“من السهل اليوم أن تدخل السجن في لحظات وتُعاقَب في لحظات ولكن من الصعب أن تنال حقوقك”. هكذا أراد المحامي حمادي هنشيري[1] توصيف حالة الإفلات من العقاب، عندما يتعلق الأمر بشكايات معروضة ضد أعوان الأمن في تونس. وَاكب حمادي هنشيري حالة العنف البوليسي التي تعرض إليها مُنوّبه بدر بعبو، الناشط الكويري ورئيس الجمعية التونسية للعدالة والمساواة “دمج”، وأشار إلى أنه بعد أكثر من ستة أيام من الواقعة وبعد ثلاثة أيام من إيداعها لدى النيابة العمومية لم تبرح الشكاية الرفوف.
وأضاف هنشيري قائلا: “هناك نوع من التطبيع مع هذه الاعتداءات ومع العنف والتعذيب، بخاصة عندما يكون المشتكَى به عون أمن. فأعوان الأمن لا يذهبون عادة إلى الاستجواب خلال الخروقات والشكايات المرفوعة ضدّهم. ولا يحترمون الاستدعاءات القضائية ولا الأمنية. وعندما يكون أعوان الأمن طرفا في الاعتداء ليس بإمكاننا الذهاب إلى مراكز الأمن للاشتكاء بهم”.
تعرّض الناشط الكويري بدر بعبو إلى الاعتداء من قبل عوني أمن ليلة الخميس 21 أكتوبر 2021، على مستوى تقاطع شارعي جان جوريس وكمال أتاتورك وسط العاصمة. ويَسرد بدر الواقعة قائلا: “تعرّضت إلى الاستجواب من عوني أمن في قلب الشارع، أحدهم بالزي الرسمي وآخر بالزي المدني، دون أدنى موجب لذلك. وقد قالا لي: لماذا تشتمون البوليس؟ لماذا تقدمون شكايات ضدهم؟ وما أعتبره صادما بالنسبة لي هذه المرة أن الرّكل والاعتداء كان مباشرة على الرأس والوجه ولم يقع في أماكن أخرى من الجسد، لأنه عادة ما يتمّ الابتعاد عن الضرب في الوجه والرأس، تجنبا للآثار”. وقد اعتبر بعبو أن الاعتداء الذي تعرض إليه لا يُعد حالة معزولة وإنما يستهدف شريحة بعينها من المدافعين والمدافعات عن الحقوق الكويرية والإنسانية والنسوية.
تحصّل بدر بعبو على شهادة طبية أولية تفيد أنه تعرّض إلى أضرار جسدية بليغة، تستوجب راحة مرضية مدتها 15 يوما. وقد وصف محاميه حمادي هنشيري ما تعرّض له بدر بجريمة التعذيب، قائلا: “طلبنا إحالتها طبقا للقانون كجريمة تعذيب. لأن كل ظروف الواقعة تدلّ على أن بدر تعرّض للرصد وانتهاز الفرصة من أجل الاعتداء عليه بتلك الطريقة. فعندما يتمّ دهس رقبة إنسان، فإن المقصود بذلك القتل. وعندما تنتهي عملية الاعتداء بافتكاك وثائق وجهاز حاسوب يتضمن بيانات متعلقة بنشاطه الحقوقي، فهذه تعد أيضا جريمة تعذيب: أي أن هناك اعتداء بالعنف وإحداث أوجاع بالبدن من أجل افتكاك اعترافات، وهذا هو الإطار القانوني للجريمة”.
دولة البوليس قائمة بعد 25 جويلية
ما زالت الذاكرة الحقوقية في تونس تجرّ خلفها إرثا ثقيلا من الإفلات من العقاب وانتهاكات حقوق الإنسان. كان آخرها اعتقالات جانفي وفيفري 2021، التي استهدفتْ نشطاء وناشطات، وشرائح شبابية واسعة في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية ومجموعات التشجيع الكروي. وقد تعرض معظمهم وفق تقارير حقوقية سابقة إلى التعذيب وسوء المعاملة وتم احتجازهم خارج المعايير القانونية.
لم تشكّل حالة الاستثناء التي فرضها الرئيس قيس سعيد مؤشرا لبداية قطيعة جديدة مع حالة الإفلات من العقاب، أو منعطفا نحو فتح ملفات انتهاكات حقوق الانسان والاعتداءات البوليسية. بل أصبحت مصدرا للقلق والتوجس إزاء الحفاظ على الحقوق الفردية والحريات العامة، بخاصّة أن الاعتداءات البوليسية حافظت على الوتيرة نفسها، لا سيما في الجانب المتعلق بالحقوق الفردية. في هذا السياق، قال أسامة بوعجيلة، وهو ممثل عن التحالف من أجل الأمن والحريات: “بعد 25 جويلية، كنا نعتقد أن العنف البوليسي سيتم مكافحته. ولكن إلى اليوم مازال الخطاب السياسي المتعلق بجريمة التعذيب يتّسم بالضبابية والتهرّب من المسؤولية. الحديث الذي يُشاع حول التعذيب بوصفه حالات شاذة أصبح مضحكا. والسلطة القضائية تقابلنا بالتقاعس والبطء على مستوى تناول الملفات المتعلقة بجريمة التعذيب، رغم أننا إزاء انتهاكات لحقوق الانسان تستحق تناولا أكثر جدية”. وأضاف بوعجيلة: “إن رهان منظومة ما قبل 25 جويلية على إسكات المتظاهرين كان خاطئا. ويبدو أن هذا الرهان مازال متواصلا بعد 25 جويلية إذا لم تُوضع حدود للانتهاكات”.
من جهتها قالت أحلام بوسروال، الكاتبة العامة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات: “الانتهاكات متواصلة وهذا هو المقلق، لأنها ظاهرة متكررة منذ سنوات. إذ أن هناك استمرارية للدولة البوليسية. ومع كل تغيير سياسي يبزغ شيء من الأمل ثم سرعان ما يخبو. فالعنف البوليسي متواصل بشكل ممنهج وسياسي وليس أخطاءً فردية. وانتهاك حقوق المدافعين على حقوق الانسان والمناضلين الكويريين هو استهداف فئة بعينها ومحاولة لإسكات صوتها. والسلطة الحالية لا تُخف قلقها من الحقوق الفردية والمجتمع المدني”.
حملات شبيهة بمحاكم التفتيش
في أول شهر أكتوبر الجاري، أصدرت الجمعية التونسية للعدالة والمساواة “دمج”، بيانا على صفحتها الرسمية بموقع فايسبوك، أشارت فيه إلى تعرّض عابرتيْن جندريا إلى الإيقاف العشوائي من قبل دورية أمنية واحتجازهما من دون موجب قانوني وحرمانهما من حقهن في الاتصال بمحام وافتكاك هواتفهن الجوالة. وأمام الهرسلة الأمنية أقدمت العابرة جندريا “بومبا” أثناء الاحتجاز إلى محاولة الانتحار بعد رمي نفسها من الطابق الأول.
وأشار البيان ذاته إلى تعرّض المحتجزتيْن إلى سوء المعاملة والوصم والتمييز في مستشفى شارل نيكول بالعاصمة، خلال عرضهما على الفحص الطبي، وأثناء احتجازهما بمركز الإيقاف بوشوشة وسط العاصمة. وعند وصولهما إلى سجن المرناقية تم عزلهما مباشرة في غرف انفرادية معدة لمعاقبة مقترفي الجرائم الجنسية، ولا تتوفر فيها أدنى ظروف العيش التي تضمن كرامة الإنسان، بالرغم من إصرارهما على حاجتهما الملحّة في الحصول على التدخل الطبي. وحسب البيان نفسه، عمد أعوان السجن إلى الحلق القسري لشعر “بومبا” وصديقتها بالرغم من توصيات رئيسة وفد الزيارة عن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب التي أجرتْ معهما مقابلة لتوثيق الانتهاك. وقد أكّدت لمدير السجن أنهما سيدتان عابرتان وأن شعرهما جزءً من هويتهما الجندرية.
في هذا السياق، أشار سيف العيادي، الناشط بالجمعية التونسية للعدالة والمساواة “دمج”، إلى أن “الانتهاكات البوليسية المتعلقة بمجتمع الميم-عين والحركة الكويرية في تونس ما زالت مستمرة. وخِلنا أن لحظة 25 جويلية ستكون لحظة فارقة، لكن تفاجأنا في سبتمبر الفارط خلال تحرك يطالب بكشف حقيقة الاغتيالات السياسية ووضع حد للإفلات من العقاب، باعتداءات أمنية على المناضلين والمناضلات وخاصة الكويريين والكويريات”. وأضاف العيادي، قائلا: “هناك احتقان كبير من طرف قوات البوليس وبخاصة منتسبي النقابات الأمنية. وهو ما جعلنا ندرك وجود حملة أمنية ممنهجة، شبيهة بحملات محاكم التفتيش، وهي تتضمن بحثا حول التوجهات الجنسية والتعبيرات الجندرية لبعض الأشخاص. إضافة إلى أن الفحوصات الشرجية مازالت قائمة والتعذيب والعنف البوليسي أيضا”.
ويُذكر أن جمعية “دمج” تقدمت بحوالي 49 شكاية توثق انتهاكات لحقوق الانسان واعتداءات على النشطاء، تورط فيها أعوان أمن. ومنذ سنة 2020، لم تجد هذه القضايا طريقها إلى العدالة، رغم الدلائل المادية التي تُثبت الانتهاكات.
[1] الشهادات المنقولة في هذا المقال وثقتها المفكرة القانونية، خلال ندوة صحفية نظمها يوم 27 أكتوبر 2021 الائتلاف المدني من أجل الحريات الفردية ومرصد الدفاع عن الحق في الاختلاف والتحالف من أجل الأمن والحريات.