أبعد من تدمير “المنشيّة” الأثرية في بعلبك


2024-11-08    |   

أبعد من تدمير “المنشيّة” الأثرية في بعلبك
هياكل بعلبك من المنشية المدمرة

ليس صعبًا على المراقب لتطوّرات الحرب الإسرائيلية على لبنان أن يلاحظ، أنّ جيش العدو لم يعد يوفّر شيئًا أو يحيّد زاوية ما في المناطق التي يهاجمها. كما ليس في إمكان أحد أن يردعه عن استهداف كل ما يقع تحت ناظريه من أماكن ومواقع لا تمت بصلة إلى العمليات الحربية المباشرة. المقصود هنا، إضافة إلى مبان من كلّ نوع، سكّانية في المقام الأوّل، تلك المواقع الأثرية والتاريخية التي ليست بقليلة على الأراضي اللبنانية.

قبل أيام، انهار جزء من السور الغربي للمدينة القديمة في بعلبك، ومنازل أخرى ذات طابع تراثي في المدينة، تحت عصف انفجارات قنابل تزن مئات الكيلوغرامات، وآتية من مصانع سلاح أميركية، ومقدّمة بسخاء إلى وحوش إجرام لا تعرف الرحمة. بعد السور، يبدو أنّ آلات التدمير قد وصلت مواصيلها إلى مكان يتمتع بأهمية تاريخية، أكان من حيث موقعه، أو من حيث نوعية بنائه، وارتباطه الوثيق بتاريخ المدينة المعماري وذاكرتها.

فقد استفقنا في بعلبك، يوم السابع من تشرين الثاني الجاري، على واقعة تدمير “المنشيّة”، بعدما كنا سمعنا الخبر عشية اليوم الذي سبقه، ولم نصدّقه تمامًا. ظننّا أنّ المبنى تضرّر بعدما طال القصف، كما قيل، موقف السيارات المحاذي له. لكن الزيارة الصباحية التي قمنا بها أظهرت لنا حجم “الكارثة”. لم يبقَ من المنشية سوى أكوام من الحجارة، وقطع معدنية وأخرى خشبية، وتراب يغطّي المكان. أمّا على الرصيف، بالقرب من الدمار، فقد توزّع مراسلون من مختلف القنوات التلفزيونية أو الإخبارية. تحسّر المتحدّثون البعلبكيّون على “الفقيدة” بعبارات نسمعها إثر كل مصيبة تحلّ بالمدينة. وفي اليوم المشؤوم نفسه، سقط ما يربو على 50 شهيدًا (53 بحسب آخر الإحصاءات) في مدينة بعلبك وجوارها.

ذهبت المنشية إلى غير رجعة، ولن يُعاد بناؤها، كما يحدث في الدول المتقدّمة التي لا تتخلّى عن تراثها بسهولة. بدأت عملية ترميم كنيسة نوتردام في باريس التي التهمتها النيران في نيسان من العام 2019، فور انتهاء مخطّطات الترميم، وبحرفيّة قلّ نظيرها. لا شيء عندنا يُعاد إلى سابق عهده سوى الفساد وملحقاته، في حال ضعُف، أو ضعُفت، في وقت من الأوقات. هذه الحقيقة تجعل الحزن على ما يضيع من تراثنا أعظم وقعًا، وأشدّ مرارة.

يعود تاريخ بناء المنشية إلى العام 1928، على ما تشير لوحة حجرية كانت تزيّن جزءًا من الواجهة الواقعة إلى الجهة الجنوبية الشرقية، مقابل فندق “بالميرا” الشهير الذي لحقه ضرر أيضًا جرّاء الغارة. وهو اكتسب شهرته لفرط ما استقبل، منذ إنشائه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، شخصيات أدّت دورًا سياسيًا أو فنيًا أو عسكريًا في النصف الأول من القرن العشرين. ما زال “الكتاب الذهبي” الذي يحتفظ به أصحاب الفندق الأصليون من آل ألوف (ربما انتقل بعد بيعه إلى الملّاك الجدد) كلمات وتواقيع خطّها زوّار الفندق، خلال فترات مختلفة. 

طبيعة بناء المنشية وهندستها تتوافق مع طراز معماري يمكن رؤيته في غير منطقة لبنانية: واجهة مؤلّفة من ثلاثة أقواس حادة (باللغة الهندسية)، بحيث يؤدّي القوس الأوسط  دور المدخل، وتحيط بالأقواس نوافذ مستطيلة. حجارة المبنى كلسية، كما في معظم مباني مدينة بعلبك، ذات الطابع البرجوازي، العائدة إلى بداية القرن الماضي. وذلك لكون معظم صخور البقاع، وخصوصًا محيط مدينة بعلبك، يغلب عليها هذا النوع من الحجر الطري الذي يمكن قوْلبته بسهولة، ويميل لونه إلى الأبيض، مع بعض الاصفرار الذي يضيفه إليه الزمن وطبيعة المناخ.

المنشية قبل الدمار

تقول مصادر إنّ المنشية التي بناها الياس أسعد الباشا، كانت عبارة عن مقهى وبار في النصف الأوّل من القرن العشرين. زوار المكان كانوا في معظمهم من الضبّاط الفرنسيين، وذلك في زمن كانت العلب الليلية منتشرة في أمكنة عديدة من المدينة، ولم يبقَ منها في الزمن الحاضر سوى بعض الذكريات في أذهان من بقي على قيد الحياة، ممّن عاصروا تلك المرحلة. لا شكّ أنّ مشهد المحيط الخارجي الذي كان من الممكن رؤيته من نوافذ البناء، بدا مؤثّرًا: فندق بالميرا ذو البناء الجميل من الجهة الشرقية – الجنوبية، وهياكل قلعة بعلبك من الجهة الغربية، وخصوصًا أن معاينة المشهد لم تصطدم بحواجز طبيعية أو معمارية. هذا، إذا ما استثنينا بناءً تراثيًا ذا هندسة مميزة بدوره مؤلفًا من طبقتين، يقع إلى الجهة الشمالية، تتموضع فيه في الفترة الحالية مديرية الآثار، بعدما تمّ ترميمه قبل سنوات قليلة على أيدي اختصاصيين إيطاليين.

إلى هذا المشهد المكاني الواقع عند بداية الحي المسيحي في بعلبك من ناحية الشرق وتحدّه القلعة من الغرب، والذي يعبق بالتاريخ،  أضيف من الجهة الغربية ما يُسمى “بستان الخان”، الذي هو في الواقع، كما تفيد بعض المصادر، عبارة عن سوق روماني متّصل بقلعة بعلبك، لا تبعد عنه الغارة الإسرائيلية أكثر من نحو 70 مترًا، ونحو 200 متر عن القلعة. السوق، المؤلف من صف من الأعمدة، يتوسّطه قوس سريري كانت عناصره متهدّمة ومطمورة، حتى ستينيّات القرن الماضي. كان المكان عبارة عن أرض عادية ظهرت منها، وتبعثرت فيها بعض الحجارة وقطع الأعمدة، إلى أن قامت عملية ترميم جبارة، أشبه بعملية بناء، تحت إشراف المهندس وعالم الآثار البروفسور كايلان، وذلك برعاية الأمير موريس شهاب مدير دائرة الآثار حينذاك. تمتّع كايلان بسمعة طيبة لدى كلّ من ساعده وتعاون  معه من عمّال المدينة، نظرًا لحرفيّته. بعد القصف الذي طاول المنشية، أكثر ما أثار الخوف والخشية هو إمكان تضرّر هذا الموقع الأثري بالذات جرّاء قصفها، لكونه يقع على بعد أمتار منها.

لكن عصف الانفجار جاء، كما يبدو، في الاتجاه الآخر، أي لناحية فندق بالميرا. تضرّرت غرف الفندق الداخلية وبهوه وأثاثه بشدّة، إضافة إلى تخلّع الأبواب والنوافذ. على هذا الأساس، يكون العدو الإسرائيلي قد قام بـ “واجبه” اللا أخلاقي  كاملًا. وهو الهدف الذي سعى إليه منذ بدء عدوانه: تدمير وتخريب ما أمكن من مدن وأحياء، وصولًا إلى أماكن أثرية وتاريخية. هذا الأمر، إن دلّ على شيء، فعلى عدوانية هذا العدو واستهتاره بكلّ المواثيق الدولية في المجالات كافّة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني