إن البشر قادرون على القتل من أجل مصالحهم، تماماً كما يعرفون كيف يموتون من أجل أفكارهم!
عياض بن عاشور، أخلاق الثورات
الثورة عمل خطير وغامض وغير محسوب العواقب. ربَّما تبدو هذه الأوصاف بديهيةً، لكنها تجد في كتاب عياض بن عاشور “أخلاق الثورات” (la Maison des sciences de l’homme – Paris 2023)، تفسيراً لها؛ تفسيرًا للخطورة والغموض والمصائر المأساوية لها ولأصحابها. وربما نجد فيما يجري في تونس اليوم، برهاناً على ذلك التاريخ الثوري الماكر، الذي ينقلب إلى الضد مستيعداً أمجاد النظم القديمة دفعةً واحدةً وكأنها لم تسقط يوماً تحت قبضات الثوار وصيحاتهم في الشوارع والساحات، وربما يكون النموذج العربي المُعَمَّم أكثر وضوحاً لذلك.
لكن الكتاب، الذي يعالج طرحاً فائراً ومستمراً، يطرح تحليلاً بارداً ورصيناً، ليس فقط للثورات العربية المهزومة، بل لتاريخ طويلٍ ومتعرّجٍ من الثورات شرقاً وغرباً، ضمن نهجٍ مقارنٍ، تبدو فيه شخصية بن عاشور الفيلسوف أكثر حضوراً من شخصيته القانونية الصارمة. موزعاً عمله على ستة فصولٍ. يطرح في الأول منها مسألة نشأة وإشكاليات مفهوم الثورة. وفي الثاني، الأسباب والأغراض والظواهر التي تحرك الثورات وتَظهر من خلالها، مسلطاً الضوء على قضايا العنف والعنف المضاد واللاعنف في ظل الثورات. وفي الفصل الثالث، يُقدم المؤلف أخلاقيات الثورات الديمقراطية، أساسها الفلسفي وسياقها التاريخي. فيما يقارب في الفصل الرابع العلاقة بين الثورات والأديان، من خلال المثال الأوروبي الحديث والمثال الإسلامي التراثي. أما في الفصل الخامس فيُعالج ثورات التحرير. ويختم بن عاشور بفصلٍ أساسي ومركزي عن الثورات الأفريقية والعربية.
خُطاطة للمفهوم والتاريخ
قبل أكثر من ثلاث سنواتٍ، قرّر الرئيس قيس سعيّد، تغيير تاريخ الاحتفال بذكرى الثورة من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر من كل سنة، معتبرا أن التاريخ الأوّل غير ملائم. ربما يبدو هذا القرار ضمن قرارتٍ كثيرةٍ للرئيس تكشف عن تفكيره المختلف عن السائد، ولكنه مع ذلك يطرح إشكالية مهمة وهي ما هي المؤشرات أو المعايير التي تُحدد ما إذا كانت سلسلة معينة من الأحداث تشكّل ثورة؟ ما هو تاريخ بدايتها وما هي نقطة وصولها؟ وهي إشكاليات يُحاول بن عاشور مناقشتها في فصلٍ مخصّصٍ لجدل المفهوم والتعريف. هناك دائماً خلاف حول تعريف الثورة. وهذا الخلاف لا ينشب فقط بين المستفيد من الثورات والمتضرر منها، ولكن في حقول المعرفة الفلسفية والاجتماعية على نحو واسعٍ. عندما يستكمل التاريخ تشكّله، يكون من السهل تعريف الثورة، أي ضمن قراءة استرجاعية للحدث الثوري، كما يشير إلى ذلك المؤلف. أي أن الثورة تصبح ثورةً عندما يموت الوضع الراهن ويتشكل بدلا عنه وضع جديد. فنحن نعلم مسبقاً ما نتحدث عنه عندما نستخدم تعبيرات مثل الثورة العباسية، والثورة الموحدية، والثورة الإيرانية، والثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والثورة البلشفية، أو الثورة الصينية. وهذا التعريف هو في كثير من الأحيان قرار يتخذه أحد المؤرخين على الخطوط الأمامية بعد وقوع الأحداث.
يُلفت بن عاشور إلى ذاتية الباحث عن تعريف ومفهومٍ للثورة. فهذا الباحث سيكون دائماً محاصراً بتجربته الشخصية وميوله السياسية وبيئته العلمية، والنتيجة هي أن المفهوم يصبح مادة سائلة وقابلة للتشكيل وحتى غامضة في بعض الأحيان. ودون أن يشير إلى ذلك ربّما يوجه المؤلف نقداً خفياً للسردّ اليساري للثورات، والذي كثيراً ما يحصر الثورات في تعريف ونموذج لينيني يُطالب الثورة بنظريةٍ ثورية وقيادة ثوريةٍ وتنظيم ثوري من دون إدراك أن المفهوم، في العلوم الاجتماعية، منذ نشأته، كان متأثر بخطيئة أصلية تتمثل في كونه مادة غير مستقرة. ولا يُشكل مفهوم الثورة استثناءً لهذه القاعدة. وكما هي الحال مع العديد من المفاهيم، فإن مفهوم الثورة يتجاوز نشأته، وأيّ تعريفٍ له لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً. ومن خلال رحلة عبر الفضاء الأوروبي وامتداداته الأمريكية يحاول بن عاشور التعرّف على الأصل التاريخيّ لمفهوم الثورة، بدايةً بالدور الرائد الذي لعبه العصر الذهبي الهولندي في تطوير الثورات الأوروبية، وخاصة مع سبينوزا، وصولاً إلى الثورة الفرنسية.
لكن التعريف والمفهوم ليسا مسألةً مجردةً عن التجربة الثورية في ذاتها، والتي تتضمن سبب قيامها وأهدافها ورموزها وذاكرتها. وفي ذلك يَنقل بن عاشور عن المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرسو قوله: “ترتبط المفاهيم والتجارب والرموز والذاكرة ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض، وتُشكل أقطابًا متعددة لمجال مغناطيسي ثوري واحد. تُضفي الثورات على المفهوم بُعدًا ملموسًا. وترجمتها إلى واقع تُحوّلها إلى رموز وتخلق نماذج سياسية تُصبح في النهاية أماكن للذاكرة”. لذلك فإن الثورة ليست حدثًا فرديًا، بل ظاهرة مُعقّدة من خلال فاعليها وضحاياها، ومساحاتها، وزمانيتها، ومخاطرها، وآثارها على المجتمع والسياسة، كما يشير إلى ذلك عالم الاجتماع السياسي الأمريكي جاك غولدستون.
الثورة وأخلاقها
بدايةً من الفصل الثالث يلِجُ الكاتب موضوع الكتاب الرئيسيّ، وهو أخلاقيات الثورات الديمقراطية، والذي يُعالج طبيعة القيم التي تحرك الثورات، من منظور الفلسفة السياسية. يشير بن عاشور إلى أن مسألة الثورة الديمقراطية هي مسألة أخلاقية للغاية تتجاوَز نظريات السيادة والعقد والإرادة العامة والإجراءات والمؤسسات وطريقة عمل الأحزاب السياسية والأنظمة والدساتير والقوانين، فضلاً عن الحريات الخاصة. فكلّ هذه الفئات ليست سوى جزئيات تَدخل في تكوين الديمقراطية. لذلك لا ينبغي لنا أن نختزل الكل في الجزء. لأن هذا الاختزال من شأنه أن يُفضي إلى النتيجة التي توصّل إليها ريمون آرون، وهي أن “مفهومي الديمقراطية والثورة متناقضان”. من جانبه يدافع الكاتب عن ضرورة أن ننظر إلى مفهومي الثورة والديمقراطية كمفهومين متكاملين، مستنداً إلى الدافع الأخلاقي لكلٍ منهما. فالأخلاق هي نقد ما هو سائد لصالح ما ينبغي أن يسود فيما يتعلق بمبادئ الكرامة الإنسانية والحرية. ومن ثمّ فإن أية ثورة تهدف إلى تحقيق هذه المبادئ هي ثورة ديمقراطية.
ويقود سؤال الأخلاق في الثورة إلى الدين بالضرورة. لأن الدين كما يمكن أن يكون دافعاً أخلاقياً عظيماً للثورات الديمقراطية، يمكن في الوقت نفسه أن يحولها إلى كارثةٍ، وربما الشواهد في العالم العربي والإسلامي على ذلك كافيةُ للتحوطّ والتعلمّ. فضلاً عن ذلك فإن الدين نفسه في أول ظهوره كان ثورةً على السائد. ولأنه محكوم عليه بأن يُثبت نفسه بشكل دائم في التاريخ، فكان لابد له أن ينتقل من المرحلة الثورية إلى المرحلة المحافظة، حتى يتمكّن من الاستمرار. في المجال الأوروبي، تشغل النضالات باسم الدين أو ضده جزءاً كبيراً من التاريخ الثوري. فقد أظهر كل من أليكسيس دو توكفيل، وتوماس باين، وإدغار كوينيه، وماكس فيبر، أن الدين أو اللاهوت أو الإصلاح الديني شكّلت دائماً مصادر الثورات الغربية الكبرى، بما في ذلك الثورة الفرنسية التي رفعت شعار اللائكية، وقد ألقى إدغار كوينيه مؤلف كتاب “المسيحية والثورة” الضوء على هذا الجانب بوضوح.
أما في المجال الإسلامي، فقد شَكّلَ الإسلام المحمدي الأول ثورة دينية وأخلاقية خَلقَت في الوقت نفسه ثورة اجتماعية قلبت موازين القوى الطبقية والاقتصادية بشكل جذري. لكن عندما تحوَّلَ إلى دولة ظهرت سمات المحافظة في العهد الإمبراطوري، وتحوّلت معها فكرة الثورة مع طبقة الفقهاء إلى “فتنة”. ومن الشائع في كتب التراث إطلاق صفة “الفتنة” على عمليات التمردّ ضد الحُكام. ومع ذلك ظَلَّ الإسلام دائماً يحتفظ بنَفَسّ ثوري، سواء من خلال وجود مجموعات أو طوائف داخله سعت إلى تثوير العقيدة بشكل مستمرّ، أو من خلال توظيفه لإيقاد نار الثورات أو دفعها إلى الأمام. وهذه أحد الأسباب التي جعلت الإسلام قادراً على التكيف حتى مع السردّ الماركسي، كما تشهد على ذلك تجربة التتار البلاشفة وأتباع الثوري ساجد سلطان غالييف أو تجربة الشيوعي المسلم الإندونيسي تان مالاكا (1897-1949).
في معرض تناوله لفكرة اختفاء الأديان في المستقبل، يدافع سلطان غالييف عن فكرة أن الإسلام يتضمن معايير تقدمية، ولا سيما غياب المِلكية الخاصة للأرض والموارد ، مؤكداً أن الإسلام “دين مضطهد” يتمتع بقوة تحررية. وهذا مؤشر على أن الإسلام تَمكَّنَ من التكيف مع الثورات الحديثة، سواء الليبرالية منها، أو الماركسية. ويُمثل مؤتمر باكو الذي عُقِدَ في سبتمبر 1920 هذه الذروة من التداخل بين الإسلام والثورية الماركسية التي تقاسمتها الشعوب المسلمة في ذلك الوقت. لكن الشغف الديني، وإن شكل دائماً أحد محركات اندلاع الثورات، فإن الدافع الأساسي الذي يَلعب دوراً عادة في إطلاق العمليات والظواهر الثورية يتعلق بكرامة الأفراد أو الشعوب المستعبدة التي تُطالب بالسيطرة على مصيرها أو المساواة في مواجهة قوة مهيمنة، خاصةً وأن الدين نفسه يمكن أن يُشعل الثورة ثم يبتلعها كما جرى في الثورة الإيرانية، التي أعادت تعريف الأخلاقيات الكونية من خلال تضييقها إلى العالم الإسلامي وحده، ثم حصرتها في مذهبٍ معينّ، وبالتالي أعادتّ إنتاج النظام الذي أسقطته، ولكن على نحوٍ معاكس.
الثورات العربية ومعنى الفشل
في الفصل الأخير من الكتاب يَهتمّ عياض بن عاشور بالثورات الأفريقية والعربية، وهما بحسبه يتحركان، بغض النظر عن قربهما الجغرافي، بطاقة مشتركة تُبرّر دراستهما معاً. لقد كان هذان الفضاءان الإنسانيان، منذ قرن من الزمان، في ثورة فكرية وسياسية ضد حالة التخلف المادي والاغتراب السياسي. وفي واقع الأمر، فإن أغلب البلدان التابعة لهذه المناطق الجغرافية شَهِدَت حالات استعماريّة بدرجات متفاوتة من الشدّة. حيث أن تاريخهما الحالي مشروط، إلى حد ما، بهذا الوضع. وردًّا على السلب المادي والمعنوي الذي فرضه الاستعمار، طورت هذه البلدان ثقافة “ثورية” مضادة. كما يُشكل الإسلام عاملاً محورياً في كل تفكير يتعلّق بأفريقيا والعالم العربي.
كان إدوارد ويلموت بليدن (1832-1912)، أحد آباء الحركة العابرة للحدود الوطنية المسماة “الحركة الأفريقية”، والمؤيد للمسكونية المسيحية في التطور الأخلاقي لأفريقيا يعتقد أن الإسلام بعد أن لعب دورًا حضاريًا وأخلاقيًا وروحيًا في القارة الأفريقية (مقارنة بالوثنية)، يجب أن يُنظَر إليه بجدية وواقعية، وأن فهم المسيحية والإسلام ضروري للتنمية المتوازنة لأفريقيا. كما يشير بن عاشور إلى عامل مركزي آخر، وهو أخلاقيات السّخط، الحاضرة بقوةٍ ووضوحٍ في أفريقيا السوداء، التي ينزف جسدها وعقلها من المعاناة ذات الجذور المتعددة. وقد أدّى هذا إلى ولادة وتطور الحركة القومية الأفريقية، فضلاً عن مظاهر ثورية أخرى، مثل ثورات الاستقلال، والاشتراكية الأفريقية، أو الثورة الكبرى ضد نظام الفصل العنصري. أما العالم العربي فهو يبحث عن مساره بين صمود النظام الوراثي والضغط المشترك للإسلاموية والقومية والاشتراكية والديمقراطية. وهذا يُعطي العالم العربي صورة انتقال لا نهاية له بين حاضر غير مؤكد وعنيف حيث ما زالت القوى المحافظة السياسية قويةً وبين دعوة عنيدة للديمقراطية. ومع ذلك، فإنها تظل وستظل لفترة طويلة في وضع ثوري ديمقراطي محتمل.
ينطلق بن عاشور من النصف الأول للقرن العشرين في دراسة الديناميات الثورية العربية، التي لعبت ثلاثة عوامل دوراً في تشكيلها، أوّلها إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924 الذي كان بمثابة جرح عميق في معظم أنحاء العالم الإسلامي وأثار العديد من ردود الفعل. ورغم أن الثورة العربية عام 1916 لم تكن منفصلة عن أزمة الإمبراطورية العثمانية، فإن العرب لم يقبلوا هذا الحدث الذي أشعرهم بفقدان مظلةٍ رمزية. وثانياً تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل في عام 1948، وما رافق ذلك وأعقب من فشل للدول العربية في المواجهة. وقد أدى ذلك إلى تجذير الأفكار والنزعات الثورية العربية بقوة. وثالثاً، البنية الطبقية للمجتمع العربي، وسمتها الأساسية عدم المساواة الاجتماعية الحقيقية أو الرمزية. وعلى أساس هذه العوامل ظهرت منذ ذلك الوقت موجات ثورية وأفكار وحركات فشلت جميعها بتفاوتٍ ونسبيةٍ في تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والمساواة، التي أخذت دائماً طابع الدفاع عن الاشتراكية. ويحلّل الكاتب في هذا الفصل من بين هذه المحاولات تجربة جمال عبد الناصر في مصر وطموحاتها الوحدوية وكذلك “الأمل البعثي” الذي تحوَّلَ إلى كابوسٍ عندما انتقل من الثورة إلى الدولة.
وفي نقاش الثورات العربية الحديثة يطرح بن عاشور الجدل حول تعريف الثورة مرة أخرى. لكنه لا يَميل إلى البحث عن مثال تاريخي ليَقيس عليه الثورة في تونس مثلاً. وهو بذلك أميل إلى رأي ميشيل كامو الذي يعتبرها ثورة اجتماعية مستمرةً، أو مساراً متعرّجاً على إيقاع التقدم والتراجع في اضطرابات أزمة الهيمنة. ويبدو أن استمرار أزمة الشرعية والشرعية المضادة، حتى انقلاب 25 جويلية 2021، يثبت صحة ما قاله كاماو. وهذا الأمر ينسحب على بقية الثورات العربية، التي يظهر في استمرارها من عام 2011 إلى عام 2019 أنها ليست مجرد ومضات عابرة، بل تُمثّل اتجاهات رئيسية في التطور السياسي للعالم العربي على طريق التمرد الديمقراطي، أو على الأقل وعداً بمستقبلٍ ديمقراطي لن يكون بعيداً. ولذلك يصبح توصيف النجاح والفشل تجاه هذه الثورات غير ذي قيمةٍ.
ويُقدّم المؤلف تفسيراتٍ للإخفاقات التي شهدتها الثورات في تونس والعالم العربي، ومنها صعوبة الفصل بين القضايا الدينية والقضايا السياسية؛ غياب الثقافة الديمقراطية، الانقسامات العرقية أو القبلية أو الإقليمية. حيث تشير التجارب في العالم العربي، وخاصة في مصر وتونس، إلى أن الانتخابات الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى انتصار الأحزاب أو الشخصيات المناهضة للديمقراطية. وذلك يعود إلى غياب الثقافة الديمقراطية المجتمعية، التي يحتاجها النظام الديمقراطي حتى يتمكن من أداء وظائفه. فالمجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي تعمل فيه الأسرة والنقابات والجمعيات والشركات والأحزاب السياسية وفق العقلية الديمقراطية، وهي عقلية أولاً وأساساً نقدية، تعترف بحق الاختلاف. وكذلك، وعلى نحو أهم، لابد من وجود الحد الأدنى من الإجماع على الدولة وطبيعتها وحدودها. حيث مازالت الكثير من الدول العربية تتألّف من مجتمعات لم تصل بعد إلى مرحلة “المجتمعات القومية”. ويظل البناء الاجتماعي، مع بعض الاستثناءات، هو البناء الذي لا تزال فيه الجماعات الدينية والإثنية والقبلية تحتفظ بمكانتها. فضلاً عن دور الثورة المضادة، التي بحسب الكاتب، ذات نموذج مجزأ ومتعدد الأبعاد. فهي على النقيض من الثورة المضادة الأوروبية في القرن الثامن عشر لا تتمتع بوحدة عقائدية، لأنها تُركّز بشكل صارم على قضايا السلطة. وتعود مصادرها إلى اجتماع عدة عوامل؛ منها رغبة أصحاب السلطة في إدامة سلطتهم، وضمان استمرارها لورثتهم أو طبقتهم أو طائفتهم، من خلال القمع المنهجي. وعلى نحو شبه حتمي يقود ذلك إلى تدخل قوى ثورة مضادة خارجية، وهنا تدخل الثورات مرحلة التحدي الجيوسياسي، الذي من شأنه تحويلها إلى حروب أهلية تُنتج مجتمعات مفككةً ودولاً فاشلة.