“قبل 20 سنة الرقابة كانت أسهل، لا فكرة لدي عما يحصل. أشعر وكأن كل الجهود التي نبذلها للتخلص من الرقابة تذهب سدىً. لا بل هي أنتجت مفعولاً عكسياً وأدت الى تقوية الرقابة التي لم تعد ترتدع. فبعدما فشلت كل المحاولات، ماذا بيدي أن أفعل؟ هل أهدد برفع دعوى؟ لم ننجح في دعوى سابقة. هل أقول أنني سأنظّم حملة؟ لا يهتمون البتة. هل ألوّح بتدخّل فلان؟ موظف الأمن العام غير المؤهل لتقييم عمل فني أقوى من أكبر شخص ممكن نستعين به”. هذه الشهادة تعود لأحد الأشخاص العاملين في قطاع صناعة السينما منذ ما يزيد عن العقدين. تفضل الشخصية أن تبقى مستترة بإسم مستعار (نختار لميا) تخوفاً من إنتقام الرقابة. تقول لميا لـ”المفكرة”: “الرقابة عم تنتقم منا انتقام بعد كل حرتقة (بعد أبسط موقف نتخذه ضد قراراتها)”.
“لميا” ليست وحيدة في حلقة الخوف هذه. هناك من يرفض أن يخوض أي حديث صحفي يتعلق بالرقابة. لا سيما أنه وزملاؤه في طور البدء بعمل سينمائي، فلا يود أن يضر بـ “مصالح كثيرين يشاركون بالعمل”. هذا التحفظ ليس إلا إشارة على تصاعد تعسف الرقابة في قراراتها بمنع أو اجتزاء الأعمال الفنية. حيث يتوقع العاملون في هذا المجال أن تمنع أفلامهم أو يُضيّق عليهم بمجرد إنتقادهم لها، بغض النظر عن مضمون عملهم الفني الذي يكون موضوع رقابة. هذا التحفُّظ الشديد، والإمتناع عن المواجهة، يصلح ليكون نقطة إنطلاق للتدقيق بما آلت اليه العلاقة بين القيمين على قطاع صناعة السينما في لبنان والعاملين فيه من جهة، وبين الرقابة بوجهيها المدني (تقوم به مؤسسة الأمن العام) والديني ( حذف أو منع على خلفية رأي مرجعية دينية) من جهة أخرى.
مؤخراً، شهدت صالات السينما حدثين بارزين ارتبطا بالرقابة التي تمارسها المؤسسات الدينية على الأفلام. أولهما كان تعليق الموافقة على فيلم “مولانا” (إخراج مجدي أحمد علي) على شرط اقتطاع 12 مشهداً منه. أما الثاني فكان ظهور حجاب أسود على إحدى شخصيات فيلم “إسمعي” للمخرج “فيليب عرقتنجي”. أما على مستوى مهرجان “أيام بيروت السينمائية”، في دورته التاسعة (15-24 آذار 2017)، فتجسدت المأساة في إمتناع الرقابة عن منح الإذن بالعرض لفيلمين هما “بيت البحر” للمخرج اللبناني روي ديب، و”مولانا”. بالإضافة الى ذلك، فرضت الرقابة حذف مشاهد أو جمل معينة من أفلام أخرى، ومنحها “إذن عرض ثقافي لمرة واحدة”.
“الشارع” أداة قمع بيد السلطة
في وقت سابق على مستجدات الرقابة في ظل المهرجان، برزت ديناميتان في العلاقة بين الرقيب والقيمين على كل من فيلم “مولانا” و”إسمعي”. فإن كانت الرقابة في المحلين وقفت خلف السلطة الدينية راضيةً بقرارها، متناسيةً أنها سلطة مدنية في دولة هي الأخرى مدنية، فإن المواقف التي إتخذتها كل من “شركة الصباح” المنتجة والموزعة لـ”مولانا”، ومخرج ومنتج “إسمعي” فيليب عرقتنجي، من الرقيب جاءت مختلفة.
الإقتطاع المفروض على “مولانا” إذن، كان سببه إعتراض دار الفتوى على عدد من المشاهد تشكل حوالي 12 دقيقة من الفيلم. يقول مسؤول الشؤون الدينية في دار الفتوى الشيخ وسيم المزوق في حديث للمؤسسة اللبنانية للإرسال (lbci) أنه “لو تم عرض الفيلم من دون حذف هذه المشاهد، تكون دار الفتوى قد رفعت عن نفسها المسؤولية فباتت المسألة في عهدة الأمن العام في حال حصل أي رد فعل من الشارع”.
بصورة متطابقة، يستدعي الأمن العام المخرج “فيليب عرقتنجي” ليخبره أن رجال دين دروزاً منزعجين من ظهور شخص بلباسهم الديني في أحد مشاهد فيلم إسمعي من دون استشارتها. ويضيف عرقتنجي في حديثه مع “المفكرة”: قالوا لي لن نمنعك (الأمن العام) من عرض الفيلم، لكن إنتبه… فقد تواجه مشاكل”. تعليق عرقتنجي كان وقتها: “المفترض إذا الشخص يشعر بالخوف يتوجه إلى البوليس، أنا عندكم وخايف”.
تنازل المؤسسة الأمنية عن دورها في حماية حقوق المواطنين وحرياتهم، دفع عرقتنجي ليقصد “الطائفة الدرزية”. وقد توصل “للإتفاق معهم على “ألا أجتزئ منه أي مشهد مقابل تغطية الشيخ الدرزي كي لا يضايقهم”. يجد عرقتنجي أنه من خلال هذا الإتفاق، بقي في الخط الذي رسمه لنفسه. “فأنا ضد العنف وضد الإستفزاز، وقد عملت على فيلم حب لأني أريد أن أبقى في الحب وأتكلم عنه، لذا سميت فيلمي “اسمعي” لأقول أننا لو سمعنا لبعضنا نتمكن من الوصول إلى نتيجة”. ينتهي عرقتنجي إلى القول : “لست سعيداً لأنني شوهت فيلمي، لكنني مرتاح لأني بقيت على خطي”.
مع تحفظه على مبدأ الرقابة، فهو في ظل وجودها كأمر واقع، يؤثر القيام برقابة ذاتية على القبول بتشويه فيلمه. لكن حتى الرقابة الذاتية تحتاج إلى معايير واضحة تزعج الرقابة عادةً. لكن يتضح أنه لا يوجد حتى معايير :”لو أخبروني من قبل أن تصوير شيخ درزي سيؤدي الى إزعاج الدروز، لعدلت المشهد، ففيلمي هو قصة حب”.
“مولانا” يواجه السلطة المدنية
على العكس من توجه عرقتنجي، لم يتضح ان شركة الصباح للإعلام (موزعة فيلم مولانا) قد تواصلت مع دار الافتاء بهدف الوصول إلى حل مرض للطرفين. وقد حصرت الشركة اتصالاتها بالأمن العام ووزير الداخلية، من خلال كتاب طالبت فيه بإعادة النظر بقرار المنع على ضوء رأي لجنة محايدة مؤلفة من متخصصين بشوون الثقافة والفن. توضح الصباح في كتابها هذا أن الفيلم “يدعو إلى التسامح وتقبل الآخر المختلف، وعدم التورط في الإقتتال بإسم إحتكار الحقيقة المطلقة وعدم إستغلال الدين سياسياً عبر تدخلات في الشأن الإجتماعي والأخلاقي“. بالتالي يشكل هذا الكتاب، وفقاً لوصفها، محاولة أخيرة تهدف إلى “السماح بعرض الفيلم كاملاً أو رفضه بالكامل”. والخيار الأخير يعني أن “تحمل المسؤولية الأدبية والأخلاقية عن قمع الإبداع الذي لم يفلح عبر التاريخ في إيقاف مسيرة الإنسانية نحو الخير والحب والسلام“.
من هذا المنطلق أعلنت شركة الصباح في بيان لها الإمتناع عن عرض الفيلم في حال إصرار الأمن العام على إقتطاع المشاهد وذلك “دفاعاً عن الحرية ولبنان الثقافات، وإحتراماً لتاريخ الشركة وصناع هذا العمل”. بالإضافة إلى البيان، صرح رئيس مجلس إدارة الشركة صادق الصباح أن هذا الموقف سيكلفهم “خسارة مادية كبيرة، إلا أنها دعوة لحماية الجيل الجديد وضمان مناخ يسمح بحرية أكبر لأي عمل فني”.[1]
بالطبع، إن القوة التي تتمتع بها شركة الصباح ضمن قطاعها لا بد أن تكون قد شكلت عاملاً مساعداً لإتخاذ موقف مماثل. فمولانا لا يعتمد على الصالات اللبنانية، خلافاً لأي فيلم لبناني الصناعة والهوية. إلا أن وجودها في موقع القوة هذا لا ينتقص من أهمية موقفها. على العكس من ذلك، فإنه يدفع للتساؤل عن سبب عدم توجه العاملين في هذا المجال لبناء تكتل داعم لهذا الموقف، وفتح ثغرة في حائط الرقابة؟
ويبدو أن عدم الاستفادة من هذا الموقف، لا ينفصل عن مسيرة طويلة من النضالات المنفردة يدافع فيها كل مخرج أو منتج أو غيرهم عن أعماله ضد القمع وحيداً. وما يعزز هذا القول، هو ذهاب كل الذين تواصلت معهم المفكرة في هذا المجال إلى تسمية عمل جماعي يتيم بينهم ضد الرقابة هو: “مسودة قانون إلغاء الرقابة المسبقة على الأعمال السينمائية والمسرح”. وهذا المشروع قد أنتج كتاباً عن الأوضاع القانونية للرقابة في لبنان ومسودة مشروع قانون لم تنجح في خرق حواجز البرلمان.
“مهرجان أيام بيروت السنمائية”: نقطة مفصلية؟
يبدو أن الشركة المنتجة لفيلم “مولانا” لم تيأس من نضالها لعرض الفيلم كاملاً. هكذا أدرج الفيلم على برنامج عروض مهرجان أيام بيروت السينمائية، ليوم الجمعة في 24 آذار. غير أنه، ونظيره عن فئة الأفلام الطويلة “بيت البحر”، لم يحصلا على إذن الرقابة. تواجد رئيس مجلس إدارة شركة الصباح خارج لبنان، أدى الى تعذر إتصال المفكرة القانونية معه. بالمقابل، تمكنت من الإستماع الى تعليق المخرج روي ديب حول منع فيلمه. فالأخير أيضاً سجل موقفاً نضالياً بوجه الرقابة، عندما رفض عرض فيلمه مع مجموعة من الافلام المهددة بالمنع، في السفارة الفرنسية للإفلات من مقص الرقابة. هكذا أصر روي على الذهاب بالفيلم الى الرقيب، لأنه يريد “عرضه على الأراضي اللبنانية، وأرفض عرضه على أرض أجنبية داخل لبنان (السفارة) بسبب وجود رقابة”. إلا أن الرقيب “ماطل ولم يمنح إذناً بالعرض ولا أصدر قراراً رسمياً بالمنع، لكننا تبلغنا بشكل غير رسمي أن الفيلم لن يعرض”. بالمقابل، يوضح روي أن التبرير الذي يقدمه الأمن العام للصحافيين الذين سألوه عن الموضوع فحواه “وجود إشكاليات حول الفيلم في اللجنة حتى اللحظة”. إذن هذا أسلوب جديد إختاره الرقيب لتعطيل عرض فيلم خلال المهرجان المدرج في إطاره. كذا فإن الرقيب لم يحمل نفسه، بإتباعه هذا الأسلوب أي مسؤولية عن تبرير أسباب المنع. يوضح ديب أنه “سيتم تقديم كتاب للرقيب يطالب بإصدار قرار تجاه عرض الفيلم. كما التعليقات حول منع فيلم مولانا في لبنان رغم عرضه كاملاً في مصر، فإن روي يقول: “بيت البحر عرض في تونس وسيعرض في المهرجان الفلسطيني المستقل في حيفا وأيضاً حاز إذناً للعرض في مصر، وها هو يمنع في لبنان”.
التشدد الذي شهدته الدورة التاسعة لمهرجان أيام بيروت السينمائية، دفع منظميه الى إصدار بيان اعتبروا فيه أن “الرقابة على الإنتاج المعرفي تقطع العلاقة الجدلية القائمة بين المبدع والمتلقي”. وهذا “القطع” الذي يرتكز على ما تراه الرقابة “حقاً (صحيحاً ومحقاً)، يشبه تماماً فعل “التكفير”. هكذا تعتبر أن ما فعله الرقيب تجاه المهرجان يوازي فعل “القتل بحق عدة مبدعين وكذا بحق جمهورهم، أي بحق مدينة بكاملها”. وفقاً للبيان، فإن الرقيب خلال هذه الدورة كان “أكثر تشدداً من أي دورة مضت، في مسار يوحي أننا نتجه من السيء الى الأسوأ. كل هذا، في زمنٍ، تخطت فيه شبكة الأنترنت كل رقابة، وفي وقت تعرض شاشات التلفزة ما طاب لها من برامج تحفل بالعنصرية والطائفية وتشي بانهيارٍ كامل للقيم الإنسانية العامة”. لينتهي البيان الى التأكيد أن “أيام بيروت السينمائية، تؤكد رفضها لأي رقابة على المنتج الإبداعي، موجهةً دعوة عامة لمناقشة الخطوات التي يمكن إتخاذها لمواجهة جرائم الرقيب”. فهل يشكل هذا اللقاء إنطلاقة لمواجهة حاسمة بين المبدعين والرقيب تحمي حقوق الأولين بمواجهته؟
“القانون معني بهذه القضية”
قبل الخوض في توقعات حول المعركة التي قد تبدأ إثر هذا النقاش، فإن واقع الحالات النضالية الفردية السابقة تعيدنا إلى كلام لميا، بكل ما أصيبت به من “إحباط” خلال سنوات نضالها: “عندما طالبنا بإنشاء لجنة للرقابة تنفيذاً للقانون إلى حين التمكن من الغاء الرقابة، حصلنا على ما أردناه. ولكن بات المخرج اليوم يُهدد بإحالة فيلمه الى اللجنة”. كذلك الأمر بالنسبة للدعاوى القضائية، فبعد “خسارة الدعوى المرفوعة اثر منع فيلم بيروت في الليل (Hotel Beirut)، وصار الأمن العام يقلنا: ارفعوا دعوى (كتعبير عن استخفاف الأمن العام بهذه الخطوة)”.
ويوضح وكيل عربيد، نزار صاغية، أن هذه الدعوى كانت الأولى من نوعها، أقله بعد حرب 1975-1990 لكنها ليست الوحيدة. بعدها رفعت دعوى أخرى إثر منع عرض فيلم “لي قبور على هذه الأرض”. وهذه الدعوى لا تزال سارية. يضيف صاغية أنه “من خلال الدعوى القضائة نحرك المياه الراكدة فالنقاش في القضاء لا ينتهي وموقفه قابل للتغيير”. والأهم في موضوع التقاضي أن “الدعوى التي تخسر قد تضيف شيئا، ولكن ان لم نتكلم في الموضوع فلا شيء سيتغير ابداً”. فالمبدأ في التقاضي الإستراتيجي هو أن “لا نعتمد على أمر واحد بل على تراكمات: بدايةً نفتح الموضوع لاحقاً نذهب أبعد. فتصدر أحكام مختلفة، بالإضافة الى أن تفاعل النقاش في ظل النظام الاجتماعي والسياسي يساعد على تخمير الموضوع”. رفع الدعاوى القضائية يجعل “القانون أكثر حضورا في هذه القضية، ولا تعود مسألة الرقابة متروكة للعلاقة بين الفنانين والرقابة بشكل منفصل عن القانون والمفاهيم الحقوقية”.
نشرت هذه المقالة في العدد |48|أذار/مارس 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
الرملة البيضا: دفاعاً عن الإرث وأجيالنا القادمة
[1] – شركة الصباح للاعلام امتنعت عن عرض فيلم مولانا في لبنان ورفعت كتاب التماس الى الأمن العام لاعادة النظر بقرار الحذف، الوكالة الوطنية للإعلام، 7 شباط 2017.