أبعد من التقنية القانونية في قضايا الكابيتال كونترول، أو حين يصبح الحكم منبرا للتنديد بتعسف المصارف ولامبالاة “الحاكم”


2020-01-27    |   

أبعد من التقنية القانونية في قضايا الكابيتال كونترول، أو حين يصبح الحكم منبرا للتنديد بتعسف المصارف ولامبالاة “الحاكم”

في مقال نشرته في 13 كانون الثاني، أشرتُ إلى مفعول الدومينو الحاصل في دوائر القضاء المستعجل التي ذهبت إلى قبول دعاوى المودعين ضد الكابيتال كونترول الذي تفرّدت المصارف بفرضه. وفيما ذكرتُ آنذاك محاكم بيروت والمتن والنبطية، صدر في اليوم نفسه حكم عن قاضية الأمور المستعجلة في زحلة ريتا حرّو أكّدت فيه على عدم قانونية القيود التي فرضتها المصارف. وقد أكّدت محكمة استئناف زحلة بتاريخ 23/1 على التوجه نفسه في قرارها بردّ طلب وقف تنفيذ القرار المذكور. وبذلك، شهدنا ليس فقط توسعا جغرافيا في قبول هذه الدعاوى، بل أيضا توسعا نحو محاكم الدرجات العليا أي محاكم الاستئناف، في انتظار مزيد من الأحكام التي يرجح صدورها عن محاكم كلا الدرجتين.

وفيما اعتادت محاكم الاستئناف على عدم تعليل قراراتها برد طلبات وقف تنفيذ القرارات المطعون فيها أمامها، فإن التدقيق في قرار القاضية حرّو إنما يعكس توجّها بات رائجا لدى العديد من قضاة الدرجة الأولى بعدم الاكتفاء بالتقنية القانونية لحلّ المسائل المطروحة عليهم، بل السعي إلى تعزيز مشروعية أحكامهم بما يترتّب عليها من نتائج وأبعاد اجتماعية. وهذا التوجّه المستجدّ إنما يعكس شعورا متزايدا لدى هؤلاء القضاة بضرورة التعبير عن فهمهم للوظيفة القضائية، بما يعكس دورهم في حماية الصالح العام وينقض الصورة النمطية للقاضي والتي غالبا ما تأسره في بوتقة تلقي التعليمات وتصوره على أنه جزء لا يتجزأ من منظومة الحكم. وهذا ما أكدت عليه القاضية حرّو في متن حكمها، ليس فقط من خلال التذكير بأن "قضاء الأمور المستعجلة اعتاد أن يحمل لواء حماية الحريات والحقوق الفردية الأساسية للإنسان بشكل عام"، بل أيضا من خلال إضافة بُعدٍ آخر لوظيفة القاضي في ظل تحديات الأزمة المالية وتراجع الثقة بالسلطة الحاكمة، قوامه إنقاذ قطاعات الاقصاد اللبناني من الانهيار المحتّم الذي تسببت به مجموعة من التدابير المصرفية المشددة.

 

التقنية القانونية كافية لقبول مطالب المودع

بالعودة إلى تفاصيل هذه الدعوى، تقدّم أحد المودعين بدعوى مستعجلة لإلزام بنك الاعتماد اللبناني بإجراء عملية تحويل إلى الجهة الموردة تسديدا لقيمة البضاعة المستوردة والمحجوزة في مرفأ بيروت إلى حين حصول الدفع. وقد أدلى المصرف ردّاً على هذه الدعوى، بجملة من الدفوع التي باتت ثوابت في لوائح مختلف المصارف في دعاوى الكابيتال كونترول، مفادها أن الضوابط الاستثنائية التي يفرضها المصرف تأتي تنفيذا للتعميم الصادر عن جمعية المصارف بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان لمعالجة الأزمة المالية المتفاقمة، وإن الدعوى الحاضرة تدخل ضمن الهجمات التي تُشنّ على المصارف مباشرة من قبل المودعين أو من خلال القضاء.

كما أثار المصرف أمرين آخرين: (1) أن إجراء عمليات تحويل للخارج ليس ملزما للمصارف التي لها أصلا أن ترفض حصولها، و(2) أنه في مطلق الأحوال مستعدّ لتسليم المودع شيكا مصرفيا بقيمة أمواله المودعة لديه.

تبعا لذلك، خلصت القاضية حرّو إلى قبول الدعوى مستندة إلى تعليل قانوني مشابه بدرجة أو بأخرى لما انبنت عليه القرارات الصادرة في محاكم بيروت والمتن والنبطية.

