عندما أقول لكم “القاضي”، ماذا تتخيلون؟ هل تتخيلون رجلاً أو إمرأة؟ هل تتخيلون شخصاً مسناً وأبيض الشعر؟ ماذا يمثل بنظركم؟ هل يرمز للسلطة (بالمعنى السوسيولوجي للكلمة)؟ وبمعنى آخر، عندما ترون قاضياً، هل تشعرون بالخوف أو بالأمان؟ قد تبدو هذه الأسئلة بديهية، ولكن لجوابكم عليها (مهما كان)، دلالات ملفتة إزاء صورة “القاضي” المترسخة في أذهاننا اليوم وصورة “السلطة” الذي يمثلها.
الآن، أريدكم أن تستذكروا أي حادثة حصلت معكم حيث شعرتم فيها أنه يتم التمييز ضدكم بشكل أو بآخر. قد يكون هذا التمييز مستمدّاً من ميزة جسدية لكم (كطول القامة أو قصرها) أو من وضعكم الإجتماعي (كالعسر مثلاً) أو الجندري أو العائلي وإلى ما هنالك من أسباب جاهزة لإستغلالها تمييزياً. إستذكروا هذه الحادثة جيداً، وتخيلوا أن المجتمع المحيط بكم إشتكى عليكم لدى السلطات المحلية بسبب ما يميزكم عن السائد. فوقفتم أمام القاضي/ة الذي (أو التي) تصورتموه/ا منذ ثوان لتحاكموا على هذا الأساس. كيف تتوقعون إتجاه الحكم، إدانة أم براءة؟ قد يستسخف بعضكم لعبة التصور هذه، فلا يمكن أن يحاكم المرء بسبب ميزاته الجسدية أو الإجتماعية حيث لا مسؤولية له بحصولها، حتى ولو أزعجت الأكثرية المحيطة به. بالفعل الأمر سخيف للغاية، ولكنه واقعاً تجلى (ولا يزال) على الأرض. فكيف تتمنون إذاً أن يكون القاضي الذي يحاكمكم؟ خاضعاً لآراء الأكثرية المسبقة ومطبقاً لقواعد المجتمع بشكل آلي أو على مسافة من هذه الآراء ومجتهداً لتصويبها بلغة القانون والحقوق؟
سخافة مماثلة، تبلورت خيوطها في منتصف العام 2015. فبتاريخ 05/08/2015، وتبعاً لإنزعاج بعض سكان منطقة البوشرية (وهم بقوا في الملف مجهولي الهوية) من تجمعات لأشخاص “من مختلف الجنسيات من بيتهم فتيات الليل […] والمثليين و[شاربي] الكحول وغيره”، أحال رئيس بلدية الجديدة البوشرية – السد السيد أنطوان جبارة (على ألا يتم الخلط بينه وبين رئيس قلعة الصمود أنطوان شختورة) عريضة الشكوى المقدمة من سكان المنطقة إلى مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب. وبعد يومين فقط، كلفت النيابة العامة الإستئنافية في جبل لبنان عناصر المكتب المذكور الإنتقال إلى المنطقة للتحقق من مسببي الإزعاج هذا. فتوجه هؤلاء إلى المنطقة وفور وصولهم إليها، بادروا إلى توقيف تسعة أشخاص ممن “أزعجوا” سكان الحي واقتادوهم إلى مركز الشرطة مكبلي الأيدي. فالإزعاج هنا كان وحده كافياً لتشكيل “الجرم”، لا سيما أنه لم يتم القبض على أي من الموقوفين خلال قيامهم بأي فعل “جرمي” معين، وإنما فقط لمجرد تواجدهم في المنطقة ولإختلاف مظهرهم عن السائد. وفي حين اعترف إثنان من الموقوفين خلال التحقيق بقيامهما بممارسة الجنس مقابل المال أو الهدايا، أنكر الموقوفون السبعة الآخرون قيامهم بذلك. وقد ذكر بعضهم أنه كان متوجهاً الى أحد الملاهي المخصصة للمثليين والمتحولين جنسياً. وعلى هذا الأساس فقط ودون أي دليل إضافي، إدعت النيابة العامة على جميع الموقوفين بالجرائم المنصوص عنها في المواد 523 من قانون العقوبات (أي اعتياد الحضّ على الفجور) والمادة 534 منه (أي المجامعة على خلاف الطبيعة) وأحالت الملف الى القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن، غرفة الرئيس ربيع معلوف، للمحاكمة.
وقبل الدخول في تفاصيل الحكم الذي صدر عن الرئيس معلوف في هذا الملف، يقتضي التذكير بنبض المجتمع القضائي إزاء المثلية الجنسية وكيفية تطبيق المادة 534 عليها (أي مدى إعتبارها جرماً جزائياً) في النصف الثاني من سنة 2016، أي أشهر فقط قبل صدور الحكم المذكور. فبعد صدور حكم رائد آخر (هو الثالث من نوعه) عن القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن (الرئيس هشام القنطار) بتاريخ 05/05/2016، إعتبر أن عبارة “مجامعة على خلاف الطبيعة” المستخدمة في المادة 534 من قانون العقوبات لا تنطبق على العلاقات المثلية[1]، صدرت ردود فعل من مراجع قضائية عليا بمواجهة هذا الإجتهاد. ومن أبرز ردود الفعل هذه، الآتيان:
- الأول تمثل في مشاركة مجلس القضاء الأعلى في الندوة التي نظمها “المركز الكاثوليكي للإعلام” تحت عنوان “الشذوذ الجنسيّ” بتاريخ 27/05/2016. وقد نُقل عن ممثل رئيس مجلس القضاء الأعلى في الندوة تلك قوله أن “قصد الله الأساسي من خلقه الأعضاء التناسلية” هو إشراك “خليقته بالخلق من خلال التنامي والتكاثر” وأن كل “ما لا يشبه هذه الطبيعة (علاقة بين رجل وامرأة) في الفعل الجنسي يأتي خارجاً عن الطبيعة”. وفيما ظهر القاضي هنا كمحلل لاهوتي أكثر مما هو محلل قانوني، كانت رسالته لباقي القضاة واضحة، مفادها: المثلية مخالفة للطبيعة ويجب معاقبتها. وقد علق مجلس القضاء الأعلى على هذا التصريح فيما بعد، مشدداً أنه لا يحق للقاضي التفسير بشكل يؤدي إلى توسيع أو تضييق النصوص القانونية الجزائية وإلا إعتبر معتدياً بذلك على الإختصاص التشريعي للمجلس النيابي[2]. ويذكر أن هذا القاضي عين مؤخراً رئيساً للتفتيش المركزي.
- أما رد الفعل الثاني، فتمثل بصدور حكم عن محكمة الجنايات في بيروت (برئاسة القاضية هيلانة إسكندر)[3] بتاريخ 07/06/2016 أدان خمسة شبابٍ على أساس المادة 534 المذكورة، معتبراً أن “العلاقات الجنسيّة الطبيعيّة في مجتمعنا هي تلك التي تكون بين المرأة والرجل وليس بين أفراد من جنس واحد”. وقد ذهبت المحكمة الى حد إعادة إنتاج خطاب النظام إزاء دور القاضي، معتبرة إياه منفذاً للقانون بشكل شبه آلي وليس مطوراً له أو مجتهداً فيه.
والواقع أن كلا المرجعين القضائيين يتمتعان بموقع ذات تأثير مباشر على سائر القضاة (بسبب الرتبة والمنصب اللذين يتمتعان بهما)، لناحية الحكم بإتجاه مماثل في القضايا التي تعنى بالمثليين. وهو أمر أمكن إلتماسه بفعل صدور قرارات عدة منذ ذلك الحين وحتى اليوم أدانت أشخاصاً مثليين على أساس المادة 534 المذكورة بشكل شبه آلي أحياناً. ومن الملفت أن بعضها صدر عن زملاء للقاضيين القنطار ومعلوف في محكمة جديدة المتن الجزائية نفسها[4].
إذاً، هذا كان وضع تخبط النظام والمجتمع القضائيين بشأن مسألة المثلية والمادة 534 مع بداية العام 2017، حين أصدر القاضي ربيع معلوف بتاريخ 26/1/2017 حكمه الرائد[5] موضوع هذا المقال. وفيما اشتهر هذا القرار بتكريسه أن المثلية هي ممارسة لحق طبيعي، فإنه بالمقابل تضمن موقفاً لا يقل أهمية عما تقدم وتمثل في تعريفه للوظيفة القضائية.
المثلية هي ممارسة لحق طبيعي
خلافاً للقضاة الجزائيين الذين أصدروا سابقاً في سنوات 2009 و2014 و2016 أحكاماً باستبعاد تجريم المثلية على أساس أنها لا تشكل مخالفة للطبيعة وفق مفهوم المادة 534 عقوبات[6]، اعتمد القاضي معلوف مقاربة حقوقية تغلب عليها الإيجابية في التعليل، وقوامها إستبعاد تطبيق المادة المذكورة إنطلاقاً من مفهوم الحق. والحق المعني هنا هو حق الشخص بالتمتع بالحياة الجنسية وفق ميله الجنسي.
فقد ذكّر أنّ “المشرع الجزائي أقر مبدأ حماية الفرد في ممارسة حقوقه، وما جعل من حرمانه من ذلك إلا الإستثناء، وترجم ذلك في القاعدة العامة التي أرساها في المادة 183 من قانون العقوبات حيث ورد أنه ’لا يعتبر جريمة الفعل المرتكب في ممارسة حق دون تجاوز‘“. وبالتالي، اعتبر الحكم أنه يعود “لمثليي الجنس الحق بإقامة علاقات إنسانية أو حميمية مع من يريدونه من الناس، دون أي تمييز لجهة ميولهم الجنسية أو أي تفضيل أو تدخل من أحد، أسوة بغيرهم من الناس، إذ أن ذلك من أبسط الحقوق ’الطبيعية‘ اللصيقة بهم كبشر” و”من شأن حرمان مثليي الجنس من حقهم ’الطبيعي‘ في إقامة علاقات حميمية فيما بينهم دون تمييز أو تدخل من أحد، أن يؤدي إلى إلزامهم بما هو ’مخالف لطبيعتهم‘ ليتناسب مع ’طبيعة‘ الأكثرية، وبالتالي منعهم من التمتع بحقوقهم اللصيقة بشخصهم واستباحتها، مما يشكل خرقاً لأبسط حقوق الإنسان المكرسة في الدستور اللبناني وشرائع حقوق الإنسان العالمية”.
يستتبع إقرار مفهوم المثلية كممارسة لحق طبيعي مفاعيل هامة إزاء إستبعاد الأحكام التي إستخدمت تاريخياً لملاحقتها ومعاقبتها، لا سيما على صعيد فلسفة القانون. فألم يعتبر الفيلسوف اليوناني أرسطو (ولاحقاً المحامي الروماني شيشرون) أنه في حال تعارضت قوانين المدينة مع أحكام الطبيعة، إقتضى تغليب الثانية على الأولى؟ وقد اعتبر أرسطو أن على المنطق الإنساني أن يستخرج تلك الأحكام من الطبيعة نفسها، مُظهراً إذ ذاك النظام الإجتماعي. فالحقوق الطبيعية تستقل وتسمو على القوانين الوضعية، مستمدة شرعيتها من صفاتها الذاتية الجوهرية[7]. لهذه الأسباب، وقبل الوصول إلى النتيجة التي آل إليها الحكم المذكور، أشار القاضي معلوف الى التطوّر الطبي والعلمي العالمي للقول بأن المثلية لا تشكل “إضطراباً أو مرضاً” و”لا تتطلب علاجاً” وبالتالي فهي أحد الأوجه الطبيعية للحياة الجنسية – أي لممارسة النشاط الجنسي والتعبير عن الميول الجنسية.
ومن أبرز وظائف الحق الطبيعي، وظيفته التصحيحية للقانون الوضعي، ومفادها الدفاع عن هذا القانون تحديداً ضد أي محاولة لتحويره على نحو يخالف نقاوة وتماسك النظام القانوني[8]. فبعد إقرار المثلية كممارسة لحق طبيعي، يُستتبع حكماً درء أي أحكام في القانون يتم إستخدامها للتعدي على هذا الحق. وهنا يبرز دور القاضي كحارس مدافع عن النظام القانوني من خلال إجتهاده المتواصل لتطوير القانون الوضعي.
أي قاضٍ نريد؟
فلنعد هنا إلى لعبة التصوّر التي وصفتها في بداية هذا النص. أنتم تحاكمون حالياً بسبب ميزة ملازمة لكم أزعجت محيطكم. ويفترض بكم أن تقفوا أمام قاضٍ لمحاكمتكم. فأي قاضٍ تريدون؟ هل تحبذون من هو (أو هي) خاضعً/ة لآراء الأكثرية المسبقة ومطبقً/ة لقواعد المجتمع بشكل آلي أو من يجتهد لدرء تلك الآراء وتصويبها؟ والواقع أن الخطاب العام الذي رافق تخبط النظام والمجتمع القضائي في النصف الثاني من العام 2016 صوّر القاضي على أنه منفذ آلي للنصوص القانونية (فلا يحق له “التفسير بشكل يؤدي إلى توسيع أو تضييق النصوص القانونية”). وهذا الأمر يتوافق تماماً مع مصالح النظام المهيمن في بسط سلطانه ومعتقداته وسلوكياته على المجتمع من دون أي رادع.
وفي موقف رافض لهذا التصور التقليديّ للوظيفة القضائية، استهل القاضي معلوف حيثيات الحكم بقوله أن دور المحكمة “الأول والأساس هو حماية الحريات العامة وصون حقوق الإنسان بما يحفظ له كيانه وكرامته ضمن المجتمع الذي يعيش فيه دون تمييز أو تفضيل لأي فرد على آخر”، ليخلص فيما بعد إلى القول أن المثلية هي ممارسة لحق طبيعي وأنه يقتضي حماية المثليين مما “هو ’مخالف لطبيعتهم‘” ومما يمنعهم “من التمتع بحقوقهم اللصيقة بشخصهم”. ومن هذا المنظار، يخرج القاضي عن دور خادم القانون مهما كان جائراً، ليتحول إلى فاعل إيجابي في تحديد القواعد القانونية وتطويرها[9]. فلا يكون شاهد زور على جور القوانين بل مصلحا رائدا في المجتمع.
والواقع أن القضاء تمكّن في دول عدّة من تطوير دوره على هذا الوجه تبعاً لتطوّر القانون الدولي وبخاصة الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ولبروز مفهوم المبادئ العامة للقانون. وهذا تحديداً ما لجأ إليه القاضي معلوف للتمكن من استبعاد تطبيق المادة 534 من قانون العقوبات التي تلاحق وتعاقب المثليين. فمن جهة أولى، ذكّر معلوف بأحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالحقوق المنصوص عليها فيه، وما تكرّسه من حقوق بالخصوصية. ومن جهة ثانية، توسّع في تطبيق المادة 183 من قانون العقوبات، والتي تبرّر من العقاب من مارس حقا من دون تجاوز (وهو حق المثلي بالعيش وفق ميوله الجنسية)، جاعلا منها مبدأ عاما من شأنه أن يسمح باستبعاد النصوص التي تناقضه ومنها المادة 534 من القانون نفسه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القاضية المنفردة الجزائية في طرابلس نازك الخطيب كانت أول من طبقت هذه المادة، لاستبعاد معاقبة شخص دخل إلى لبنان بشكل غير نظامي بعدما اعتبرت أنه بذلك مارس حق اللجوء من دون تجاوز.
وقد إعتبرت القاضية الخطيب آنذاك في متن حكمها أن “الشخص المعرّضة حياته وأمنه للخطر بسبب الأوضاع الأمنية السيئة التي تمر فيها بلاده هو شخص معرّض “للإضطهاد”، ولديه […] الحق الطبيعي الملازم لإنسانيته (droit naturel) بالدخول الى بلدٍ آخر آمنٍ من أجل دفع هذا الإضطهاد أو الهروب منه وتأمين الحماية لنفسه ولعائلته”[10].
مقدمة نشرت هذه المقدمة في العدد |49|نيسان/ابريل 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
المواطن #المتطفّل
[1] لمى كرامة، “المادة 534 سقطت: المثليّة الجنسيّة ليست ’مخالفة للطبيعة”، العدد 39 من مجلة “المفكرة القانونية”.
[2] يراجع “ماذا عن دور القضاء في حماية الحقوق والحريات؟”، العدد 40 من مجلة “المفكرة القانونية”، تموز 2016.
[3] كريم نمور، “الحكم على الهويّة في محكمة جنايات بيروت: المثليّة والخصوصيّة ورهاب محكمة النظام لهما”، العدد 42 من مجلة “المفكرة القانونية”.
[4] يراجع على سبيل المثال حكم القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن، الرئيس صيداوي رقم 493/2016 وزميله في نفس الدائرة، الرئيس نصر رقم 113/2017.
[5] منشور على موقع المفكرة القانونية الإلكتروني.
[6] لمى كرامة، مذكور أعلاه.
[7] بحسب الفيلسوف والعالم الإجتماعي الألماني ماكس فيبر.
[8] Alain Sériaux, “Droit Naturel” in Dictionnaire de la culture juridique, QUADRIGE / LAMY-PUF, 2003.
[9] François Ost, “Juge-pacificateur, juge-arbitre, juge-entraineur. Trois modèles de justice”, in « Fonction de juger et pouvoir judiciaire – transformation et déplacement », publication des Facultés universitaire Saint-Louis Bruxelles, 1983.
[10] الحكم الصادر عن القاضية المنفردة في طرابلس (نازك الخطيب) في 28/5/2012. مع تعليق عنه، غيدة فرنجية، حكم قضائي يقلب “الأفكار المسبقة” في قضية لاجئ سوري: “ممارسة حق اللجوء من دون تجاوز ليس جرما، موقع المفكرة الإلكتروني“، 2 آب 2012.