغط لعدم عودة المستأجرين القدامى، تأخّر أعمال الترميم لأكثر من سنتين ما أدّى إلى تأقلم السكان في أماكن سكنهم الجديدة التي نزحوا إليها بعد التفجير، فضلًا عن الاكتئاب و”التروما” التي لا يزال كثيرون يعانون منها بسبب التفجير ما يجعلهم يرفضون العودة إلى منازل ومنطقة تذكّرهم بما حدث.
يضاف إلى ذلك أسباب أخرى منها افتقار المباني السكنية القديمة إلى مصعد كهربائي وعدم قدرة السكان بخاصّة من كبار السن استعمال الدرج مفضّلين الانتقال إلى بيوت تناسب وضعهم الصحي، وتغيّر واقع المنطقة الاقتصادي والاجتماعي، حيث باتت شبه خالية من المصالح الصغيرة كالجزّارين وبائعي الخضار ومحال السمانة، وحلّت مكانها المقاهي المطاعم والبارات العشوائية، كذلك حوّل الكثير من المالكين منازلهم إلى بيوت ضيافة، ما فاقم من ضياع هوية المنطقة.
وكان الجيش اللبناني قد اجرى مسحه الميداني بعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع على التفجير بناء على مقرّرات مجلس الوزراء في 5 آب 2020، وأظهرت نتائج البحث أنّ الضرر المادي لحق بحوالي 87,519 وحدة منها: 20 مؤسسة حكومية، 14,848 مؤسسة تجارية، 5,251 شركة تجارية، 991 مطعمًا وحانة، 92 منشأة تعليمية، 14 مستشفى، 25 فندقًا، 91 منشأة دينية، 4100 قسم مشترك و62,087 وحدة سكنية منها 9000 وحدة غير قابلة للسّكن، بالإضافة إلى 130 بناءً أثريًّا، كما تمّ مسح حوالي 5000 سيارة متضرّرة.
ويمكن القول إنّه لم يتمّ وضع خطة واضحة شاملة وعادلة من قبل المؤسّسات الرسمية للاستجابة وإعادة الإعمار تضمن العودة السريعة للسكان، فاقتصرت تقديمات الحكومة على تعويضات وزعت الدفعة الأولى منها في 26-10-2020 أي بعد حوالي ثلاثة أشهر على التفجير وبلغت قيمتها الإجمالية 100 مليار ليرة لبناني استفادت منها حوالي 12472 وحدة سكنية، أما الدفعة الثانية فكانت في شهر آذار العام 2021 بقيمة إجمالية بلغت 50 مليار ليرة لبنانية وزّعت على حوالي 7825 وحدة سكنية.
في هذا الوقت استلمت الجهات غير الرسمية زمام الأمور، وكما شظّى التفجير الأحياء والسكان كذلك طريقة إعادة الإعمار والتعويض، فخضع كلّ شارع وكلّ حي وحتى كلّ مبنى وشقة سكنية لطريقة تعامل مختلفة، حسب الجمعية التي أشرفت على ترميمه وتصليحه.
وترى عبير سقسوق مهندسة معمارية وعضو مؤسس في “استديو أشغال عامة”، أنّ صياغة القوانين لم تلحظ أولوية لعودة السكن بل اقتصرت على كيفية حماية المباني، في حين كان من الأجدى إجراء مسح لمعرفة أوضاع الناس، ومن تضرّر منها ومن هاجر ومن بقي. وتضيف في اتصال مع “المفكرة” أنّ جزءًا من الخلل كان عدم تشكيل اللجنة التي نصّ عليها القانون 194/2020 وهي لجنة من مهامها إجراء مسح لحاجات الناس وأوضاعهم يتم على ضوئها تحديد أولويّات عمليات الإغاثة والتعويض. من جهة ثانية لم تضم هذه اللجنة في عضويتها جهة تمثل السكان المتضرّرين أنفسهم، وبالنتيجة أوكلت جميع مهام المسح والتعويضات إلى المؤسسة العسكرية.
المباني التراثية ليست بالأولوية
تتميّز منطقة الجميزة ومار مخايل بكثرة الأبنية القديمة التي يعود تاريخ إنشاء بعضها إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. وفي 27 آب 2020، أعلن وزير الثقافة عباس مرتضى أنّ وزارة الثقافة قد أجرت مسحًا طال 576 مبنى تراثيًا: 331 مبنى في المنطقة المباشرة للانفجار و245 مبنى في المنطقة الخلفية، حيث تبيّن وجود 86 مبنى من أصل الـ 331، في وضع حرج متضرّر: 44 منها في خطر الانهيار الكلّي بحاجة إلى تدعيم كامل و41 في خطر انهيار جزئي (بحاجة إلى تدعيم جزئي). وأعلن أنّ هناك 13 مبنى قيد التدعيم، في حين ستتمحور المرحلة المقبلة حول التراث المعماري الحديث، التراث الديني والتراث الصناعي.
وغالبًا ما تحتاج هذه المنشآت إلى الكثير من المال والوقت لإنجازها، ويصنّف المبنى بالتراثي إذا ما توافرت فيه معايير هندسية محدّدة أهمها: “أن تكون مواد تشييده من الحجر الرملي، وأن تحتوي جدرانه على “عقد” أو “قناطر”، أن يكون ذو سقف مرتفع وأرضه مرصوفة بالرخام والزخارف”.
وكانت المادة السابعة من القانون رقم 194/ 2020 الذي يرمي إلى “حماية المناطق المتضرّرة نتيجة انفجار مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها”، قد نصّت على ضرورة الحفاظ على الأبنية التراثية ونصّت على أنّه “لا يجوز إعادة بناء الأبنية التراثية المهدّمة والمتضرّرة إلّا بإذن من وزارة الثقافة تتمّ المحافظة بموجبه على المواصفات نفسها والشكل الخارجي نفسه للبناء المهتم او المتضرّر”.
وبحسب البقاعي فأنّ “عدد الأبنية التراثية الموجودة في المنطقة والواجب الحفاظ عليها هو فوق قدرة الجهات الرسمية، من هنا توكّلت المنظمات الدولية ومجموعة من الأفراد الذين أبدوا استعدادهم للمساعدة بترميمها ومنها: برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان (un – habitat) ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (unesco). وأطلقت هذه المنظمات مشروع “إعادة إعمار الأبنية في بيروت وإحياء الصناعات الإبداعية الثقافية”، ما سيسمح بإعادة ترميم وإصلاح حوالي 60 وحدة سكنية ذات طابع تراثي بشرط إعادة تأجيرها للسكان أو السكن فيها وليس إقفالها.
ويضيف البقاعي أنّ المنظمات في البداية عمدت إلى ترميم الأبنية التي كانت مأهولة قبل التفجير، أما الأبنية التراثية التي كانت مهجورة فلم يتم العمل عليها في المرحلة الأولى. إلّا أنّ كثير من الوحدات التي كانت مأهولة قبل التفجير لم تتمكّن المنظمات من العمل عليها وذلك لأسباب عدة منها: عدم موافقة المالك على ترميمها، وجود عدد كبير من الورثة للعقار ما حرم عددًا كبيرًا من المستأجرين القدامى في هذه المباني من العودة، وغيرها من الصعوبات اللوجستية التي واجهت المنظمات. من هنا لم تتمكّن المنظمات إلى اليوم من ترميم وتأهيل عدد كبير من المباني التراثية التي كانت مأهولة، وبالتالي لم يتمكّن عدد كبير من سكان هذه المباني من العودة اليها.
“في الحرب الأهلية تهجّرت من الدامور، أملاكنا بوسط البلد راحت علينا واليوم مرة ثالثة تهجّرت من بيتي. أملاكنا بالجميزة راحت بسبب تفجير المرفأ ولحد هلق ما حدا اطّلع فينا”، بجملة واحدة تختصر ميرنا بيطار (61 عامًا) مسار حياتها وحياة الكثير من بنات وأبناء جيلها الذين عايشوا الأزمات اللبنانية على مدى عقود. تروي بيطار في اتصال مع “المفكرة” أنّ معاناتها من جرّاء تفجير المرفأ لا تزال مستمرة على الرغم من مرور أربع سنوات، وهي إلى اليوم غير قادرة على العودة إلى منزلها. تضيف بيطار التي تمتلك بناية سكنية في شارع باستور في الجميزة مصنّفة تراثية، ولم تبادر أي من الجمعيات إلى ترميمها أو العمل على إعادة تأهيلها، أنّ بعض المعنيين في البلدية قالوا إنّ بنايتها تحتاج إلى الكثير من الأموال، لذلك أجّلوا العمل عليها. “أنا كنت صاحبة ملك، تهجّرت من بيتي وصرت مستأجرة، مصرياتي راحوا بالبنك مش قادرة إعمل شي” تضيف. وتشير إلى أنّ الأثر السلبي لعدم ترميم عمارتها يطال أيضًا أبناءها الذين وبدل أن يسكنوا في شققهم يستأجرون في مناطق أخرى “يعني تغيّر كلّ مسار حياتنا، نحن كنّا مخططين منقعد كلنا حد بعض”.
تزور ميرنا بيطار الحي من فترة إلى أخرى “الحي فاضي”، عبر الهاتف يأتي صوتها مخنوقًا: “ذبحونا وشرّدونا. كلّنا بالحي شي مات، شي صار عنده إعاقة، جارتي بنتها لارا (الحايك) بعدها بالكوما، وفوق هيدا ما قادرين نرجع على بيوتنا ويمكن نموت وما نرجع لا نحن ولا أولادنا”.
بسام غلام وهو أحد أبناء منطقة الجميزة حيث يملك مبنى تراثيًا، يعتبر أنّ الأهالي بعد تفجير المرفأ كان عليهم بذل جهد خاص للوصول إلى جمعية مقتدرة لضمان ترميم منازلهم المصنّفة تراثية. “ركضنا صرنا نسأل مين هي أفضل جمعية عم ترمّم بيوت تراثية لأن نحن مش قدرتنا، وصلنا لجمعيتين وطلبوا نتصوّر وعملوا عنّا تقارير حتى يجيبوا تمويل، ما كان عنّا مشكلة لأنّ بدنا نصلح البناية”، يقول غلام.
ويشرح أنّه على الرغم من الحالة المأساوية التي كان أهالي المنطقة يمرّون بها في حينها، كان عليهم التعالي على آلامهم، والسعي وراء الجمعيات وإيجاد المناسبة لتصليح وحدتهم السكنية أو منزلهم، “كان الواحد هو وشطارته وهو معارفه بيدبّر حاله” .
يملك غلام مبنى تراثيًا آخر في الجميزة إلّا أنّه لم يكن مأهولًا قبل التفجير وتعرّض لأضرار كبيرة وبات يشكّل خطرًا على السلامة العامًة. تلقّى اتصالًا من البلدية ينذره بضرورة تدعيمه، فراح غلام يسعى إلى تأمين جمعية ووجدت واحدة قامت بتدعيم المبنى بشكل مؤقت، واليوم يسعى إلى توقيع عقد مع منظمة un habitat التي تأخذ على عاتقها ترميم عدد من الأبنية لكن بشروط ومنها تعهّد المالك تأجير الشقق السكنية لذوي الدخل المحدود بعد تسلّمها وذلك لمدة 10 سنوات، “رح إقبل لأنّ صراحة ما في حلّ ثاني بظل الأوضاع الاقتصادية لي عم نعيشها”، مستدركًا بالقول: “بس معقول نأجّر شقة بالجمّيزة 200 متر بي 300 دولار؟”.
وتؤكّد عبير سقسوق من استوديو أشغال عامّة أنّ ترميم الأبنية التراثية من دون شروط زاد من جشع المالكين الذين رفعوا قيمة الإيجارات، ما دفع بالمستأجرين بعقد إيجار جديد إلى ترك منازلهم.. وتضيف أنّه كان من واجب الجمعيات وضع شرط على صاحب العقار بعدم رفع قيمة الإيجار بعد الترميم لمدة معيّنة، وذلك لضمان عودة السكان وحمايتهم من جشع المالكين.
منزل ميرنا بيطار قبل الانفجار
المستأجرون القدامى تحت رحمة المالكين
“البني آدم ثقيل يا بنتي، يعني صحيح قاعدة عند أولادي بس بيضلّ أريح ببيته”، نسمع بكاء آمال الحكيم (70 عامًا) عبر الهاتف، هي التي فقدت زوجها أنطوان باسيل جرّاء التفجير، وفقدت أيضًا سكنها ومنزلها الكائن قرب درج غلام في مار مخايل وذكرياتها مع شريك عمرها، حيث رفض المالك الأساسي للعقار إعطاء الموافقة على تأهيل وترميم المبنى الذي يعاني من تصدّعات إنشائية. وينصّ قانون البناء على أنّه لا بد من موافقة صاحب الملك إذا كانت التصدّعات إنشائية، أما في حالة الضرر العادي فلا يحتاج المستأجر أن يأخذ موافقته على الترميم.
“أنا لو خالص بيتي كنت رجعت قعدت فيه معزّزة مكرّمة”، تقول آمال وتضيف أنّ صاحب العقار يحاول ممارسة الضغط عليهم لاستعادة الشقة إلّا أنّها لن تتخلّى عن منزلها. تقول آمال إنّ المبنى هو عبارة عن خمسة طوابق كانت قبل التفجير جميعها مأهولة، اليوم تفرّق السكان: “3 ماتوا بالتفجير، واحد تحايلوا عليه ومضّوه على عقد إيجار جديد وطلّعوه، والبقية كل واحد بديرة”.
تروي أنّها جاءت إلى الحي في الخمسينيات عروسًا، في هذا المنزل كوّنت عائلة، وعندما حان موعد التقاعد والراحة جاءها التفجير. تزور آمال منزلها من الحين والآخر، تجلس فيه لساعة أو ساعتين “بيت ما بينسكن، الدرج كلّه مكسّر، ما في ماي، وكلّ أغراضي انسرقت بعد التفجير”.
تروي أنّها بعيد التفجير تنقّلت بين منازل شقيقاتها “كلّ جمعة روح عند واحدة من أخواتي، ما معي غراض، ضهرت بشرشف بالدمّات، ما معي ثياب، صرت البس من هيدي وهيدي، يبعتولي ثياب وغراض. تبهدلنا بآخر عمرنا”.
بعدها تمكّن ابنها الذي كان يسكن معها قبل التفجير من استئجار منزل في منطقة أدونيس وانتقلت للعيش معه، تقول إنّ ابنها لا يريد العودة أمّا هي ففي حال سوّيت أوضاع الشقة فستعود للسكن فيها لا محال “هيدا بيتي هون سكينتي، الواحد ما بيرتاح إلّا ببيته”.
تتحسّر آمال على المنطقة التي تغيّرت كثيرًا: “كان في صيدلية كان في دكان ولحام، اليوم تغيّرت، بس هاي منطقتي”.
ويؤكد البقاعي أنّ هناك العديد من الأبنية التي يرفض أصحابها ترميمها بهدف الضغط على المستأجر لترك المنزل. وعلى الرغم من أنّ المادة 18 من قانون البناء تنصّ على أنّ “على المالكين أن يحافظوا على نظافة واجهات أبنيتهم وأجزائها الأخرى ويقتضي عليهم عند الاقتضاء أن يقوموا بدهنها أو توريقها أو طرشها أو ترميمها وإذا تمنّعوا يحق للإدارة بعد إخطارهم أن تقوم بالعمل المذكور على نفقتهم”، فالمالك الذي يؤجّر شقته ضمن عقد “إيجار قديم” ولا يحقق أيّ أرباح تذكر، لن يسعى إلى ترميم شقته. كذلك تتألّف معظم المباني القديمة من طبقتين أو ثلاثة، واليوم ارتفعت القيمة الاستثمارية وبات يحق لهم تشييد طبقات أكثر، لذلك يهمل المالك ترميمها لتركها تتهاوى من تلقاء نفسها. “بيقلّك أنا بهمل البناية بعدين بعدها بطلّع بناية أعلى”، وهذا ما دفع بالعديد من أصحاب العقارات القديمة ليكونوا حجرة عثرة في طريق المنظّمات وبالتالي حرمان عدد من المستأجرين القدامى من العودة إلى منازلهم.
وهنا تعتبر سقسوق أنّه على الرغم من أنّ القانون 194/2020 يمنع التصرّف والبيوعات العقارية لمدة سنتين، وتمديد عقود الإيجار السكني وغير السكني في المباني والعقارات المتضرّرة لمدة عام، إلّا أنّها لم تكن مدة كافية، معتبرة أنّه لم يتم تعديل القوانين والعمل عليها بشكل يحمي المستأجر ويضمن عودته.
جوزيف أبي خليل عاد إلى منزله في شارع رباط ويفتقد جيرانه الذين لم يعد سوى قلّة منهم
الجمعيات سيف ذو حدّين
بعد التفجير، اجتاحت المنطقة عشرات الجمعيات التي كانت يقدّم المساعدات العينية واللوجستية، وكان هناك افتقار لخطة عمل واستجابة شاملة تراعي حاجات السكان ومتطلّباتهم، في ظلّ غياب سياسة عامّة وإشراف من قبل الجهات الرسمية.
ولم تحصل عمليات الترميم والتصليح بشكل عادل أو منصف وأحيانًا كان العمل لا ينجز بشكل نهائي. واستلمت جمعيات شوارع وأحياء وأحيانًا مبان معيّنة وأخرى استلمت أحياء أخرى وكان الحظ يلعب دوره مع الأهالي. فمن كان حظّه جيدًا أشرفت جمعية محترفة ومتقنة لعملها على ترميم شقته وبالتالي ضمَن عودة سريعة، أما من كان حظّه سيّئًا استلمت شقته جمعية لم تتقن عملها وبقي منزله بحاجة للكثير من التصليحات.
ويروي معظم السكان الذين قابلتهم “المفكرة” أنّ الكثير من الجمعيات كانت تكتفي بأخذ المعلومات ولا تعود لتقديم أي خدمة تذكر، فيما البعض الآخر تكفّلت بترميم وتأهيل وحدات سكنية إلّا أنّها اضطرّت إلى تركها قبل إنجاز العمل بحجّة انتهاء التمويل، وكأنّ الجمعية تبدأ مشروعًا من دون أن تعرف تكاليفه مسبقًا. وهذا الأمر حرم السكان من الاستفادة من جمعيات أخرى كان يمكن أن تستكمل العمل. ومعظم السكان كانوا غير قادرين على ترميم منازلهم وحدهم بسبب الأزمة الاقتصادية. وبعض الجمعيات كان عملها غير متقن ما اضطرّ الأهالي إلى إجراء أعمال الصيانة على نفتهم.
واللافت أنّه لم يكن دخول الجمعيات إلى المنطقة بعد التفجير منظّمًا بل سريعًا ومباغتًا، ففيما كان الأهالي مشغولين إما في البحث عن جثث شهدائهم أو مشغولين بجرحاهم، كانت الجمعيات على الأرض تجول لتسجيل الطلبات والبدء بالإصلاح.
وبحسب البقاعي فإنّ ممثلي الجمعيات لم يدخلوا أيًّا من البيوت المقفولة أو التي كان أصحابها غير متواجدين فيها، ما حرم هؤلاء من الحصول على فرصة من الجمعية لترميم وإصلاح وحدته السكنية. وهذا ما اضطرّ العديد من السكان إلى تصليح منزله على نفقته الخاصّة.
بعض الأحياء لم تقصدها أي جمعية ومنها شارع غورو، حيث ترك الأهالي وحيدين يواجهون أقدارهم.
“نحن في شارع غورو الجمعيات إجت لعنّا بس لتسجّل معلومات، بس ولا جمعية رجعت وصلّحت، بالبيت عندي البلاط كان مقبّع”، تقول ريتا التي على الرغم من مرور أربع سنوات على التفجير إلّا أنّ غضبها ونقمتها ما زالا كبيرين. ريتا التي لم تتمكّن إلى اليوم من العودة إلى منزلها بسبب عدم قدرتها على تحمّل تكاليف الترميم والإصلاح، بخاصّة وأنّ أيًّا من الجمعيات لم تكترث لحال شارعها أو مبانيه بحجّة أنّه بعيد عن محيط الانفجار. تقول لـ “المفكرة”: “ما في جمعية اهتمّت بشارعنا، ولا أي جهة رسمية، بحجّة إنّه الحي بعيد عن التفجير، أوكي في أحياء أقرب تضرّرت اكثر بس بيتي كمان تضرّر، شو بعمل؟”.
تضيف أنّ ما زاد الطين بلّة هو الأزمة الاقتصادية وسرقة مدّخراتها وتراجع قيمة التعويض التقاعدي لوالدتها، “نحن مش عايزينهم، بس فجّرونا وكمان أخذولنا مصريّاتنا، نحن لو خلّونا نسحب 10 آلاف دولار من مصريّاتنا كنّا خلّصنا، ما حدا عمل أي استثناء للمتضرّرين يقدروا يسحبوا أموالهم” تقول ريتا بقهر. وتضيف: “أمي موظّفة طول عمرها ومصمّدة مصاري وأنا معي مصاري بالبنك بس ما عطونا شي، بِعت دهباياتي لحتى كفّيت بيتي وهلّق بعد ناقصه كثير وعفش وكذا شغلة فما قادرة كفّي”.
تتابع أنّها تعيش اليوم في منزل خالها في منطقة أخرى “هيدا بيتي أنا بدي إرجع عليه هونيك غرفتي وأغراضي لي كانوا”. وتضيف أنّها اضطرّت أيضًا لتصليح سيارتها وسيارة والدتها اللتين تضرّرتا في التفجير. “ادّيه بدنا ندفع لندفع، حطّينا كثير”. وتتابع أنّ الدولة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن مواطنيها وبالتالي عن التعويض عليهم، ولا دخل للجمعيات التي كانت تتعامل مع المواطنين بطريقة غير لائقة على حد قولها. “أنا مش شحّادة حتى أنطر الجمعيات وإتشاطر احكي مع هيدا وهيدا، هنّي فجرونا هنّي بيصلّحولنا وبيرجّعونا على بيوتنا معزّزين مكرّمين”.
وتضيف أنّ ثلاثة فقط من سكّان العمارة تمكّنوا من تصليح منازلهم والعودة إليها من أصل ثمانية كانوا يسكنون قبل التفجير، “التفجير دمّرلي حياتي، وحولّي مجرى إيامي، أنا هون هلّق بسبب التفجير، بس عم بحلم بيع كل شي وفلّ”.
الدمار في شارع رباط بسبب التفجيرشارع رباط بعد الترميم
“ما بدنا نرجع ونتذكّر، بدنا نضلّ بعاد”
ترفض فيوليت صليبا، من سكان مار مخائيل، العودة إلى المنطقة بأي شكل من الأشكال، إذ تفضّل البقاء في الجبل، فهي منذ التفجير تعاني صدمة نفسية. “صار عندي خوف وقلق، دغري بنهار وببكي، صرت خاف من كل شي، بخاف إطلع بالسيارة، ما بحسّ بأمان إلّا بالجبل، هون بنام مرتاحة”، تقول في اتصال مع “المفكرة”.
تعود فيوليت إلى يوم التفجير وتروي أنّها كانت تقيم في المنزل مع زوجها وعاملة المنزل، انتابها شعور بالخوف فجأة وخرجت بشكل تلقائي إلى الدرج وما هي إلا ثوانٍ حتى وقع التفجير، نجت هي وبقية أفراد العائلة إلّا أنّها خسرت الكثير من جيرانها وصديقاتها في الانفجار. “بس طلّ على الحي بتذكّر كيف كنا عايشين، كان الحي كلّه فرح وأمان ، هلق صرت شوفوا أسود”.
تقول إنّ جمعيات عدّة قامت بترميم أجزاء من المنزل، منها من تكفّلت بالزجاج منها من تكفّلت بالأبواب، فيما تكفلت هي بجزء على نفقتها الخاصّة، أما زوجها الذي يملك سوبرماركت صغيرًا في الشارع بعقد إيجار قديم، فينتقل يوميًا من الجبل إلى مار مخايل ويعود في المساء، “قفلنا بيتنا ببيروت لي صرنا 50 سنة قاعدين فيه”.
تأقلم السكان خارج منازلهم
“بعد التفجير عشنا موجة هجرة جديدة وما رح نرجع، تأقلمنا فيكي تقولي”، يقول بسام غلام من سكان شارع الجميزة، الذي غادر المنطقة بعد التفجير ولم يعد إليها على الرغم من انتهاء أعمال ترميم وإصلاح العمارة التي كان يسكنها وعدد من أقاربه “البيت خلص بعد سنتين من التفجير، أولادي بسبب التفجير غيّرتلهم مدرسة ومش رح إرجع إنقلهم مرة ثانية”. ويضيف أنّ والدته وحدها من عادت إلى المنزل. أما العائلات الخمسة الباقية التي كانت تسكن العمارة قبل الانفجار فـ “عمي ومرتو انصابوا بالتفجير وهاجروا أخذهم ابنهم على أميركا. عمتي فلّت عالجبل. عمتي الثانية بعد التفجير كانت كثير مريضة فاتت دار عجزة، قال ما بدها ترجع على الحي”.
أما جوزفين فتقول إنّها لا تريد العودة إلى منزلها في مار مخايل، فالمنطقة برمّتها تغيّرت كثيرًا وباتت غير مؤهّلة لسكن العائلات وكبار السن برأيها. “اجت المطاعم والبارات اجتاحوا المنطقة، قبل كنّا ننزل ع دكّان الحي واللحام والفرن وغيره هلّق ما منلاقي شي، بدنا نمشي مدري أديه لنلاقي دكانة”.
أما صاحب سوبرماركت صليبا في شارع مار مخايل الرئيسي فيقول لـ “المفكرة إنّه يعمل في المنطقة منذ أكثر من 30 عامًا، وكان على معرفة بمعظم سكان المنطقة الذين كانوا زبائنه، وقد غادر كثيرون بعد التفجير ليحلّ مكانهم أناس جدد، “كلّها وجوه جديدة ما منعرف حدا”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.