أبعد من أزمة الحكم، أسئلة حول مسبباتها الهيكلية والقانونية


2020-03-25    |   

أبعد من أزمة الحكم، أسئلة حول مسبباتها الهيكلية والقانونية

لم تنتهِ الانتخابات التشريعية لسنة 2019 إلى فرض أغلبية نيابية واضحة. وكان من أثر هذا أن عرفت الديمقراطية التونسية الفتية لأول مرة المخاض الصعب للتشكيل الحكومي. كانت أولى طلقات هذا المخاض حين تعهدت حركة النهضة بناء على تكليف صدر لها من رئيس الجمهورية بمسؤولية تشكيل الحكومة بوصفها الحزب الذي حاز على أكبر عدد من مقاعد المجلس النيابي. تحدثت النهضة حينها عن عزمها تكوين حكومة تيار ثوري وعن تمسكها بغلق أبواب الانضمام لها لمن كان في خانة الأحزاب المتهمة بالفساد. وانتهى مرشحها الحبيب الجملي وقد فشل في جمع الكتل التي أرادت الحركة أن تشاركها الحكم للتقدم للجلسة العامة لمجلس نواب الشعب بحكومة من غير المتحزبين، انتهى مجلس نواب الشعب إلى إسقاطها بتاريخ 10-01-2020. تبعا لذلك، أناط الدستور في فصله 89 برئيس الجمهورية قيس سعيد حق تحديد الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة المطلوبة، وقد انتهى بالفعل إلى تكليف "إلياس الفخفاخ" لتشكيل الحكومة، بعدما طلب من الأحزاب اقتراح من تراه مناسبا لتولي هذا المنصب وفق ما يفرضه الدستور. وسرعان ما نشب بين الفخفاخ والنهضة جدل بشأن توجهه إلى تشريك أحزاب ما يسمى "الخط الثوري" وحدهم في الحكم. وقد وصفت "النهضة" هذا الوجه بالإقصائي معلنة تمسكها بإنشاء حكومة وحدة وطنية تقوم على برنامج حكم ويشارك فيها كل من قبل به وفق وزنه الانتخابي.

وقد انتهى صراع الإرادات إلى إعلان تركيبة الحكومة والتي إن لم يشارك  قلب تونس في تركيبتها، فإنها حملت عنوان "التوافق الوطني" بعدما "عبّر رئيسها عن إستعداده للإنفتاح على قوى سياسية أخرى لتوسيع وتمتين الحزام السياسي" .[1]

 

1- الأحزاب البرلمانية: تحوّلات مفهومية في ساحة مفتتة

يتقاسم التمثيلية في مجلس نواب الشعب سبعة عشر حزبا سياسيا وثلاثة إئتلافات انتخابية وثلاثة عشر نائبا ترشح كل منهم في قائمة مستقلة. ويُذكِّر توزيع النواب الحزبيّ هذا إلى حدّ بعيد بتوزيع أعضاء المجلس الوطني التأسيسي حزبيا[2]، مع فارق وحيد يتمثل في كون حركة النهضة تمثلت في ذاك المجلس ب 89 نائبا تقتصر كتلتها في المجلس الحالي على 54 نائبا.

على مستوى ثان، يكشف البحث في الأحزاب البرلمانية عن كون النهضة ظلت الحزب الوحيد الذي حافظ على تمثيل بكتلة كبرى في مخرجات المحطات الانتخابية الثلاث فيما كان غيرها من الأحزاب غير مستقر في حجم تمثيله البرلماني ينكمش أو يضمحل في العهدة الانتخابية التي تلي العهدة التي برز فيها. وتدفع هذه الملاحظات للإعتقاد بكون مردّ الأزمة البرلمانية التي يعرفها النظام السياسي التونسي ليست طارئة بقدر ما هي هيكلية تجد جذورها في الواقع الحزبي أولا والنظام القانوني ثانيا.

 

2-التمثيلية البرلمانية مرآة للواقع الحزبي التونسي

في مقارنة مع نتائج انتخابات 2014، يلحظ أن الأحزاب البرلمانية والائتلافات الحزبية التي تزعمت الحكم وتمثلت في نداء تونس وتلك التي تزعمت المعارضة وتمثلت في الجبهة الشعبية غابت في تركيبة الكتل البرلمانية في انتخابات 2019. كما يذكر أن أيّا من أحزاب اليسار لم يفز بمقاعد تمكّنه من تكوين كتلة نيابية. كما غابت عن تركيبة كتل المجلس الأحزاب التي تصنف في خانة الأحزاب الاجتماعية الوسطية. يعدّ تبعا لهذا نواب هذه العائلة السياسية من الأقليات غير المؤثرة في تركيبة المجلس السياسية.

وفيما بلغت نسبة التجديد في النواب 81,57% إذ لم يضم المجلس في تركيبته إلا 40 فقط من نواب المدة النيابية الفائتة، يظهر أن المنازع الجدي لحركة النهضة التي تراجع عدد مقاعدها بشكل ملحوظ، سيكون مجموع الكتل النيابية ذات المرجعية الدستورية.

فقد اكتسب صفة نائب شعب في ثاني العهدات النيابية للجمهورية الثانية سبعة نواب كانوا فيما مضى نوابا في برلمانات ما قبل الثورة. كما تمكن عدد هام من قيادات الصف الثاني لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان حاكما من نيل ذات الصفة. وقد توزع هؤلاء على خمس كتل نيابية أكدت كلها على أن "العائلة الدستورية" هي رافدها الأساسي وبلغ مجموع أعضائها 92 نائبا. ويلحظ أن الحزب الدستوري الحر الذي تتكون كتلته البرلمانية من 17 نائبا هو أبرز الوافدين الجدد على "قصر باردو" وهو يتميز عن سائر الكتل والأحزاب بخطابه الراديكالي الذي يمجد نظام بن علي ويستعيد خصوماته الصدامية مع النهضة. ونلاحظ هنا أن خطه هذا وإن كان قد صنع قاعدته الانتخابية، فإنه لم يجد قبولا من النواب المحسوبين على ذات العائلة السياسية التي ينتمي لها والذين تمسكوا في مواجهته برفضهم اجترار الماضي. قسم الدستوري الحر العائلة السياسية التي ينحدر منها. كما قسمت ذات العائلة في شقها المتبقي تحالفات قياداتها السياسية زيادة على خلافات زعمائهم فيما بينهم. فكان أن صنف "حزب تحيا تونس" وهو منها في خانة أحزاب الخط الثوري في حين تمسك غيره من شركائه في التاريخ والمرجعية برفض فكرة ذاك الخط بدعوى أنه فكرة عدائية تستهدفها.

فيكون بالتالي المجلس النيابي في رسمه السياسي مكوّنا من عائلتين سياسيتين كبيرتين، هما الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية والأحزاب ذات المرجعية الدستورية. يضاف إلى هاتين العائلتين الكبريين العائلة القومية العربية التي نجحت في أن تكون ممثلة لأول مرة في تاريخها ب 15 نائبا وحزب التيار الديمقراطي الذي تطور حجمه النيابي من 3 نواب في الدورة النيابية الأولى إلى 22 نائبا. وينتظر أن تشكل هاتان العائلتان الموازيتان عامل الحدّ من ظاهرة التجاذب الثنائي.

وتوحي عند هذا المستوى هندسة المجلس النيابي بكونها مثالا نموذجيا لبرلمان يمكن أن تتشكل صلبه حكومة متجانسة تقابلها معارضة قوية. ولكن النظر في تفاصيل التشكيل الداخلي للعائلة الدستورية وفي العلاقات بين الأحزاب التي يفترض أنها تصلح لتكون شريكة في الحكم والمشار إليها أعلاه، يبيّن ما يخالف ذلك. فبنتيجة هذه الانقسامات، توجّب على الساعين لتشكيل الحكومة البحث عن تحالفات تشمل طيفا من الأحزاب يتجاوز عدده الأربعة بالحدّ الأدنى. وقد وجد هؤلاء في مواقف الأحزاب في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية الرابط الممكن لإرساء الحكومة الجديدة بحيث تشارك آنذاك في تأييد سعيد كل من النهضة والتيار الديمقراطي وتحيا تونس وحركة الشعب وائتلاف الكرامة تحت شعارات دعم الثورة ومكافحة الفساد. وقد دفعت الحاجة إلى إبراز هذا الرابط أحزابا كانت تجاهر بمعارضتها المبدئية لأي تحالف مع قوى شاركت في النظام القديم لأن تقبل بفكرة أن يكون جزء من هذا النظام جزءا من الثورة، مما يعكس تطورا مفهوميا هاما في الساحة السياسية التونسية. إلا أن هذا التطور عجز عن تحقيق الغاية منه، إذ سرعان ما انتهت محاولة الربط بين هذه الأحزاب إلى تبادل اتهام فيما بينها بالفساد والشعبوية، بما أكد مجددا هشاشة الساحة السياسية.

على أرض الواقع وبعيدا عن التسويق السياسي، يمنع المشهد النيابي في تفاصيل انقساماته الداخلية أي حديث عن حكومات برامج ويفرض أن يكون تكوين الحكومات مجرد جمع للمتنافرين باعتماد الترضيات التي تتمثل في تقاسم المناصب الحكومية دون تقييم للأداء أو تصور لحاجيات المرحلة. ويبدو هذا الأمر نتيجة حتمية لنظام تشريعي صنعه أو أنه في حده الأدنى لم يكن كفيلا بعلاجه.

 

3- التشريع، أداة تأبيد للأزمة

تعهدت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"[3] بصياغة مشروع مرسوم الانتخابات الذي أجريت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وفق أحكامه. نظر في حينها أعضاؤها في الواقع السياسي فعاينوا تشتتا على مستوى أحزاب الوسط واليسار في مقابل توحد في جبهة الإسلام السياسي. دفعتهم ملاحظتهم هذه إلى تصوّر نظام انتخابي حددوا كهدف له منع هيمنة من كان مهيكلا ومنظما على المشهد. فكان "النظام التمثيلي النسبي المغلق بتخصيص بقية المقاعد لأكبر البواقي[4]" الوصفة التي اعتمدوها لتحقيق "تمثيلية واسعة للعائلات السياسية فضلا عن دعم مشاركة الأحزاب الصغيرة والمستقلين"[5]. وإذ تحصّلت النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي في 23-10-2011 على 36,97% من أصوات الناخبين المصرح بها في مختلف الدوائر متقدمة بذلك على الحزب الذي تلاها أي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بما نسبته 30.05% من الأصوات[6] وبما كان معه عدد حاصل أصواتها يساوي حاصل أصوات التسعة أحزاب التي تلتها في ترتيب الأحزاب المصرح بنجاحها[7]، إلا أن القانون لم يسند لها إلا 89 مقعدا من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي ال217 ووزع البقية على غيرها ومنهم 18 حزبا سياسيا وقائمة ائتلافية. عند هذا الحدّ، غطى القانون الانتخابي على ضعف غير النهضة من الفاعلين السياسيين ومنع بذلك منع الحزب الأكبر من التفرد في صياغة دستور يعكس توجهاته وفرض عليه القبول بتوافقات مع غيره من مكونات الساحة في ذلك، بما خدم فكرة أن يكون الدستور ممثلا لكل التونسيين ومجسّدا للثابت في اختياراتهم الحضارية وما يتفقون عليه من تصورات لمستقبل بلدهم. لاحقا، كرس الدستور النظام شبه البرلماني كنظام حكم في الجمهورية الثانية وكان ينتظر تبعا لهذا أن يطرح نواب المجلس الوطني التأسيسي وهم يعتزمون سنّ تشريع تجري وفقه الانتخابات التشريعية، أنظمة انتخابية أكثر تلاؤما مع نظام الحكم ذاك.

تعهد المجلس بمقترحي قانون انتخابي صاغت نص كل واحد منها إحدى الجمعيات المهتمة بملاحظة الانتخابات. ويكشف الاطلاع على النصين أولا وعلى نقاش اللجان الفنية للمجلس التأسيسي لهما أن السؤال حول تأثير النظام الانتخابي على النظام السياسي واستقرار الحكم لم يكن محلّ سؤال معمق. ويبدو أن الأزمة السياسية التي تزامنت مع نظر المقترح كانت مرد ذلك. لاحقا، فرضت مخرجات الحوار الوطني أن يسنّ قانون انتخابي بذات قواعد مرسوم انتخابات المجلس التأسيسي كحل توافقي يساهم في إنهاء الأزمة. وكان يفترض تبعا لهذا أن يكون فتح ورشة النقاش حول القانون الانتخابي من أولويات المجلس النيابي متى انتخب لما علم أعضاؤه من خلل علق به.

خلافا لما كان يجب، لم يهتم النواب خلال الدورات النيابية الأربع الأولى لمدتهم النيابية الأولى بالسؤال حول سبل تحقيق استقرار سياسي بمجلس النواب ولم ينتبهوا لكون القانون الانتخابي ونظام مجلسهم الداخلي اللذين يجيزان لنواب الشعب الانسلاخ عن الأحزاب التي انتخبوا على قوائمها ووفق برامجها عمق أزمة الحياة السياسية وأدى لوصمها بالفساد. فرض بموازاة هذا ذات النواب بمناسبة وضع قانون المحكمة الدستورية وقوانين الهيئات المستقلة أن ينتخب أربعة من قضاة المحكمة وأعضاء الهيئات المستقلة بأغلبية 145 صوتا من أصواتهم ولم يقبلوا لغير ذات النصاب بديلا. تجاهلوا في فعلهم هذا واقع انقسام مجلسهم فكان أن كانت قوانينهم أداة تعطيل لإرساء مؤسسات الدولة.

على صعيد متصل مع نهاية الدورة النيابية الخامسة والأخيرة من عهدة المجلس النيابي، كشفت مراكز سبر الآراء عن توجهات منتظرة للناخبين لم تكن ترضي الائتلاف الحاكم. وكان من أثر هذا أن سارعت الأغلبية لفتح ملف القانون الانتخابي والاعتراف بأهميته في تعديل المشهد السياسي. وقبل شهر واحد من نهاية الدورة الانتخابية، صادق مجلس النواب على مشروع تعديل للقانون الانتخابي يفرض عتبة انتخابية وقيودا أخرى على الترشح لعضوية المجلس النيابي، قيل أن الهدف منها تخليق العمل النيابي. إلا أنه لم يكتب لهذا المشروع أن يصدر لعدم توقيعها من رئيس الجمهورية آنذاك الباجي قائد السبسي، من دون أن يعرف فيما إذا حصل ذلك نتيجة موقف له من المشروع أو نتيجة وضعه الصحي الذي انتهى إلى وفاته.

بعيدا عن ذاك التشريع غير المكتمل والمثير للجدل، يتعهد المجلس النيابي في الدورة الأولى لثاني مدده النيابية بمقترح قانون صدر عن كتلة حركة النهضة يتضمن أحكاما تعدل القانون الانتخابي في اتجاه فرض عتبة انتخابية. ارتبطت صياغة هذا المقترح بأزمة مسار التشكيل الحكومي، بمعنى أنه يأتي بمثابة رد فعل على أزمة طارئة وبكلمة أخرى بمثابة محاولة لثني الخصوم السياسيين عن الاستمرار في تعنتهم وفرض شروط صعبة في هذا المسار على اعتبار أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى انتخاابات مبكرة يرجح أن لا يفوزوا فيها وبخاصة في حال وجود هذه العتبة.

وانطلاقا من ذلك، يبدو من المتعين تجاوز ردود الفعل في طرح السؤال عن النظام الانتخابي وإخراج الحوار حوله من نطاق السؤال التقني القانوني أو الحساب السياسي الآني إلى نطاق السؤال حول دوره في تعزيز الحياة السياسية والمؤسساتية في تونس.

 

 

  • نشر هذا المقال في العدد 17 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

انتخابات بطعم الثورة أو زهوة انتخابات لم تدُم طويل


[1]  بيان المكتب التنفيذي لحركة النهضة بتاريخ 19-02-2020.

[2]   تكون المجلس الوطني التأسيسي في نسيجه الحزبي من 18 حزبا و ائتلاف انتخابي و 8 مستقلين .

[3]  هيئة شبه برلمانية انشئت بعد الثورة لم تسند لها سلطة تقريرية لكن اعضاؤها كانوا يتداولون في مسودات مشاريع المراسيم ويعرضونها على السلطة التنفيذية لاقرارها.

[4]   وفق هذا النظام الانتخابي يتم تقسيم الأصوات المحتسبة ( ليس من ضمنها الأوراق الملغاة والأوراق البيضاء ) على عدد المقاعد المخصصة للدائرة للوصول الى الحاصل يتم توزيع المقاعد على جميع القوائم التي وصلت إلى الحاصل ( مقعد عن كل عدد من الأصوات مطابق للحاصل ) ويتم تخصيص المقاعد المتبقية للقوائم  بعد ترتيبها باعتبار عدد الأصوات المتحصل عليها .

[5]   تصريح رئيس اللجنة الفرعية للقانون الانتخابي التابعة للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة فرحات الحرشاني لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 07-11-2011

[6]  تحصل الحزب الثاني على 8.70 %

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني