تُعَرَّف الدولة بأنها "كيان قانوني يمارس السيادة على كافة الأشخاص والموجودات داخل الحدود السياسية التي ترسم إقليمه", وهي ظاهرة اجتماعية أيضا؛ ولذلك يحظى مفهوم الدولة بدراسات تنطلق من أسس اجتماعية، كما أنه يُدرس من جوانب مختلفة لها تعلق بمجمل العلوم، القانونية منها والإدارية والسياسية على السواء, لكن سوف يقتصر الاهتمام هنا على الجانب القانوني (القانون الداخلي تحديدا)، معرضين عما سوى ذلك.
فوارق عامة بين الفيدرالية واللامركزية
وفي هذا الصدد، فإنه لمعرفة الفرق بين الفيدرالية واللامركزية يجب بيان التفاوت بين القانون الدستوري والإداري في مجال دراسة مفهوم الدولة؛ ذلك أن مصطَلَحَيْ الفيدرالية واللامركزية يجتمعان في كونهما من المسائل ذات الصلة بالبناء الداخلي للدولة, ويختلفان في كون الأولى ذات صلة باهتمامات القانون الدستوري، في حين أن الأخرى ذات طبيعة إدارية في الأغلب الأعم.
ولمزيد بيان؛ فإن الدول من حيث البناء الداخلي تنقسم إلى قسمين: دول موحدة, ودول مركبة.
الدولة الموحدة: تتميز بوحدة السلطة السياسية التي تمارس على أرض وشعب واحد؛ فجميع الأفراد يخضعون لسيادة واحدة, وتنطبق عليهم قوانين واحدة, وهي مسألة يتناولها القانون الدستوري بالتفصيل على اعتبار أنها ذات صلة بموضوعات النظم السياسية, حيث يهتم هذا الفرع من القانون – من جملة ما يهتم به – بأشكال البناء الداخلي للدولة, وفيما إذا كانت الاختصاصات السياسية داخليا بيد سلطة واحدة أو هي موزعة بين عدة سلطات. ولما كانت الاختصاصات السياسية في الدولة الموحدة في يد واحدة فإنه من الطبيعي أن تتمركز الاختصاصات الإدارية التي تمارسها الدولة لتصريف الأعمال اليومية ذات الصلة بشؤون الدولة والمواطنين على حد سواء في جهة واحدة (وهذا ما يعرف بالمركزية)؛ فوفقا للمتخصصين في القانونين الدستوري والإداري أنه لكي تكتمل الوحدة السياسية للدولة فيجب أن تعزز بالتوحيد الإداري أو بالمركزية الإدارية؛ وذلك بخضوع مختلف الهيئات المحلية والإقليمية في الدولة لسلطة مركزية وإدارية واحدة, فالدولة في نظرهم مجتمع إنساني نظاما ومصيرا تميل نحو المركزية والاندماج السياسي والاجتماعي، ويظهر هذا الاندماج في الدولة منذ ولادتها, وذلك بإقامة مركز للجاذبية يحاول توحيد مختلف مراكز القوة في الدولة. غير أن بعض المتخصصين يرى أن الواقع العملي يبين صعوبة قبول المركزية في جميع الأحوال والظروف؛ لأنه يستحيل دائما على أية سلطة مركزية مهما بلغت من السيادة أن ترضي قراراتها التي تصدرها – على كافة أنحاء الدولة – كافة المواطنين في مختلف الأقاليم وعلى جميع الأصعدة, وهو ما دفع إلى القول بضرورة منح الهيئات المحلية والإقليمية بعضا من السلطات التي تخولها إصدار القرارات دون حاجة للرجوع إلى السلطة المركزية (وهذا ما يعرف باللامركزية الإدارية), وذلك بإقامة هيئات منتخبة من الشعب في أقاليم أو مقاطعات تمارس اختصاصات متفاوتة تختلف باختلاف السلطة الممنوحة لها, والتي قد تتراوح بين إبداء الملاحظات والاقتراحات, وبين الاعتراف لها بالتمتع بالشخصية القانونية المستقلة. إلا أنه مهما اتسع نطاق الاختصاصات الممنوحة فإنه ليس من شأنه قطع الصلة بين تلك الهيئات والسلطة المركزية التي تقوم بدور الوصاية – إن صح التعبير- على الهيئات الإقليمية, والتي لا تعني الخضوع التام للأخيرة أمام الأولى, بل للهيئات الاعتراض على كل قرار غير قانوني يصدر عن السلطة المركزية من شأنه الاعتداء على اختصاص السلطات المحلية. وهنا تجب الإشارة إلى أن اختصاصاتها تقتصر على إدارة المصالح الإدارية فقط (فرع القانون الإداري) دون المصالح السياسية التي تبقى من اختصاص السلطة المركزية (فرع القانون الدستوري).
الدولة المركبة: وهي في حقيقتها مجموعة دول اتحدت فيما بينها بقصد تحقيق أهداف مشتركة, ويأخذ هذا الاتحاد أشكالا مختلفة، يتميز كل شكل عن الآخر وفق معيار توزيع السلطة بين الدول المتحدة، ومدى خضوعها للسلطة المركزية المشتركة. فالسمة الأساسية للدولة المركبة هي التقييد لسيادة الدول على الصعيدين الداخلي والخارجي (فرع القانون الدستوري) وليس مجرد تسهيل خدمات المرافق الإدارية لسكان الأقاليم (فرع القانون الإداري). ومقدار التقليص من السيادة يسمح بتقسيم الدول المركبة إلى نوعين: اتحاد الدول, والدول المتحدة. وسيقتصر الحديث هنا على الصنف الثاني (الدولة المتحدة أو الدولة الفيدرالية) والذي ينتشر على نطاق واسع في العالم.
وتنشأ الدولة الفيدرالية من انضمام عدد من الدول أو عدد من الأقاليم إلى بعضها البعض لتشكيل دولة مركبة، كما كان عليه الحال في ليبيا عام 1951 عقب الاستقلال (وهو ما يعرف بأسلوب الفيدرالية الاندماجية), إلا أنه حدث في العصر الحديث أن تكونت دول فيدرالية من انفصال دولة موحدة إلى عدة دويلات ترغب في استمرار الروابط الاجتماعية المركزية فيما بينها (وهذا يعرف بأسلوب الفيدرالية المُجزئة) كما هو حال الاتحاد السوفيتي سابقا (روسيا حاليا) والمكسيك والبرازيل والأرجنتين.
فالفيدراليةترتكز على المبادئ التالية: مبدأ الاستقلال (الحكم الذاتي) و مبدأ المشاركة (المشاركة في القرارات الاتحادية). فالمبدأ الأول أساسي في النظم السياسية الفيدرالية حيث يضفي على مجموع الدول الأعضاء في الاتحاد الطابع الانفصال وتميز بعضها عن البعض, فتضم الدولة الفيدرالية مجموعة من المؤسسات السياسية المستقلة ذات أنظمة تشريعية وتنفيذية وقضائية متميزة.
أما المبدأ الثاني, فهو يخوّل الدول الأعضاء في الاتحاد الفيدرالي المساهمة في القرارات الفيدرالية ذات الطبيعة السياسية المشتركة والملزمة للدول الأعضاء, فالحكومة الفيدرالية تعلو على حكومة الدول الأعضاء رغم كون الأخيرة هي السبب في وجود الأولى, وبالتالي فهي تخضع لقرارات الحكومة الفيدرالية في حدود اختصاصها وبمقدار مساهمتها في صنع القرار الفيدرالي. فالدولة الفيدرالية هي إذن دولة مركبة تضم دولا تتمتع بالاستقلال السياسي الداخلي، وذات دساتير وقوانين ومجالس تشريعية وحكومات خاصة بها، غير أنها ترتبط فيما بينها بوثيقة دستورية ليكون مظهرها الخارجي وكأنها دولة ذات سيادة واحدة,خاصة فيما يتعلق بالسياسية الخارجية والمعاهدات الدولية, وفي تمتع جميع مواطني دول الاتحاد بجنسية واحدة أمام الدول الأخرى, وفي شؤون الأمن القومي.
والمهم هنا هو أن موضوع الفيدرالية يشكل موضوعا أساسيا يدخل ضمن نطاق النظم السياسية، وتشكل حلا دستوريا لسكان إقليم ما، يمثل وحدة عضوية تقوم على عوامل جغرافية وتاريخية وعرقية ولغوية تختلف عن تلك الموجودة في الإقليم أو الأقاليم الأخرى, وبسبب هذا الاختلاف تكون له سلطة سياسية خاصة ومستقلة, وهو ما يشكل موضوعا أساسيا لفرع القانون الدستوري. وعليه, فإنه لا علاقة للفيدرالية بمستوى خدمات المرافق الإدارية ونوعية الخدمات التي قد تصل إلى الجمهور بسهولة ويسر؛ لأنها موضوعات ذات طبيعة إدارية، تدخل ضمن نطاق القانون الإداري، واللامركزية هي الحل الأمثل الذي يقدمه (عادة) المختصون لمثل هذا النوع من الموضوعات وليست الفيدرالية.
ومن هنا وجب تحديد طبيعة المطالب الشعبية, لأجل تحديد الحلول المناسبة لها, فإذا كانت المطالب ذا طبيعة إدارية فإنها تقتضي بطبيعة الحال حلولا إدارية, أما إذا كانت المطالب ذات طبيعة سياسية، لها صلة بالنظام السياسي فإن الحلول بطبيعة الحال تكون سياسية، إذا كانت هذه المطالب حقيقة واقعية.
أبعد من الخلط بين النظامين، أي خيارات لليبيا؟
وبناء على ما تقدم، وبالنظر للواقع الليبي، فإنه قد وقع خلط في تحديد طبيعة المطالب المشروعة لبعض فئات الشعب الليبي, الأمر الذي أدى إلى الوقوع في الخطأ عند محاولة وضع حل أمثل لهذه المطالب, فالمطالبون بالفيدرالية في ليبيا استندوا بشكل أساسي إلى التهميش الإداري – بسبب المركزية التي اعتمدها النظام السابق أساسا لنظامه الإداري- وبسبب وضع العراقيل والصعوبات أمام فئات الشعب عند محاولتهم التمتع بخدمة المرافق العامة لقضاء مصالحهم الخاصة, كضرورة قطع آلاف الكيلومترات (إلى طرابلس أو سرت أو الجفرة) من أجل الحصول على مستند أو وثيقة, أو لإمضاء هذا المستند أو تلك الوثيقة. فمثل هذه المطالب ذات طبيعة إدارية لا صلة لها بالنظام السياسي للدولة مركبا كان أم موحدا, وهو ما يستدعي حلولا من ذات النوع (الطبيعة الإدارية)، والحل الأمثل لهذه المطالب هو اللامركزية وليست الفيدرالية, لأن الأولى: هي نوع من التنظيم الإداري المحلي أو الإقليمي، يخول السلطة المركزية ممارسة الحكم والإدارة عن طريق وكلاء تنتخبهم شعوب الأقاليم، يتمتعون بسلطة إصدار قرارات محلية على الرغم من خضوعهم للسلطة المركزية, ومن خلال إنشاء ديوان حكومي في كل إقليم. أما الثانية: فهي نوع من النظم السياسية التي تتخذها الدول في بناءها الداخلي، بسبب وجود إقليم (أو أقاليم) يتمتع بوحدة عضوية، تقوم على عوامل جغرافية وتاريخية وعرقية ولغوية وغيرها مختلفة عن باقي الأقاليم, وهو ما لا يتوفر في أي إقليم في ليبيا – أو على الأقل في إقليم المطالبين بالفيدرالية – ولهذا السبب لم تبن مطالبهم على هذه العوامل, لعلمهم التام بأن هذه العوامل متوفرة جميعها وبشكل موحد في كافة أرجاء ليبيا مما يجعل منها وحدة إقليمية واحدة, فإنه لا يوجد إقليم من الأقاليم الليبية يشذ عن هذه القاعدة بشكل مطلق، حتى يكون له حق المطالبة بنظام الفيدرالية.
وأما القول بالتهميش المتعمّد الذي طال البنى التحتية للمناطق الشرقية (في محاولة من دعاة الفيدرالية لتقديم عامل جغرافي يدعم مطالبهم), فإنه يمكن الرد بما يلي: 1- إن هذا التهميش يظل ذا طبيعة إدارية، تمت ممارسته من قبل إدارة النظام السابق وليس النظام الحالي، وكان الأولى أن تتم المطالبة بالفيدرالية – إذا كانت هي فعلا الحل الأمثل – في ظل ذلك النظام، هذا فضلا عن أن التهميش المذكور طال المناطق الغربية والجنوبية أيضا. أفلم يقم القذافي بنقل كافة الوزارات (الأمانات!) لسنوات عديدة إلى سرت ثم الجفرة في محاولة لتهميش سكان العاصمة, فالأخيرة أيضا طالها إهمال البنى التحتية. وللمستغرب من هذا القول ليتأكد منه أن يقوم بزيارة لتاجوراء وسوق الجمعة وفشلوم والهضبة بل وأعماق قرقارش. 2- إن الفيدرالية ليست الحل الأمثل لرفع التهميش, لسبب بسيط وهو أن الفيدرالية لا تعني اللامركزية لوجود فرق شاسع بين الاثنين كما تم بيانه أعلاه, فما الذي يضمن لأهل برقة إقرار النظام الإداري اللامركزي في الإقليم حال قيام الفيدرالية لا سمح الله, حتى لا تتمتع عندئذ مدينة معينة في الإقليم بكل المزايا بينما تهمش غيرها من المدن. وإذا كان الضمان الذي سيقدم لأهل برقة لرفع هذه المخاوف هو التعهد بإقرار اللامركزية في الإقليم, فيمكن الرد بأنه يمكن اختصار المسافة وإقرار اللامركزية مباشرة في ظل دولة موحدة دون الحاجة للقيام بدورة كاملة للوصول إلى اللامركزية في ظل دولة مركبة.
وأما القول بأن الفيدرالية تشكل حماية للمنطقة الشرقية من المشاكل والعقبات التي خلفها النظام السابق في المنطقة الغربية أو الجنوبية, فهذه دعوة جانبها الصواب أيضا, لأن ما حدث اليوم في إقليم طرابلس وفزان حدث بالأمس في إقليم برقة عقب التحرير, ولم يستقر حال الأخير إلا بعد فترة من الزمن, وبالتالي على المطالبين بالفيدرالية من أهل برقة مراعاة الفارق الزمني في التحرير بين الشرق والغرب والذي يصل إلى قرابة 8 أشهر, ومنح إقليمي طرابلس وفزان الوقت الكافي للاستقرار. هذا فضلا عن كون العوامل الجغرافية والتاريخية والعرقية واللغوية الموحدة في الأقاليم الثلاثة تفرض عليهم المحافظة على هذه الوحدة, ومساندة أهل طرابلس وفزان في مثل هذه الظروف لا الاستغناء عنهم, وأن يسيروا على نفس النهج الذي سلكه أهالي طرابلس وفزان الذين لم يستغنوا عن أهل برقة لحظة اندلاع شرارة ثورة 17 فبراير في بنغازي, حيث صاحت الحناجر في الإقليمين"بالروح بالدم نفيدك يا بنغازي" وما أدراك ما بنغازي في إقليم برقة؟ فهي حاضرة وعاصمة الإقليم.
والخلاصة, هو أن الحل الأمثل للمطالب الشعبية المشروعة – لرفع الظلم الذي ألحقه النظام السابق بالأقاليم الليبية – هو اللامركزية وليس الفيدرالية, فهناك مساحة فاصلة بين الاثنين ويجب عدم الخلط بينهما, فالفيدرالية تمثل حلا أمثل حالة الاتجاه من الفرقة إلى الوحدة، وذلك بالانطلاق من مجموعة دول أو أقاليم منفصلة إلى دولة واحدة مركبة, كما حدث في ليبيا عام 1951م عند المطالبة بالاستقلال, بسبب وجود ظروف سياسية دولية مفروضة من الخارج في تلك الفترة, تتمثل في وجود استعمار أجنبي مختلف في الأقاليم الثلاثة، عمل على فصل هذه الأقاليم عن بعضها (الأمريكي في طرابلس والإنكليزي في برقة والفرنسي في فزان), ولذلك مثلت الفيدرالية في ذلك الوقت الحل الأمثل لاستقلال أقاليم ليبيا الثلاثة في شكل دولة واحدة مركبة, وكانت حلا أمثل أيضا لحظة تحرر الإمارات العربية من الحماية البريطانية في شكل دولة واحدة مركبة, ولحظة تحرر الولايات المتحدة الأمريكية من الاستعمار الإنكليزي والإسباني وغيره في نفس الشكل.
ثم إن الفيدرالية (أو حتى المطالبة بالحكم الذاتي) تمثل اختيارا غير صائب حالة سلوك الاتجاه المعاكس, وذلك بالانطلاق من الدولة الموحدة إلى الدول المركبة, حيث سيكون ذلك دافعا قويا للمطالبة بالانفصال التام كمرحلة تالية للفيدرالية, وهو حال الاتحاد السوفيتي سابقا, الذي اعتمد النظام الفيدرالي في دولة موحدة عقب انتصار الثورة البلشفية, والنتيجة هي انهيار الاتحاد السوفيتي وتفتته إلى مجموعة دول مستقلة, وهو أيضا نفس المصير الذي لاقته كل من تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي, وليس السودان منا ببعيد.