اقترنت سنة 2020 بجائحة كوفيد 19 وما تولّد عنها من منازعات خصوصية وتعطيل لإنتاج العدالة. ويبدو من المهمّ في هذا السياق التقليب في فقه القضاء الذي خلّف، على قلّته، سؤالاً حول تمثُّل القضاء المهني للحقوق والحرّيّات في سنة كثرت قيودها.
الحقّ في المحاكمة العادلة: رغم “فوبيا الحجر الصحّي” يتمسّك بعض القضاء بشرعيّة الجرائم والعقوبات
في 18 مارس 2020، وفي إطار التوقّي من جائحة الكورونا في موجتها الأولى، أقرّ رئيس الجمهوريّة التونسية قيس سعيد منعاً عامّاً للجولان من الساعة السادسة مساء إلى الساعة السادسة صباحاً. استدعى ضعفُ الالتزام المواطني بالإجراءات المتّخذة، وما يعنيه ذلك من خطورة على الصحّة العامّة، أن تستعمل الدولة صلاحيّة الضبط العدلي لإنفاذه على أرض الواقع. فأصدرت محاكم عديدة أحكاماً بالسجن النافذ في حقّ المخالفين في سياق ما عُدّ مساهمة في المجهود الوطني لمكافحة الوباء. ورأى جانبٌ من المتابعين، من ضمنهم جمعيّة القضاة التونسيين، هذا التوجّه إيجابياً ويستحقّ الدعم والتعريف به.
خرجت هنا الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس-2 برئاسة وكيل رئيسها علي خليف وعضويّة القاضيين نعيمة بلطيف وأحمد البهلول عن الرأي الغالب واعتبرت في العديد من أحكامها، منها الحكم رقم 3568 الذي أصدرته في تاريخ 31 مارس 2020 “أنّ القاضي الجزائي قاضي شرعية (Juge de légalité)” أي أنّه “ملزَم بالتحقّق في شرعيّة النص التجريمي المستند إليه فلا يطبّق إلّا النص الصادر عن الجهة المخوَّلة دستورياً ضبط الجرائم والعقوبات”. ونبّهت إلى أنّ “الأحكام الجزائية الواردة بالفصل 9 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 مشوبة بعدم الشرعية لاتّخاذها من رئيس الجمهوريّة خارج حدود السلطة الترتيبية المخوَّلة بالدستور وفي تدخّل صارخ في الميدان الحصري للقوانين بما يستوجب استبعادها وعدم اعتمادها للتجريم والعقاب اعتباراً للدور الموكول للقاضي كحامٍ للحقوق والحرّيّات بصريح الفصل 102 من الدستور”، لتقرّر بعد ذلك عدم سماع الدعوى في تلك التهمة في حقّ مَن أُحيلوا إليها لغياب ركنها الشرعي.
وكانت الحجّة القوية التي قدّمها رافضو “مقاضاة مخالفي حجر الجولان بأمر رئاسي” الدافع الرئيسي لتضمين “المرسوم عدد 9 المتّصل بجرائم مخالِفة لقرار الحجر الصحي (ومنها خرق حظر الجولان) والتدابير الخاصّة بالأشخاص المرضى بالكوفيد 19” قواعدَ تجريم خاصّة لا تتضمّن عقوبات سجنية.
في سياق التعامل ذاته مع آثار الجائحة كان فقه القضاء الاستعجالي في حماية الفاعل الاقتصادي.
قضاء العجلة: الحجر الصحّي “فعل أمير” يبرّر الإخلال بالالتزامات
عطّل الحجر الصحي الشامل الذي قرّرته الحكومة التونسية في بداية جائحة الكورونا النشاط الاقتصادي بشكل كبير. وكان من آثاره انكماش اقتصادي بنسبة 7.3%، وهو أمر لم تشهده تونس منذ 1966. وفي هذا الإطار، كانت المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة أكثر تأثّراً بالأزمة من غيرها، خصوصاً التي تنشط في قطاعات السياحة والمقاهي والمطاعم. فقد عجز عدد كبير منها عن الإيفاء بالتزاماته، تحديداً المتعلّقة بأداء معيّنات كراء مقرّاتها، فرفع مالكو العقارات قضايا قضايا ضدّها لمطالبتها استعجاليّاً بالخروج من المكرى.
استند معظم قضاة الدوائر الاستعجالية في مختلف المحاكم التونسية إلى الحجر الصحي ليقولوا إنّ عجز المستأجرين عن الإيفاء بالتزاماتهم نتيجة لأمر طارئ من قبيل فعل الأمير ينفي كلّ جدّيّة لطلب إخراجهم من المكرى. وكرّس القاضي محمد البراملي في المحكمة الابتدائية في نابل في حكمه عدد 11120 الصادر في تاريخ 18 أوت 2020 الذي يصلح مثالاً على اجتهاد انتصر لفئات احتاجت مساعدة القضاء لتجاوز صعوبات فُرضت عليها.
القضاء الإداري: مركز الإيواء والتوجيه للحرس الوطني في الوردية خارج القانون
تقدّر المنظَّمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين من دول جنوب الصحراء إلى تونس بأكثر من سبعين ألفاً. وتجعل التدابير الحمائية للعمالة المحلّية المُعتَمَدة فرص هؤلاء – وهم غالباً من غير ذوي الكفاءة المهنية – في تحصيل عقود عمل قانونية شبه معدومة. يفرض عليهم، هذا الأمر، هشاشة اقتصادية واجتماعية عنوانها عمل عرضي وإقامة غير قانونية. وقد عمّق توقّف النشاط الاقتصادي جرّاء الحجر الصحّي الشامل مشاكل هذه الفئة، حيث فرض على الأغلبيّة الساحقة منها التوقّف عن العمل من دون توفير أيّ نظام حماية اجتماعية لها.
تنبّهت منظّمات المجتمع المدني وعدد من البلديّات للأمر فنظّمت حملات مسانَدة لهم، من ضمن أهدافها دعمهم مادّياً وإقناع المالكين بإعفائهم مؤقّتاً من دفع معاليم الكراء. وأجبر الضغط الحقوقي الحكومة على تكوين “لجنة متابعة الوضعيات الإنسانية للأجانب المقيمين بتونس” في ما بدا اعترافاً منها للمرّة الأولى بحاجة العمالة الأجنبية في تونس إلى حماية من السلطة. في الوقت ذاته، لكن في اتّجاه معاكس لهذا، واصلت السلطة ذاتها ضبط المهاجرين غير الشرعيين استعداداً لترحيلهم إلى بلدانهم متى أُعيد فتح المجال الجوّي. تدخّلت منظّمات المجتمع المدني مرّة أخرى مستخدِمةً القضاء كساحة لمنع ما اعتبرته تعسّفاً، ما أدّى إلى صدور قرارات قضائية مهمّة في المجال وجب التوقّف عندها.
في سنة 2019، اهتمّ المنتدى الاقتصادي والاجتماعي، وهو من أبرز جمعيّات المجتمع المدني التونسي، بدراسة وضعيّة من يُعمَل على ترحيلهم إلى بلدانهم. تطوّر هذا الاهتمام مع بداية جائحة كورونا إلى سؤال حول حقوق المحتجزين في انتظار الترحيل ومشروعيّة الإجراءات المتَّخذة في حقهم وأفضى إلى نزاعات رفعها ثمانية مهاجرين مودَعين في “مركز الإيواء والتوجيه للحرس الوطني بالوردية” وتعهّدت بها رئاسة المحكمة الإدارية في إطار قضاء إيقاف التنفيذ.
تمسّك محامو المنتدى الذين باشروا القضايا بأنّ الإيداع في مركز ترحيل ليس إلّا إيقافاً إدارياً للأفراد، وهو يخرق بذلك الدستور في فصلَيْه 29 و49 اللذَين يوجبان أن يكون الإيقاف بقرار قضائي. وأصرّوا على أنّ ليس لمراكز الإيواء نظام قانوني يؤطّر عملها ما يجعلها مراكز احتجاز غير قانوني للأشخاص. صدر الحكم في القضايا عن الرئيس الأوّل للمحكمة الإدارية عبد السلام المهدي قريصيعة في تاريخ 10 جويلية 2020 واعتبر أنّ “مبدأ المساواة في التمتّع بالحقوق الأساسية اللصيقة بذات الإنسان مبدأ ملزم بغضّ النظر عن الجنسية أو مطابقة وضعيّة المعني بالأمر للقانون المنظِّم لحالة الأجانب وأنّ الحقّ في التمتّع بالحرّيّة الشخصية لا يُنتقَص منه إلّا في الصورة المقرَّرة بالقانون وبمقتضى إجراء قضائي أو احترازي في الصور التي يهدّد فيها الأجنبي الأمن العامّ”. وعليه، يكون “إيواء شخص في مركز تابع لهيكل عمومي دون أن يكون ذلك في إطار قضائي أو في إحدى الصور المنصوص عليها بالقانون عدد 7 لسنة 1968 ودون إثبات أنّه يشكّل خطراً على الأمن العام… مخالفاً للشرعيّة في ظاهره”.
لم يُبدِ هنا القاضي الإداري موقفاً ممّا أُثير حول غياب إطار ترتيبي ينظّم مراكز الإيواء، بالتالي لم يُجب عن سؤال شرعيّتها رغم أهمّيّته. وفرضت أحكامه قيوداً على ممارسة الدولة لسلطاتها في ما يتعلّق باحتجاز الأجانب تمهيداً لترحيلهم، أساسها تحميل الدولة عبء إثبات أنّهم يشكّلون خطراً على الأمن العامّ.
يتجاوز هنا منطوق القرارات ما هو مقرّر من حجّيّة نسبية لمفاعيل الأحكام القضائية ليؤسّس لفكرة الحكم الكاشف عن الحقّ. وهي خاصّيّة يشترك فيها مع حكم صدر عن المحكمة الابتدائية في مدنين خلال الفترة ذاتها يتعلّق موضوعه، في بُعده الحقوقي، بتنقية الثقافة من ترسّبات العبودية.
فقه قضاء محكمة مدنين: يجب أن يحترم اسمُ الشخص كرامتَه الإنسانية
حفّزت جمعيّات حقوقية عدّة، أهمّها مجموعة حقوق الأقليّات بتونس، في إطار نشاطها الهادف إلى مكافحة العنصريّة ونشر الوعي بمظاهرها، المواطن حمدان عتيق دالي الذي ناهز عمره الثمانين عاماً على المطالبة بتغيير لقبه. وقد استندت الجمعيّات لهذه الغاية إلى أنّ لقب “عتيق” يشير إلى أنّه من أحفاد الذين أُعتقوا من العبوديّة. الأمر الذي يشكّل اعتداء على حقّه كمواطن واستذكاراً للممارسات المهينة للإنسان التي يجب القطع معها ومخالفة للقانون المتعلّق بالقضاء على كلّ أشكال العنصرية. لم تستجِبْ وزارة العدل في 2018 لطلب حمدان فلجأ، بواسطة محاميته حنان بن حسّانة، إلى الدائرة الشخصية في المحكمة الابتدائية في مدنين طلباً لحذف الجزء المسيء من لقبه.
على إثر ذلك، في 12 أكتوبر 2020، أصدرت المحكمة المذكورة (برئاسة القاضية منتهى الضوافلي وعضويّة القاضيين انتصار الورغمي وعصام الكفاف) حكماً اعتبر أنّ “وظيفة القضاء تقوم على حماية الحقوق الأساسية، ومنها حماية حقّ المدّعي في هويّة لا تنتهك حقوق الإنسان” وأنّ إضافة “عتيق” إلى لقب المدّعي يدلّ بصفة قطعية على ماضٍ عاشه أسلافه الذين كانوا يعانون من العبوديّة. وهو ما “من شأنه أن يمسّ بكرامته، وأن يميّز سلبيّا ضدّه مقارنة ببقيّة سكان منطقته”.
يندرج هذا الحكم، كما الذي سبقه، في إطار تطوّر استعمال القضاء ساحةَ نضالٍ من أجل تكريس الحقوق. وهي ممارسة حديثة نسبيّاً في تونس قد يكون من أسبابها تطوّر الالتزام القضائي الحقوقي الذي يظهر في العديد من الأحكام القضائية.
جرائم التشهير: تراجُع عن اعتماد النصوص الجزائية العامة
دعت المنظّمات الدولية الحقوقية في تونس إلى تعديل قوانينها بما يُنهي تجريم التشهير ويجعل منه موضوعاً مدنياً كما تقتضي المعايير الدولية لحرّيّة التعبير، لكن لم يكن تعاطي السلطة السياسية إيجابياً مع هذه الطلبات. فاستمرّت الملاحقات القضائية لهذه الجرائم ترافقت مع تشدّد القضاء وأبرز مظاهره أحكام بالسجن النافذ في حقّ صحافيين على خلفية جرائم مماثلة رغم كون المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلّق بالإعلام يكتفي بخطايا مالية في جرائم كهذه.
في ما بدا انعطافة عن هذا التوجّه، أصدرت الدائرة الجناحية في المحكمة الابتدائية في منوبة برئاسة القاضية أنيسة التريشلي وعضويّة القاضيتين حنان عمر وريمة بن معتوق الحكم رقم 1753 في 14 ماي 2020 اعتبرت فيه “أنّ مصادقة تونس على الاتّفاقيات الضامنة لحرّيّة التعبير يلزمها بملاءمة تشريعاتها الداخلية معها”، وأنّ “المرسوم 115 كما يتبيّن ’من الحيثيّات الخاصّة بصدوره‘ يندرج في هذا السياق”. ويفترض هذا القول أنّ هذا المرسوم قد نسخ ما قبله من نصوص تجرّم الثلب باستعمال الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.
خاتمة:
تشير الأحكام المذكورة إلى تطوّر النزعة الحقوقية لدى القضاة التونسيين ودور المجتمع المدني المهتمّ بالدفاع عن حقوق الإنسان في ذلك. يؤمَل أن تتطوّر هذه النزعة، متى تمّ التعليق على هذه الاجتهادات القضائية، بشكل يُبرِز دورها في بناء المجتمع الديمقراطي ويوسّع دائرة النقاش حول وظيفة القضاء الاجتماعية.
نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة