في حزيران من العام الماضي تعرّفت ريما (اسم مستعار، ثلاثينية، سورية الجنسية) في دمشق على رجل يعمل لحساب مجموعة أشخاص يديرون شبكة دعارة في لبنان. كانت قد هربت للتوّ من زوجها المعنّف الذي كان يريد هو الآخر إجبارها على ممارسة الدعارة في سوريا. انتقلت “ريما” بعد فترة إلى لبنان وبعد ثلاثة أشهر من استغلالها في الدعارة وجدت نفسها بين أيدي القوى الأمنية التي استطاعت القبض على مشغّليها في 25 تشرين الثاني 2021.
وبحسب بيان لقوى الأمن الداخلي، “ريما” هي واحدة من خمس نساء تستغلّهنّ شبكة يديرها ثلاثة أشخاص يتعاونون مع شخص رابع، وقد أوقف الأربعة بجرم الإتجار بالبشر فيما تُركت الفتيات بسند إقامة بعد الاستماع لهنّ وتصريحهنّ بأن الشبكة كانت تحتجزهنّ وتجبرهنّ على ممارسة الدعارة.
ولكن أبعد ممّا وصفه البيان بـ “تحرير” النساء اللواتي كنّ محتجزات في فندق، وتركهنّ حرّات بعد التعامل معهنّ كضحايا إتجار بالبشر سنداً للقانون 164/2011، في أي مرحلة نحن اليوم من حماية الضحايا؟ ففي حين أنّ تجريم الإتجار بالبشر وحماية ضحاياه يهدف إلى ضبط ممارسات الاستغلال والاستعباد لا سيّما النيوليبرالية منها، صدر القانون في العام 2011 من دون إرادة فعلية بتطبيقه وحماية ضحاياه. فأين الدولة المأزومة اليوم من دعم الضحايا بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان؟ وما هو وضع الجمعيات التي تعنى بتقديم الدعم للضحايا في ظلّ الوضع المأزوم اليوم أيضاً؟ هل تتمكّن من القيام بدورها؟ وهل آلية الحماية المنصوص عليها في القانون تكفي لتحقيق الحماية وتمكين الضحايا بشكل يجعلهنّ قادرات على تحقيق اكتفاء اقتصادي كان غيابه أحد الأسباب التي جعلتهنّ ضحايا ممكنات للإتجار والاستغلال؟
“المفكرة القانونية” تواصلت مع “ريما” للوقوف على ظروفها حالياً وظروف استغلالها، في محاولة لرسم صورة عن وضع ضحية إتجار واستغلال قبل وبعد انكشاف الشبكة التي استغلّتها.
ريما هربت من الفقر والتعنيف…
تسعى الشبكة، وعبر هذا الرجل السوري الجنسية، حسب ريما، وراء الفتيات والنساء في الأحياء الفقيرة المُدمّرة في سوريا، وتستعمل أساليب مختلفة لاستدراجهنّ إلى العمل في الدعارة في لبنان.
“إذا كانت الفتاة صغيرة السنّ يقوم هذا الرجل بالزواج منها ومن ثمّ يجبرها على العمل في الدعارة بعد أن يصلا إلى لبنان، أمّا إذا كانت في سنّي فيكون الاستدراج عن طريق استغلال الوضع الاقتصادي، تماما كما حصل معي” تقول ريما لـ “المفكرة القانونيّة”، مضيفة أنّ هذا الرجل وبعدما عرف أنّها لا تملك مالاً ولا منزلاً يأويها بعد وفاة أختها التي كانت تصرف عليها، أقنعها بأنّها، وإذا ما عملت لعام واحد في الدعارة في لبنان، ستعود إلى بلدها مع مبلغ مالي يساعدها في استئجار منزل وتأمين احتياجاتها الأساسية لفترة معقولة.
“لم يكن لدي خيار، لم أمارس الدعارة من قبل، ستكون المرة الأولى” تقول ريما وتروي كيف تذهب كلّ وعود هذا الرجل أدراج الرياح عندما تصل الفتاة إلى لبنان، لتجد نفسها حبيسة منزل مع مجموعة من الفتيات الضحايا أيضا، يعملن بالدعارة بالإكراه وغبّ الطلب مع وعود بتقاضي أجورهنّ مؤجلة دائماً، إذ غالباً ما كان مشغّلهن يخبرهن بأنّ ما يجنيه يُدفع بدل سكن ومأكل. “كنّا نجبر على العمل لساعات طويلة من دون أجر، كنّا بالكاد نأكل ونشرب، نُرغم على ممارسة الجنس حتى أثناء الدورة الشهرية، كما كنّا نجبر على ممارسة الجنس مع أحد أصدقاء مشغّلنا، وعندما نرفض كان ينهال علينا بالضرب والشتائم، ليذكرّنا أننا ملك له ولا يحقّ لنا الرفض”.
بعد ثلاثة أشهر من استغلالها في الدعارة في لبنان وجدت ريما نفسها بين يدي القوى الأمنية التي استطاعت القبض على عدد من مشغّليها في تشرين الثاني الماضي. “كنت على الدرج مع رفيقتي، كان المكان معتماً، وفجأة شعرت بكف ينزل عليّ، وسمعت شتائم تنهال علينا من عدد من الرجال، ما هي إلا لحظات وعرفت أنّهم عناصر من قوى الأمن الداخلي”.
بعد أيام قليلة من توقيفها، قررت النيابة العامّة ترك ريما بسند إقامة بعدما تعرّفت عليها كضحية إتجار بالبشر سنداً للقانون 164/2011 المتعلق بالإتجار بالأشخاص، وفي هذا الإطار تؤكّد ريما أنّها لم تتعرّض لأي سوء معاملة من قبل القوى الأمنية بعد وصولها إلى المخفر، وبأنها أُخبرت بأنها ستُعامل كضحية إتجار ولديها الحق في طلب حماية من قبل الجمعيات التي تؤمّن لها ملجأ آمناً ودعماً صحياً ونفسياً وقانونياً، إلّا أنّها فضّلت اللجوء إلى إحدى صديقاتها التي تسكن في بيت صغير مع زوجها الذي يعمل ناطوراً.
لماذا رفضت “ريما” الحماية؟
تعتبر الحماية المتاحة أمام “ريما” كما غيرها من ضحايا الإتجار بالبشر في لبنان غير كافية لعدم استغلالها مرة أخرى. فهي بإمكانها أن تحصل على دعم نفسي وقانوني وصحي واجتماعي من إحدى الجمعيات وتحصل على مأوى تمكث فيه، ولكنّ الأمر يبقى غير كاف ليشكّل ضمانة لعدم تعرّضها للاستغلال مرة أخرى حيث أنّها غالباً ما تكون في وضع هشّ اقتصادياً واجتماعياً يتعقّد أكثر في ظلّ الأزمة الاقتصادية والوصمة الاجتماعية التي تلاحقها. وفي حالة “ريما” هي لا تستطيع العودة إلى بلادها حيث هربت من زوجها الذي كان يعنّفها ويحاول إجبارها بدوره على ممارسة الدعارة، ولا تملك أي عمل يؤمّن لها مردوداً مالياً. لذلك ستجد نفسها قريباً، كما تقول، في يد شبكة أخرى، أو أشخاص لم يتمّ القبض عليهم من الشبكة نفسها، وبالتأكيد لن تلجأ ريما إلى القضاء لمحاسبة من استغلّها خوفاً من الوصمة الاجتماعية وعدم إيمانها بأن مثل هذه القضايا تصل إلى خواتيم تنصف الضحية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قضية “شي موريس” (2016) التي تتعلّق بالقبض على أكبر شبكة إتجار بالبشر كانت تحتجز نحو 75 فتاة من جنسيات سورية وعراقية وتجبرهن على ممارسة البغاء بواسطة الترهيب والتعذيب، لا تزال المحاكمة فيها في بداياته أمام محكمة الجنايات في بعبدا إذ إنّ حتى استجوابات المتهّمين لم تبدأ بعد رغم صدور القرار الاتهامي في 28/11/2016، وذلك بسبب تقدّم المتهمّين بدفوع شكلية وعدم اكتمال الخصومة. ولم يحدّد مؤخراً جلسات إلّا للمتهمين الموقوفون.
ضحية الاستغلال في الدعارة بعد إقرار قانون الإتجار بالأشخاص
في العام 2011 أقرّ مجلس النوّاب قانون مكافحة الإتجار بالأشخاص تحت ضغط دولي، وضمّ قانون العقوبات للمرة الأولى مواد تعاقب أفعال الاستغلال وتأخذ بعين الاعتبار التفاوت من حيث القوة أو الثروة بين الخاضعين للقانون عند تقييم مسؤولياتهم الجزائية، ما ساهم في تغيير وضعية النساء الملاحقات بجرم ممارسة الدعارة (ريما مثالاً) والمستفيدين من دعارتهنّ. ففيما كان قانون العقوبات يعدّهم بالضرورة شركاء في جرم الدعارة يعاقبون بعقوبات متقاربة، تمّ من خلال هذا القانون تشديد العقوبة على المستفيد من دعارة الغير واعتبار المرأة التي تمارس الدعارة “ضحية”.
وساهم هذا الأمر وبحسب ما أوضحه مصدر في قوى الأمن الداخلي لـ “المفكرة” ولاسيّما بعد خضوع عناصر وضبّاط مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب لدورات تدريبية في لبنان والخارج، في اختلاف النظرة لجريمة الإتجار بالأشخاص، إذ أصبح القائم بالتحقيق وفور توفر مؤشرات له تتطابق مع معايير اعتبار القضية المنظور فيها هي قضية إتجار بالأشخاص يعامل النساء كضحايا مما شجّعهنّ على الإبلاغ عمّا حصل معهنّ.
ولكن بحسب المحامية غيدة فرنجية، مسؤولة قسم التقاضي في “المفكرة” لم يمنح صدور القانون الحماية الكاملة لضحية الإتجار إذ أبقاها عرضة للملاحقة على أن تُعفى من العقاب في حال أُرغمت على ارتكاب أفعال معاقب عليها في القانون كممارسة الدعارة (المادة 586-8 من قانون العقوبات)، فحصر نطاق حماية الضحية بمنع العقاب بحقها ولم يتّجه نحو نفي مسؤوليتها الجزائية وفقاً للمعايير الدولية في هذا المجال. وفي حين كانت المحاكم اللبنانية تكتفي قبل القانون بالمسؤوليات الظاهرة في قضايا الدعارة وتساوي بين المرأة المتّهمة بالدعارة والمتهمين بالانتفاع من ممارستها الدعارة، مع تغييب شبه كامل للاستغلال ولعلاقات السلطة القائمة بينهم، استمرّت السلطات القضائية بعد إقرار القانون بإخضاع العديد من النساء لمحاكمة مشتركة مع المتهمّين باستغلالهن. وتقوم المحاكم إمّا بإعفائهنّ من العقاب في حال اقتنعت بوقوعهنّ ضحية للاستغلال وإمّا بإدانتهنّ لا سيما من خلال حجب روابط الاستغلال مجدداً وراء غطاء من الآراء المسبقة التي أعادت عملياً تكوين العلاقة بين المستغلّ والمستغلّة على أنّها شراكة غير أخلاقية.
لا تمويل رسمي لدعم الضحايا والعبء على الجمعيات
وعلى الرغم من تكريس القانون المقاربة الحمائية للضحية، أقلّه عند تحديد الجرم، تبقى آليات حماية ضحية الإتجار بالبشر وبعد أكثر من عشر سنوات على إقرار القانون غير مفعّلة وغير كافية حسب ما تقول الجهات المعنيّة من مؤسسات رسمية وجمعيات مجتمع مدني بموضوع مكافحة الإتجار بالبشر، وذلك لأسباب عدّة من أهمها عدم وجود تمويل حكومي لحماية هؤلاء وخوف الضحية من الوصمة الاجتماعية.
نصّ القانون المتعلّق بضحايا الإتجار بالأشخاص على إنشاء حساب خاص في وزارة الشؤون الاجتماعية يخصص لحماية ضحايا الإتجار بالبشر ويتغذى من مصادرة “الأموال المتأتية عن الجرائم المتعلقة بالإتجار بالأشخاص”، إلّا أنّ هذا الحساب لم ينشأ بعد، إذ لا يزال في مراحله الأولى كما يوضح مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية، مشيراً في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ هناك عملاً يُبذل حالياً مع منظمة الهجرة الدولية، ووضعت المسودّة صفر لهذا الحساب بعدما كانت فترة كورونا جمّدت العمل عليه.
وفي حين يوضح المصدر أنّ وزارة الشؤون تولي موضوع الحساب عناية هامّة يلفت إلى أنّ المشاورات تبحث أن يشمل هذا الحساب ضحايا الإتجار بالبشر والضحايا المحتملين عبر تقديم الدعم بدءاً من الخدمة الصحية وصولاً إلى الإيواء وإعادة الإدماج في المجتمع والتمكين.
ويشرح المصدر أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية وبغض النظر عن الحساب، لديها فريق مدرّب على رصد ضحايا الإتجار بالبشر وتقدّم خدمة الرعاية الصحيّة الأولية وخدمة الاستماع والإحالة إلى الجهة التي ترى أنّها المعنية بمتابعة الحالة منها الأمن العام مثلاً إذا كانت الضحية أجنبية أو جمعيات المجتمع المدني، معتبراً أنّ جهود متابعة ضحايا الإتجار بالبشر لا تزال مشتّتة وأنّ هناك حاجة ملحّة لإنشاء منصّة وطنية لحماية الضحايا تشرف عليها جهة معينة حكومية وتضمّ الوزارات المعنية والجمعيات والمنظمات الدولية الفاعلة في مجال دعم ضحايا الإتجار بالبشر.
ويؤكّد هذا الأمر أيضاً مصدر في قوى الأمن الداخلي إذ يشير لـ “المفكرة” إلى أنّ لا تمويل رسمي لحماية هؤلاء الضحايا، ولكن النيابة العامّة ومكتب حماية الآداب يقومان بإحالة الضحايا اللواتي يرغبن في ذلك إلى بعض الجمعيات المتعاونة، لكي يتمّ إيواء الضحايا في مركز رعاية، مشيراً إلى أنّ هذه الجمعيات تقوم بمتابعة ملفات هؤلاء الضحايا قضائياً، كما تقدّم لهنّ الدعم اللوجستي من فرش ومأكل ودواء وملبس خلال وجودهنّ داخل مكاتب قوى الأمن أيضاً.
وقد استقبلت منظمة “أبعاد” 13 ضحية إتجار بالبشر ترتبط باستغلال جنسي منذ بداية تنفيذ القانون حتى اليوم، كما استقبلت “كفى” 19 ضحية، وترى المنظمتان أنّ هذا العدد ليس قليلاً نظراً لأنّ 2 أو 3% من الضحايا فقط تطلب الإحالة إلى جمعيات، فضلاً عن أنّ هذا العدد يرتبط بالضحايا اللواتي صنّفن ضحايا إتجار قانونياً فقط ولا يشمل ضحايا الاستغلال اللواتي لم يتم تصنيفهنّ وقد يكنّ ضحايا إتجار بالبشر، وقدّمت لهن المنظمتان الدعم اللازم.
وتوضح المحامية موهانا إسحق من قسم الإتجار بالبشر في منظمة “كفى” أنّه عند إحالة ضحية عمل قسري واستغلال جنسي إلى “كفى”، تقوم الجمعية بتأمين مأوى آمن للسكن مع الدعم اللازم قانونياً ونفسياً واجتماعياً وطبياً طيلة الفترة اللازمة حتى اتخاذ قرار بعودتهنّ إلى بلادهنّ إذا كنّ أجنبيات أو إيجاد مكان لهنّ خارج المأوى.
وتضيف إسحق أنّ الحماية مع كلّ ما تحتاجه الضحية من مكان آمن وتقديم التأهيل الحمائي أمر يتطلب تمويلاً يصعب الحصول عليه، لاسيّما في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، مضيفةً في حديث مع “المفكرة” أنّ الوضع يزداد سوءاً وأنّ الجمعيات تعاني في الحصول على التمويل الكافي لتأمين الخدمات المتكاملة والفعّالة لحماية الضحايا من تأهيل وإعادة اندماج في المجتمع وغيرها.
الفكرة عينها تكرّرها جيهان سعيد منسقة الوحدة التقنية في منظمة “أبعاد” التي تقدّم خدمات لضحايا الإتجار بالبشر من خلال البرنامج المخصّص للناجيات من العنف عبر تقديم الحماية والإيواء والدعم النفسي والصحي والقانوني، وتشدّد إسعيد على أنّ التمويل يُعدّ مشكلة ولاسيّما أنّ توفير الدعم متروك بالكامل على عاتق منظمات المجتمع المدني.
تكرّر الجمعيات التي تهتمّ بدعم ضحايا الإتجار بالأشخاص أنً موضوع الحماية لا يزال دون المستوى المطلوب وتحول دونه عوائق عدة لا تقتصر على الجانب المادي فقط، بل تتعلّق أيضاً بقصور القانون نفسه ومراسيمه التطبيقيّة ونقص التدريب للجهات التي تتعامل مع الضحايا فضلاً عن وصمة العار التي تلاحق هؤلاء.
وفي هذا الإطار ترى إسعيد أنّ موضوع حماية الضحايا لا يرتبط فقط بغياب مركز إيواء رسمي يستقبلهن، إذ تبدأ العقبات من لحظة التوقيف والاشتباه باحتمال وجود ضحيّة إتجار بالبشر، حيث لا تزال مقاربة القوى الأمنية، وهي الجهة الأولى التي تصل إليها “الضحية المحتملة”، قاصرة على الرغم من التحسن الملحوظ في المقاربة وطرق التعاطي، معتبرة أنّه وعلى الرغم من صدور القانون قبل أكثر من عشر سنوات تأخرت الإجراءات التطبيقية الموحّدة التي تساعد عناصر القوى الأمنيّة على التعامل مع الضحايا، فضلاً عن نقص تدريب القضاة وعدم وجود قضاة متخصّصين.
وتلفت إسعيد إلى أنّ التركيز على تدريب القوى الأمنيّة أمر أساسي فهي الجهة الأولى التي تقيّم الحالة وإن كانت ضحية استغلال أو إتجار بالأشخاص وهذا يحتاج الكثير من التدريب للخصائص المذكورة في القانون لتحديد الضحية.
وليس بعيداً ترى حُسن الصياح، المسؤولة عن قسم الأجانب في كاريتاس لبنان أنّ قانون الإتجار بالبشر بحاجة لتفعيل عبر إصدار مراسيمه التطبيقية التي لا بد من إعادة النظر بها، ولاسيّما لجهة التعامل مع قضية الضحية كوحدة من دون تقسيم الدعاوى أمام محاكم مختلفة، جزء أمام العمل وآخر جنائي مثلاً في قضايا العاملات المنزليات، وضرورة لحظ التعامل مع ضحية الإتجار كضحية بغض النظر عن الأمور التي تتعلّق بأوراقها الثبوتية أو إقامتها إذا كانت أجنبيّة.
الواقع الاقتصادي يهدّد بمزيد من الضحايا واللاجئات الأكثر هشاشة
يرتفع عدد ضحايا الإتجار بالبشر في المجتمعات التي تعيش أزمات اقتصادية أو اجتماعية وغالباً ما تشكّل النساء النسبة الأكبر من هؤلاء الضحايا، إمّا عبر العمل القسري أو الاستغلال الجنسي، فكيف الحال ببلد يعيش أزمات متعددة ومتداخلة كلبنان الذي أصبح أكثر من نصف سكانه يعيشون فقراً مدقعاً تقول الصياح معتبرة أنّ ضحايا الإتجار بالبشر ستزداد كلما زاد الوضع الاقتصادي سوءا.
وفي الإطار نفسه، تقول إسعيد إنّ الضغوطات الاجتماعية ترفع نسبة العنف وترفع احتمال استغلال الأقوى للأضعف مثل استغلال أصحاب العمل أو الملك للسيدات ويمكن أن يصل الأمر إلى فرض خدمات جنسية، وهنا لا تصنف الأجهزة الرسمية جميع ضحايا الاستغلال كضحايا إتجار بالبشر ولاسيّما أنّ السيدات يتفادين الحديث عن الاستغلال الجنسي خوفاً من وصمة العار.
تفيد أرقام قوى الأمن الداخلي أنّ عدد ضحايا الإتجار بالبشر التي صُنفت كضحايا تضاعف خلال آخر سنتين حيث وصل إلى 49 ضحية في العام 2021 بعدما كان 42 ضحية عام 2020 و13 ضحية العام 2019، وبحسب مصدر في قوى الأمن الداخلي فإنّ الغالبية العظمى من الضحايا هنّ من النساء وتحديداً من ضحايا الاستغلال الجنسي في الدعارة.
ويقول مصدر في الأمن الداخلي لـ “المفكرة” إن قوى الأمن الداخلي ومن خلال وحدة الشرطة القضائية التي يتبع لها مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب تبذل كلّ الجهود الممكنة لملاحقة وتفكيك وتوقيف شبكات الإتجار بالأشخاص. وتمكّن المكتب خلال السنة الماضية من توقيف شبكات عدّة تقوم باستغلال نساء جنسياً ولا يزال يتابع مهامه في توقيف هذه الشبكات وإحالتها إلى القضاء المختصّ. ولكن بالرغم من هذه الجهود المبذولة من قبل الحكومة وأجهزتها القضائية والأمنية وبخاصة قوى الأمن الداخلي في سبيل مكافحة الاستغلال، تصطدم الجهود بالكثير من العوائق التي يفرضها واقع لبنان ووضعه السياسي غير المستقرّ والعجز الاقتصادي والأزمات المتتالية.
وإذا ما نظرنا إلى طبيعة الجرائم التي صُنّفت إتجاراً بالبشر، حسب أرقام القوى الأمنية التي أرسلت لـ “المفكرة” (أعوام 2019، 2020، 2021) فإنّ النسبة الأكبر من الموقوفين كانوا في جرائم إتجار تتعلّق بتسهيل دعارة أو الاشتباه بتسهيل الدعارة بنسبة 51% فيما كانت النسبة الباقية لأشخاص أوقفوا بارتكاب أو الاشتباه بارتكاب جرائم إتجار بالبشر غير محددة ( يرجّح أن تكون تسوّلاً) وتهريب أشخاص.
وفي هذا الصدد تشير الصياح إلى أنّ تطبيق قانون الإتجار بالبشر سهّل تحديد ضحية الإتجار في المواضيع المتعلقة بالاستغلال الجنسي وتسهيل دعارة وهذا جانب جيّد إلاّ أنه لا يزال قاصرا في موضوع العمل القسري واستغلال العاملات ولاسيّما في الخدمة المنزلية، رغم أنّه نص على الاستغلال في العمل القسري.
وكانت “المفكرة” أعدّت في العام 2018 دراسة حول قضايا الإتجار بالبشر التي نظرت فيها محكمتا الجنايات في بيروت وبعبدا في العامين 2016 و2017، ووجدت أنّ قضايا الاستغلال الاقتصادي، لا سيما في العمل المنزلي والزراعي كانت مغيّبة أمام المحاكم، إذ كانت قضايا الاستغلال الجنسي للنساء في الدعارة في صدارة القضايا المشمولة في العينة (17 من أصل 34 قضية)، وجاءت في المرتبة الثانية قضايا استغلال أطفال سوريين في التسوّل (15 قضية). فيما عدا هذين النوعين من الجرائم، وجدت قضيتان فقط: واحدة تعلقت باستقدام رجال من بنغلادش للعمل في لبنان، والثانية تعلقت بتبنّ غير قانوني (أي بشبهة بيع وشراء أطفال). وهو ما حمل “المفكرة” إلى إعداد شكوى نموذجية لمعاقبة الإتجار بالعاملات الأجنبيات واستغلالهن في العمل المنزلي القسري. وتجدر الإشارة إلى قضية العاملة ميسيريت هايلو وهي من أولى شكاوى الإتجار في العمل المنزلي القسري من قبل عاملة منزلية، إذ قامت العاملة، بدعم من منظمة الحركة القانونية الدولية، برفع دعوى قضائية بالوكالة عنها ضد صاحبة العمل ومكتب الاستقدام بجرائم العبودية وتجارة الرقيق أمام قاضية التحقيق الجنائية في بعبدا رانيا يحفوفِ. وكانت هايلو عملت لمدّة ثماني سنوات في منزل طبيبة أسنان في جونية لم تتقاض خلالها إلا أجر سنة واحدة، وحرمت من الاتصال بذويها ومن الخروج من المنزل حيث كانت تتعرّض للعنف والمنع حتى من تناول الطعام.
وفي نظرة على جنسية ضحايا الإتجار بالبشر خلال الأعوام الثلاثة الماضية وفقاً لأرقام الأمن الداخلي نرى أنّ النسبة الأكبر منها من الجنسية السورية، فمن أصل 13 ضحية العام 2019 هناك 11 من الجنسية السورية أي ما نسبته 84% من مجمل الضحايا، وترتفع هذه النسبة إلى 90% في العام 2020 (38 من أصل 42) لتصل إلى 93% العام 2021 (46 من اصل 49). وفي مؤشر عن ضعف تطبيق القانون في مواضيع العمل القسري نلاحظ أنّ جنسيات ضحايا الإتجار بالبشر منذ العام 2019 إلى اليوم لم يكن من بينها أي جنسية من البلدان التي عادة ما يستقدم منها لبنان عمالة أجنبية، لا سيما في العمل المنزلي، علماً أن هذه القضايا غالباً ما تعالج من قبل الأمن العام.
يشير مصدر في المفوضية السامية للأمم المتحدّة لشؤون اللاجئين إلى أنّ اللاجئات السوريات يمثلن جزءاً من الفئات الأكثر ضعفاً من النساء المتأثرات بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي فإنّ زيادة حالات ممارسة الجنس من أجل البقاء على قيد الحياة والعمل بالجنس والاستغلال الجنسي وتزويج الأطفال والإساءة والإتجار بالبشر هو افتراض منطقي، مشدّداً في تصريح لـ “المفكرة” على أنّه لا بيانات رسمية تدعم هذا الافتراض.
وتلفت المفوضية إلى أنّه في ظلّ الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتداعيات كوفيد-19 على الوضع الحالي، يكافح اللاجئون المقيمون في لبنان من أجل البقاء على قيد الحياة، فبحسب التقييم السنوي لجوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين الذي تجريه مفوضية اللاجئين، تعيش تسعة من أصل كلّ عشر أسر لاجئة في فقر مدقع على الرغم من زيادة المساعدات الإنسانية خلال العام الماضي. ولحظ التقييم زيادة انعدام الأمن الغذائي، وتبنّي الأسر بشكل متزايد للاستراتيجيات السلبية للتأقلم كخفض الإنفاق على الغذاء والإيجار والرعاية الصحية، وإخراج الأطفال من المدرسة، وإشراكهم في عمالة الأطفال وغيرها.
وفي هذا الإطار، تقول المفوضية إنّه من المحتمل أن تتضمّن هذه الاستراتيجيات السلبية للتأقلم ممارسة الجنس من أجل البقاء على قيد الحياة، والعمل بالجنس وتزويج الأطفال، ولكن بسبب حساسية هذا الموضوع ووصمة العار المرتبطة به، من غير المرجح أن يكشف عنه المشتركون به، موضحة أنّه من المفارقات، ووفقاً لشركاء المفوضية من الجمعيات، إن عدد حالات الاحتجاز للنساء بسبب ممارسة الجنس من أجل البقاء على قيد الحياة والعمل الجنسي قد انخفض منذ عام 2019، لكن هذا لا يعني بالضرورة بأنّ لا زيادة في عدد النساء اللواتي يمارسن الجنس من أجل البقاء على قيد الحياة والعمل بالجنس ويكنّ معرّضات للاستغلال الجنسي.
وتشير المفوضية إلى أنّ نسبة النساء المحتجزات بتهم تتعلّق بالجنس من أجل البقاء على قيد الحياة والعمل بالجنس واللواتي دعمتهنّ المفوضية من خلال جمعية “شيلد” في العام 2021 (9% من نسبة النساء المحتجزات ومن نسبة اللواتي تقدم لهن الدعم بشكل عام) هو أقل بقليل مما كانت عليه في العام 2020 (10.5%). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه وفقاً للمفوضيّة “الأرقام غير نهائية نظراً للقيود التي فُرضت على فرق المراقبة والمتابعة لدينا بسبب كوفيد-19”.