فمن جهة أولى، أعلنت حرّو أن للمودع حقّ بإلزام المصرف بإجراء عمليات تحويل للخارج، وذلك على أساس التعامل الحاصل معه منذ فتح حسابه وأيضا "الأعراف التي درجت المصارف … على تأديتها لمصلحة عملائها…". ولم يكتفِ القرار بإعلان حق العميل بإعطاء تعليمات في هذا الخصوص، بل اعتبر أن موجب المصرف في هذا الخصوص هو موجب تحقيق غاية وليس موجب بذل عناية، موضحاً أن استغراق إجراءات أمر تحويل أكثر من 24 ساعة يشكل خطأ وعملا غير مشروع من قبل المصرف.

ومن جهة ثانية، تصدّت القاضية حرّو لحجة المصرف المتمثلة بأنه لا يتصرف من تلقاء ذاته إنما بموجب التعاميم الصادرة عن جمعية المصارف بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان. وفيما أوضحت أنه لا يمكن فرض مقررات جمعية المصارف على المودعين، استمدّت من كتاب حاكم مصرف لبنان لوزير المالية (المؤرخ في 9/1/2020) والذي طالب بمنحه تفويضا عاما بتنظيم التدابير الاستثنائية التي تضطر المصارف لاتخاذها، بمثابة إقرار صريح من هذا الأخير بعدم قانونية هذه التدابير.

ومن جهة ثالثة، ردّت القاضية حرّو مسألة الإيفاء بالشك لكونه لا يلبي حاجات المودع الذي كان طالب بإجراء الحوالة تسديدا لثمن وارداته، وذلك على غرار مما كانت خلصت إليه محكمتا النبطية (صراحة) وبيروت (ضمنا). وتجدر الإشارة إلى أن محكمة بيروت كانت اعتبرت أن الشيك المصرفي المسحوب على هذا النحو لم يعد بواقع الحال وسيلة إيفاء بعدما اتضح أنه ليس للمودع خيار سوى إيداعه وتاليا تجميده في مصرف آخر مما يدخله في دوامة لا تنتهي من القيود على حقه بالتصرف بماله.

أخيرا، ردّت القاضية تذرع المصرف بالقوة القاهرة المتمثلة بالأزمة المالية بعدما أثبتت غياب الشروط الأساسية للقوة القاهرة وهي أن يكون الحدث المكوّن لها خارجا عن إرادة من يتذرع به وغير متوقع ومن غير الممكن تفادي وقوعه. وقد جاء حرفيا في الحكم في هذا الصدد أن "أزمة السيولة في العملتين اللبنانية والأجنبية كانت متوقعة من قبل الخبراء الماليين وكان من الممكن تفاديها باتخاذ المصارف بالتعاون مع مصرف لبنان الاحتياطات الواجبة لتحسين وضع القطاع المصرفي والحؤول دون زعزعة ثقة المودعين به".

ورغم أن تعليل المحكمة بالاستناد إلى القواعد التقنية المبيّنة أعلاه بدا كافيا بحد ذاته لقبول الدعوى، إلا أن القاضية دعّمت قرارها بمزيد من الحجج إثباتا لانسجامه مع المصلحة الاجتماعية. وما يميز هذه الحجج الإضافية (الزائدة) هو طابعها الاجتماعي أو حتى السياسي والذي يخرجها من بوتقة التقنية القانونية. هذا ما سنتناوله في المقاطع الآتية.  

 

هذه هي المصالح الحيوية التي يمس بها تعسّف المصارف

بعدما أثبتت القاضية حرّو مشروعية المصلحة المتمثلة بحقوق المودعين وفق مما بيناه أعلاه، سعت إلى إثبات أن هذه المصلحة المشروعة تتفوق من حيث أهميتها على المصلحة التي يتذرع بها المصرف للحفاظ على الاستقرار المصرفي، بمعنى أنها المصلحة الأجدر بالحماية. وقد انطلقت حرّو تمهيدا لهذه الموازنة من دفاع المصرف الذي أكد على "ضرورة الحفاظ على استقرار القطاع المصرفي عبر الاحتفاظ على احتياطي العملات الأجنبية"، حيث اعتبرت أن هذا التذرع إنما هو بمثابة دعوة لها "إلى المفاضلة بين هذا الاعتبار وحقوق العملاء (وصولا إلى) تغليب مصلحة المصارف على مصلحة المودعين بحجّة أن القطاع المصرفي هو ركيزة الاقتصاد اللبناني وعموده الفقري".

وما أن مهّدت القاضية دحّو لهذه الموازنة، حتى انطلقت بشكل لافت في تعداد المصالح التي تناقض المصالح التي يدافع عنها المصرف أو عمليا المصالح التي يطلب المصرف التضحية بها من أجل المحافظة على استقرار وضعه ووضع سائر المصارف. وهذه المصالح ليست أقلّ وفق دحّو عن "الحق الحيوي كحق الإنسان بالطعام والشراب والعمل والطبابة والعيش الكريم ومجمل الحقوق الأساسية اللصيقة بالطبيعة البشرية لا سيما الحق بالملكية الفردية"، وهي تتسع لتشمل استمرارية قطاعات اقتصادية واسعة مهددة بالانهيار المحتم بنتيجة التدابير المصرفية المشددة، ومنها قطاع المستشفيات في ظل نقص "المستلزمات الطبية وغير الطبية .. ما قد يعرض سلامة المرضى للخطر". وعليه، بدت القاضية وكأنها تبين أن المصالح التي تهدف إلى حمايتها هي حيوية لدرجة، يصبح معها الحديث عن الاستقرار المصرفي أمراً نافلا من غير المنطقي أو العادل التوقف عنده، طالما أنه يفترض بقاضي الأمور المستعجلة "أن يرجّح الحقّ الأجدر بالحماية".

وفيما أن الموازنة بين المصالح المتناقضة تكون ضرورية في حال وجد القاضي نفسه أمام مصلحتين مشروعتين، فإن إعمالها رغم ثبوت عدم مشروعية المصلحة المثارة من المصرف، تمّ هنا عمليا على سبيل الاستفاضة، وقد رمى أساسا إلى تظهير فداحة الضرر الذي يتسبب به تعسف المصرف وبالنتيجة الحقوق التي يخلص القرار إلى حمايتها.

ومن اللافت أن القاضية حرّو أرفقت موقفها هذا بنقد مباشر للمصرف الذي حمّل في دفاعه المودع مسؤولية شراء بضائعه بتاريخ لاحق لدخول البلاد في الأزمة الاقتصادية الحالية. ولم تجد القاضية في هذا الإطار حرجا في استخدام عبارتي الاستغراب والاستهجان. لا بل ذهبت حدّ استخدام أسلوب الاستهزاء، حين تساءلت فيما إذا كان المطلوب "أن يقوم جميع التجار في لبنان بتجميد تجارتهم وربما إقفال مؤسساتهم التجارية أو تصفية شركاتهم حفاظا على الاستقرار المصرفي".

 

القضاء هو "المعوّل عليه" في ظل لامبالاة الحاكم

فضلا عما تقدم، تضمن القرار بعض الحيثيات التي يستشف منها نقد واضح لأداء السلطات العامة ولا مبالاتها إزاء حقوق المودعين، سواء قبل حصول الأزمة أو من بعدها.

يظهر هذا التوجه واضحا عند النظر في شروط القوة القاهرة حيث أعابت القاضية حرّو على مصرف لبنان عدم القيام بأي احتياطات أو اجراءات استباقا لهذه الأزمة التي كان من المتوقع حصولها منذ أمد طويل.

كما نستشفّ نقدها لأداء السلطات بعد حصول الأزمة، من الحيّز الهامّ الذي أعطته للكتاب الموجّه من حاكم مصرف لبنان إلى وزير المالية والذي يستشف منه أن حاكم مصرف لبنان ما فتئ يقف منذ أشهر (مثله مثل السلطات السياسية) موقف المتفرج من دون اتخاذ أي تدبير استلحاقي لجبه تعسف المصارف. وأهم ما ورد في القرار في هذا الخصوص هو ما تضمنه في سياق تعريف دور القضاء الحمائي لجهة أن القضاء أصبح "المعول عليه" (أي الملاذ الأخير) لإنقاذ قطاعات الاقتصاد اللبناني من الانهيار المحتم الذي تسبب به تعسف المصارف. فكأنما وظيفة القضاء تشهد توسّعا بقدر ما تزيد لامبالاة السلطة الحاكمة وتقاعسها عن جبه تعسّف المصارف، فلا يتوقف إذ ذاك دوره على حماية الحريات والحقوق الفردية … بل يصبح الملاذ الأخير لحماية الاقتصاد اللبناني برمته.

 

 

  • مقالات ذات صلة:

"دومينو" في دعاوى الكابيتال كونترول؟ محكمة المتن تلاقي محكمتي بيروت والنبطية

تمدد دعاوى "الكابيتال كونترول" في العدلية: إدانة جديدة إحقاقا للحق ضد "الظالم"

كيف نسقط سطو المصارف على يومياتنا في لبنان؟

موقفان للعدلية ينتصران للمودعين في مواجهة المصارف: الكابيتال كونترول يتم بقانون عادل وليس بإرادة المصرف

 

 

 

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني