“
ككل سنة، تستعيد “المفكرة القانونية” أهم الأحكام القضائية التي نشرتها، والتي آلت الى تحقيق مكسب حقوقي هام. وقد تميزت هذه السنة بالمغرب بصدور مجموعة من الأحكام التي بدا فيها القضاء في حالة تفاعل حقيقي مع مطالب وحراكات اجتماعية بارزة، وهي أحكام سنتناولها ونعلق عليها في حلقتين.
في هذه الحلقة، نستعرض أهم الأحكام المتصلة بتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحماية البيئة ومحاسبة القيمين على الخدمة العامة وتحسين أوضاع المهمشين.
1- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
ليس في مدونة الشغل ما يجعل عقود تشغيل العمال الأجانب محددة المدة
بتاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر2018 أصدرت محكمة النقض قرارا مبدئيا يؤسس لبداية تحول جديد في تعاملها مع قضايا تشغيل الأجانب[1]، فبعدما استقر الاجتهاد القضائي طيلة عقود على اعتبار عقود تشغيل الأجانب بطبيعتها محددة المدة[2]، نظرا لتوقفها على ترخيص من وزارة التشغيل، وضرورة تجديد الترخيص بشكل دوري داخل الأجل القانوني[3]، وهو ما كان يعرض حقوق العمال الأجانب لعدة انتهاكات، اعتبر قرار جديد لمحكمة النقض أن ليس هناك في مدونة الشغل ما يفيد أن عقود تشغيل الأجانب محددة المدة بحسب طبيعتها، وأنها على غرار عقود التشغيل التي يبرمها المغاربة يمكن أن تتحول إلى عقود غير محددة المدة طبقا لقاعدة التجديد الضمني.
تعود فصول القضية إلى دعوى تقدم بها أجير يحمل الجنسية الفرنسية أمام المحكمة الابتدائية بفاس يعرض فيها أنه كان يعمل لدى الشركة المدعى عليها، إلى أن تم فصله بصفة تعسفية، ملتمسا الحكم له بالتعويضات الناتجة عن الفصل التعسفي.
وقد استجابت المحكمة الابتدائية للطلب، معتبرة فصل المدعي قد تم بشكل تعسفي، وحكمت على الشركة المدعى عليها، بأدائها للمدعي التعويضات المستحقة عن الفصل التعسفي، وذلك بعد تكييف عقد العمل على أساس أنه محدد المدة، نظرا لعدم تجديد رخصة التشغيل من طرف السلطة الحكومية المختصة.
وقد تم تأييد هذا الحكم استئنافيا، فتقدم دفاع المدعي بطلب النقض في الحكم لخرقه للقانون، معتبرا أن الشركة المدعى عليها ارتضت جعل عقد الشغل غير محدد المدة، وهي الملزمة قانونا بطلب تأشيرة الشغل من السلطة الحكومية المكلفة بالشغل، حسب ما تنص عليه المادة 516 من مدونة الشغل، عند بداية كل عمل وحتى في حالة كل تغيير فيه، مضيفا بأن الشركة لم تفِ بهذا الالتزام القانوني المفروض عليها، بعدم مطالبتها بتجديد رخصة التشغيل من طرف السلطة الحكومية المختصة، وبذلك تسببت في إيقاف عقد الشغل معه.
وعابت مذكرة الطعن أيضا على قرار محكمة الاستئناف سوء التعليل، لأنه اعتبر عقود عمل الأجانب محددة المدة، بحسب مدة تأشيرة الوزارة الوصية، والحال أنه لا يوجد أي تلازم بين مدة التأشيرة الموضوعة على العقد، وبين مدة العقد.
وقضت محكمة النقض بنقض القرار الاستئنافي معتبرة أن عقد الأجير الأجنبي يخضع للمقتضيات المنصوص عليها في مدونة الشغل، ويكون منتجا لجميع آثاره القانونية. وعللت محكمة النقض قرارها بأن
طالب النقض هو أجير أجنبي، وأنه اشتغل لدى الشركة دون توقف من يوليوز 1998 إلى غاية أبريل 2014، وأنها لم تحصل على رخصة السلطة الحكومية المكلفة بالشغل على شكل تأشيرة إلا على ثلاثة عقود عمل فقط، … (وعليه) فإن استمراره في العمل لديها طيلة هذه المدة يجعل عقد عمله غير محدد المدة، ويكون منتجا لجميع آثاره القانونية المنصوص عليه في مدونة الشغل.
وتكمن أهمية القرار في زوايا عدة، أهمها الآتية:
- أنه يضع حدا لاجتهاد قضائي ساهم في حرمان شريحة كبيرة من العمال الأجانب من الحماية القضائية من التمييز، في تنافي مع المعايير الدولية وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال والمهاجرين وأفراد أسرهم[4] التي صادق عليها المغرب والتي تنص في مادتها 25 على أن العمال المهاجرين يتمتعون: “… بمعاملة لا تقل مراعاة عن المعاملة التي تنطبق على رعايا دولة العمل من حيث الأجر ومن حيث ما يلي: أ) شروط العمل الأخرى، أي أجر العمل الإضافي، وساعات العمل…السلامة والصحة، وإنهاء علاقة الاستخدام..”.
- أن القرار لم يتوقف عند حرفية النصوص، التي تستلزم شكلية معينة لصحة عقود تشغيل العمال الأجانب، وإنما استلهم روح التشريع من خلال النظر في مواد القانون على أساس أنها تمثل كتلة واحدة يكمل بعضها بعضا، واستلهم الحل القضائي الكفيل بحماية الأجراء الأجانب وحظر التمييز ضدهم.
2- الحق ببيئة سليمة
عرفت سنة 2018 تزايدا لحالات اللجوء إلى القضاء للمطالبة بتفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ومن أبرز القضايا التي عرفت متابعة اعلامية واسعة في المغرب تلك المرتبطة بالحق في بيئة سليمة، حيث آلت هذه القضايا في غالبيتها إلى إصدار أحكام قضائية مبدئية، يمكن الوقوف على أهمها:
مبدأ الحيطة يوجب تخفيف انبعاث الإشعاعات حماية للبيئة والصحة
بتاريخ 27 مارس 2018، أصدرت محكمة الاستئناف بتطوان قرارا مثيرا قضى بتأييد الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 12 أبريل 2017 في قضية تركيب هوائيات الهواتف النقالة في الأحياء السكنية، وهي القضية التي سبق وأن شغلت الرأي العام بالمغرب وشكلت محور تجاذبات بين شركات الاتصالات وعدد من جمعيات المجتمع المدني وناشطين حقوقيين.
تعود فصول القضية إلى تاريخ 24 أكتوبر 2016 حينما تقدمت مجموعة من سكان أحد الأحياء بمدينة شفشاون-شمال المغرب، بدعوى أمام المحكمة الابتدائية بنفس المدينة يعرضون فيها أن شركة اتصالات المغرب تعتزم تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال على سطح أحد المنازل المجاورة لإقامتهم. وأضافوا بأن الثابت أن هذه الأجهزة تصدر إشعاعات مغناطيسية تتسبب في إحداث أضرار بليغة على صحة المجاورين لهذا الجهاز. وقد التمسوا تبعا لذلك الحكم رفع الضرر من خلال إيقاف تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال وتفكيك الجزء الذي تم تركيبه تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 2000 درهم عن كل يوم امتناع عن التنفيذ. وارفقوا عريضة الدعوى بمحضر معاينة وبحث أكاديمي حول الأضرار الصحية الناتجة عن أبراج الاتصالات.
وتكمن أهمية هذا الحكم في التعليل الذي اعتمدته المحكمة، وهو ما يبدو في الجوانب التالية:
-الاعتماد على مبدأ الحيطة والحذر والذي يفرض “وجوب تبني إجراءات تحوطية لحماية البيئة والصحة العامة”. ويلاحظ في هذا الصدد أن المحكمة لم تقف عند النظرية التقليدية لقواعد الإثبات القائلة بضرورة انتظار الحصول على الحقائق العلمية والبراهين التي تؤكد علاقة السببية بين الضرر والنشاط المسبب له، واعتبرت أن “غياب اليقين العلمي لا يمكن أن يحتج به في عدم اتخاذ إجراءات لمواجهة خطر قد يؤدي إلى أضرار جسيمة لا يمكن معالجتها”.
-الاعتماد على تطبيقات مبدأ الحيطة والحذر في الاتفاقيات الدولية؛ حيث أشار القرار إلى إعلان ري ودي جانيرو لسنة 1992، ومن قبله عدة اتفاقيات دولية كمعاهدة برشلونة 1978 المتعلقة بحماية البحر الأبيض المتوسط من التلوّت البحري، واتفاقية جنيف 1979 المتعلقة بتخفيض مقذوفات أكسيد الكربون والكبريت والآزوت، واتفاقية فيينا 1985 المتعلقة بحماية طبقة الأوزون، وبروتوكول مونتريال 1987 المتعلق بالمواد التي تفقر طبقة الأوزون، واتفاقية بال 1989 المتعلقة بالنفايات الخطرة، واتفاقية باريس 1993 حول منع إنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيماوية وتدميرها، واتفاقية الدول الأطراف 2001 المتعلقة بالتنوع البيولوجي ومكافحة التصحر، وهو توجه غير مألوف في المحاكم المغربية؛
-اعتبار المحكمة للضرر المعنوي للسكان نتيجة القلق الناجم عن العيش في حقل الإشعاع الكهرومغناطيسي للوصول إلى نتيجة مفادها أن الضرر “قائم وحال”، ويتمثل فيما يخلقه تواجد هذه المحطات مباشرة فوق المنازل أو على بعد أمتار قليلة من أثر سلبي في نفسية الشخص بسبب الإحساس الدائم بالتوجس والخوف والقلق على نفسه وأطفاله نتيجة العيش المتواصل في حقل من الإشعاع الكهرومغناطيسي.
إلزام شركة لجمع النفايات بأداء تعويض
في سابقة فريدة من نوعها، قضت المحكمة الإدارية بوجدة (شرق المغرب)[5]، بأداء شركة للتدبير المفوض، عملت في وقت سابق في قطاع جمع النفايات المنزلية بمدينة تاوريرت، بأدائها لفائدة الجماعة، وهي الجهة التي فوضت لها تدبير القطاع، تعويضا بلغ أكثر من 7 ملايين درهم (أي ما يقارب 70 ألف د.أ) مع الفوائد القانونية من تاريخ الحكم وتحميل الشركة الصائر.
تعود فصول القضية الى 10 أغسطس 2017 حينما أقامت الجماعة الترابية لتاوريرت دعوى أمام المحكمة الإدارية بوجدة للمطالبة بالتعويض، بعدما لم تلتزم شركة للتدبير المفوض ببنود دفتر التحملات، وهو ما كبدها خسائر كبيرة.
وقد استندت الدعوى إلى معطيات تؤكد أن الشركة لم تكن تجمع النفايات بالشكل المنصوص عليه في دفتر التحملات، والذي من المفترض أن يستجيب للمعايير الدولية في هذا الإطار.
كما أن دفتر التحملات يتضمن، أيضا، قيام الشركة المعنية بعدة استثمارات خاصة على مستوى التجهيزات الخاصة بجمع النفايات وعصرها، لكن الجماعة رصدت عدم قيام الشركة بتلك الاستثمارات ما كان له انعكاس سلبي على الواقع البيئي للمدينة وعلى الساكنة.
وقد قضت المحكمة بالتعويض نفسه الذي طالبت به الجماعة، بعدما أنجزت خبرة في الموضوع أكدت وجود تقصير من جانب الشركة المفوض لها في القطاع.
يمكن لهذا الإجتهاد القضائي أن يفتح المجال أمام العشرات من الجماعات الترابية لمواجهة اختلالات شركات التدبير المفوض، خاصة بقطاع جمع النفايات المنزلية في عدد من المدن، والتي لا تلتزم في الغالب ببنود دفاتر التحملات.
كما أن هذا الحكم المبدئي يأتي في الوقت الذي ارتفعت فيه العديد من الأصوات المطالبة بالتخلي عن أسلوب التدبير المفوض واستعادة الجماعات المحلية لهذا المرفق وتدبيره.
3- المساءلة والمحاسبة للقيمين على خدمة عامة
في هذا المجال، شهدت سنة 2018 تطورات عدة في المغرب، يأتي في مقدمتها الجهود المستمرة للمحاكم الإدارية لإلزام الإدارات بتنفيذ الأحكام القضائية.
إلزام الإدارات العمومية بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها
عرفت سنة 2018 صدور العديد من الأحكام القضائية عن المحاكم الإدارية ضد الإدارات التي يمتنع بعض مسؤوليها عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها.
غرامة شخصية ضد مسؤول في السلطة لامتناعه عن تنفيذ حكم
بتاريخ 03 ديسمبر 2018، أصدر رئيس المحكمة الإدارية بالرباط المستشار مصطفى سيمو أمرا جديدا قضى في منطوقه “بتحديد غرامة تهديدية في مواجهة قائد قيادة المنزه في مبلغ 2000,00 درهم … عن كل يوم تأخير، تحتسب ابتداء من تاريخ تبليغه بهذا الأمر “.
تتعلق وقائع القضية بطلب تقدم به مدعي، يعرض فيه أنه سبق أن حصل على حكم قضائي مبرم قضى بإلغاء القرار المطعون فيه والمتعلق بامتناع الإدارة عن إعطاء شهادة إدارية تخص عقارا يعود له مع ترتيب الآثار القانونية على ذلك. ورغم ذلك، امتنع ممثل السلطة المحلية عن تنفيذ الحكم المذكور.
تبرز أهمية هذا الاجتهاد القضائي في جانبين:
- الأول، أنه اعتمد على نصوص غير تقليدية في التعليل، على رأسها الدستور المغربي لسنة 2011 وقوانين أخرى غير قانون المرافعات التقليدي ومنها قانون مؤسسة وسيط المملكة، الذي اتجه نحو “شخصنة” امتناع الإدارة غير المبرر عبر مسؤوليها عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها، حيث نص في الفصل 32 منه على عدة إجراءات وجزاءات يتعين أن يتخذها وسيط المملكة في حق المسؤول أو الموظف الممتنع عن التنفيذ بدون مبــــــرر، بدءا بإخبار الوزير المعني بذلك ومرورا برفع تقرير إلى رئيس الحكومة أو إصدار توصية بمتابعته تأديبيا، وانتهاء بالدفــــــع إلى متابعة المسؤول أو الموظف المذكور جنائيا عند الاقتضاء، كما أن موقف المشرع الدستوري جاء حاسما بشكل نهائي وواضح عندما أقر هذا التوجه بمقتضى الفصل 126 من دستور المملكة الذي نص على أن الأحكام القضائية النهائية تعتبر ملزمة للجميع”.
- الثاني، استشراف ارادة المشرع المعبر عنها في مشاريع قيد المناقشة أمام البرلمان وهو توجه غير مألوف في الاجتهاد القضائي المغربي. وفي هذا الصدد يلاحظ أن الأمر القضائي اعتمد على مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية وتنص المادة 587 منه على “إمكانية إصدار قاضي التنفيذ لغرامة تهديدية في مواجهة شخص القانون العام المنفذ عليه أو المسؤول عن التنفيذ أو هما معا”.
ويعد هذا الاجتهاد القضائي من الاجتهادات التي دأبت المحكمة الإدارية بالرباط في شخص رئيسها السير على منوالها ضمانا وإجبارا للتنفيذ ضد الإدارة الممتنعة، بحيث يتم إعمال الغرامة التهديدية اليومية في حق المسؤول الإداري شخصيا عوض المرفق الإداري.
تعدد رفع دعاوى تصفية الغرامة التهديدية عن مراحل مختلفة لا يعدّ استباحة للمال العام
في تطوّر لافت لاجتهاد القضاء الإداري لمواجهة ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها بالمغرب، وما تخلفه من تكلفة مادية، اعتبرت المحكمة الإدارية بالرباط في قرار حديث لها، أن تعدد رفع دعاوى تصفية الغرامة التهديدية عن مراحل مختلفة لا يعدّ استباحة للمال العام أو محاولة للإثراء بدون سبب من قبل المقاولة المدعية، ما دامت الإدارة المدعى عليها مستمرة في الامتناع عن تنفيذ الحكم النهائي الصادر في مواجهتها منذ سنوات.
تعود فصول القضية إلى تاريخ 01/06/2018 حينما تقدمت مقاولة بدعوى أمام المحكمة الإدارية بالرباط تلتمس فيها الحكم بتصفية الغرامة التهديدية المحكوم بها ضد ممثل الإدارة وذلك عن 60 يوميا. مقابل ذلك، أثار دفاع الإدارة سبقية البت في القضية، على اعتبار أن المدعية سبق وأن استصدرت حكما على نفس الوقائع قضى لفائدتها بأداء مبلغ مالي كتصفية لغرامة التهديدية لعدم تنفيذ الحكم نفسه؛ وهو ما لا يمكن مسايرته حماية للمال العام، ومنعا لكل محاولة للإثراء بلا سبب على حساب الإدارة.
وبتاريخ 03/10/2018، صدر حكم المحكمة الإدارية في القضية بقبول الدعوى على أساس أن الغرامة التهديدية المراد تصفيتها في الملف الحالي تتعلق بفترة غير مشمولة بالأحكام الصادرة سابقا.
تبرز أهمية هذا الاجتهاد القضائي في أنه أفرد على نحو غير مألوف مساحة هامة من الحكم لتفنيد دفوع الإدارة، أبرزها الجوانب الآتية:
- تذكير الدفاع بأخلاقيات المهنة التي تجعله خصما شريفا: اعتبرت المحكمة أن تلميح الإدارة إلى أن مطالبتها بغرامة تبعا للتأخير هو استباحة للمال العام “يحمل في طياته اتهاما غير مباشر موجها للمحكمة الإدارية بالرباط، يتمثل في مسايرتها لكل جهة تخول نفسها استباحة المال العام وإصدارها لأحكام بالتعويض لفائدتها سبق البت فيها قضائيا”. وهو ما اعتبرته المحكمة يشكل صورة لعدم الانضباط “لقواعد وأعراف وأدبيات الدفاع باعتباره خصما شريفا”.
- بعدما اعتبرت المحكمة أن حجج الإدارة “تشكل مساسا ليس بذكاء نائب الجهة المدعية فقط، وإنما فيه مساس بذكاء المحكمة ككل”، رأت أنه كان من الأجدى بدفاع الادارة “تفعيل دور الدفاع الحقيقي على الإدارات العمومية المتمثل في تطبيق القانون وحماية مصالح منوبة وذلك بتوصيته القانونية بتنفيذ حكم قضائي نهائي، وذلك لإيقاف النزيف المستمر لتصفية الغرامات التهديدية في مواجهة الإدارة والحيلولة دون المساس بالمال العام”.
- اعتبرت المحكمة أن واقعة استمرار امتناع الإدارة المدعى عليها عن تنفيذ الحكم القضائي يعكس درجة عالية من الضرب و المساس بقدسية الأحكام الحائزة لقوة الشيء المقضي به، و مخالفة لمقتضيات الفصل 126 من الدستور الذي ينص على أنه: “يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء”، وفيها ضرب للحكامة الجيدة وحسن تدبير المرفق العام ولا سيما مرفق الصحة الذي يعد مرفقا حساسا حيويا يعاني من خصاص حاد على مستوى الموارد المالية وفق آخر التقارير الرسمية المنجزة في هذا الباب وطبقا لمشاريع قوانين المالية.
- أشارت المحكمة في تعليلها إلى أن تسخير الإدارة الممتنعة عن التنفيذ مالها العام للاقتطاع بفعل أحكام بالتعويض الصادرة في مواجهتها تصفية لغرامات تهديدية، يمكن أن تعرض مسؤوليها للمحاسبة والمساءلة طبقا لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 154 من الدستور التي تنص على أنه: “تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور.”
الحجز على أموال الإدارة
أصدر قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية بالدار البيضاء بالمغرب أمرا تحت عدد 251 ملف 251-7102-2018 يسمح بالحجز على أموال مودعة لدى وكالة بنكية تعود لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -عين الشق بمدينة الدار البيضاء.
ويعود سبب الحجز المذكور إلى ضمان تنفيذ حكم قضائي صدر بتاريخ 06-03-2018 قضى بتعويض قدره 400.000 درهم (أي 4000 د.أ) لفائدة طالبتين كانتا تدرسان بنفس الكلية وتخرجتا منها، إلا أن إدارة الكلية تأخرت في منحهما شهادة تخرجها لمدة سنتين مما دفعهما إلى رفع دعوى قضائية الكلية بسبب هذا التأخر لتعويض الضرر الذي لحقهما وهو ما اعتبرته المحكمة بمثابة خطأ مرفقي وشطط غير مبرر ألحق ضررا بالمدعيتين.
وبعد هذا الحكم القضائي، الذي وصف في وسائل التواصل الاجتماعي بالمنصف، وجه وزير التربية الوطنية رسالة إلى جميع الجامعات المغربية ومن خلالها الكليات التي تتبع لها حثهم فيها على تسريع تسليم شهادات التخرج للطلبة دون إبطاء.
التعويض المادي عن تأخر القطارات
في تطور لافت لفكرة التقاضي، أصدرت المحكمة التجارية بالرباط، بتاريخ 11 نيسان/أبريل 2018، حُكماً يقضي بتعويض قدره 5000 درهما (حوالي 500 د.أ) لفائدة طالبة ووالدتها تقدمتا بدعوى ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية لطلب التعويض عن الضرر اللاحق بهما نتيجة تأخر القطار [6].
وقد قررت المحكمة التجارية الاستجابة إلى الطلب معتبرة أن تعرض القطار لعطل أثناء الرحلة لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، ما دام أن تلافي ذلك كان ممكنا، وما دام أن المدعى عليه باعتباره ناقلا ملزم بصيانة وتتبع الحالة الميكانيكية للآليات التي يستعملها، وأن الإخلال بهذا الإلتزام يجعل العطل متوقع الحدوث، وهو ما ينفي عنه صبغة القوة القاهرة أو الحدث الفجائي، ما يجعل ما أثير بهذا الخصوص على غير أساس ويتعين رده.
تبرز أهمية هذا الحكم-والذي مهد لصدور أحكام قضائية مماثلة مطلع سنة 2019- بأنه أقر مبدأ امكانية التعويض ماديا عن الأضرار اللاحقة نتيجة تأخيرات مواعيد القطارات بعدما، كان الاجتهاد القضائي في قضايا مماثلة يقر بالتعويض المعنوي.
من المأمول أن تسهم مثل هذه القضايا في تحسين المكتب لأدائه وخصوصا لجهة احترام مواقيت السفر.
4- تعزيز حقوق الفئات المهمشة
في سعي لإنصاف الفئات المهمشة، صدر عدد من الأحكام أيضا، أهمها الآتية:
أبناء المقيمين غير النظاميين الحق في التسجيل في الحالة المدنية
أمرت المحكمة الابتدائية بمدينة الناظور (شرق البلاد)[7]، بتسجيل مولود ازداد بالمغرب من أبوين مهاجرين بطريقة غير شرعية، وذلك في سجلات الحالة المدنية[8].
تعود فصول القضية إلى تاريخ 15 يناير 2018 حينما رفع والد الطفل أياري دعوى أمام القضاء لتسجيل ابنه المولود بمدينة الناظور، وذلك بمؤازرة من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان عبر فرعها المحلي، وذلك بعدما رفضت السلطات الإدارية بالمدينة قبول تسجيله، بعلة أنه مقيم بطريقة غير شرعية بالمغرب ولا يتوفر على محل إقامة معروفة بالمدينة.
وبتاريخ 16 يناير 2018، أصدر القاضي محمد البقالي حكمه الذي استجاب فيه للطلب، وقضى بتسجيل الطفل أياري في سجلات الحالة المدنية بالمدينة؛
تبرز أهمية الحكم على مستوى نقطتين:
- من جهة أولى كان لافتا في الحكم أنه أقر بحق الطفل المزداد في المغرب في التسجيل بالحالة المدنية، بغض النظر عن الوضعية القانونية لوالديه، أو جنسيته، مستعينا في ذلك للوصول الى هذه النتيجة بمقتضيات “النظام العام التي تقتضي تسجيل كل ولادة بسجلات الحالة المدنية لمكان وقوعها”؛
- من جهة ثانية وبحسب متتبعين، فإن الحكم يعد سابقة من نوعه في تاريخ المحاكم المغربية، إذ سيؤدي في حالة تبنيه من طرف باقي المحاكم إلى تغيير مهم على مستوى واقع اندماج المهاجرين غير الشرعيين بالمغرب.
- نشر هذا المقال في العدد | 14 | أبريل 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
لمن القانون في تونس 2018؟
[1]– يتعلق الأمر بقرار محكمة النقض، عدد 936/1 المؤرخ في 16/10/2018، في ملف اجتماعي عدد 1743/5/1/2016، غير منشور .
[2]– محمد سعيد بناني: قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل – علاقات الشغل الفردية، الجزء الثاني، المجلد الأول، طبعة يناير 2007، ص: 125.
[3]– استقر الاجتهاد القضائي المتواتر لمحكمة النقض ومحاكم الموضوع على اعتبار عقود عمل الأجراء الأجانب، عقودا محدد المدة بغض النظر عن اتفاق الأطراف. وهكذا أكد قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) أن : “اشتغال الأجير لمدة 12 سنة لا يؤثر على طبيعة علاقة العمل ما دامت هذه العلاقة منظمة بواسطة عقود محددة المدة بمقتضى قواعد آمرة لا يمكن مخالفتها”، وأضاف نفس القرار التأكيد على أن “إجبارية وضع تأشيرة مصالح اليد العاملة بوزارة التشغيل على عقود العمل المتعلقة بالأجانب وتحديد مدتها في سنة أو سنتين تضفي على هذه العقود طابع التحديد”.
-قرار عدد 875 الصادر بتاريخ 29/10/2002 في الملف الاجتماعي عدد 834/5/1/2001 ـ منشور ضمن قرارات المجلس الأعلى بمناسبة الذكرى الخمسينية لتأسيسه (أهم القرارات الصادرة في المادة الاجتماعية) الجزء الأول، ، ص: 63
[4] – ظهير رقم 317. 93. 1 الصادر في فاتح رمضان 1432 (2 أغسطس 2011) القاضي بنش الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال و المهاجرين وأفراد أسرهم المعتمدة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر 1990.
منشورة بالجريدة الرسمية عدد 6015 بتاريخ 29 صفر 1433( 23/1/2012) الصفحة 362.
[5] – حكم المحكمة الادارية بوجدة، عدد 89، في الملف 35/7114/2017، بتاريخ 08/02/2018.
[6]– حكم المحكمة التجارية بالرباط، صادر بتاريخ : 11/04/2018، في ملف رقم :563-8201-17، غ.م.
[7]– حكم المحكمة الابتدائية بالناظور عدد 40، في ملف حالة مدنية، عدد 18/1602/70، صادر بتاريخ 2018/01/16.
[8]– الناظور مدينة حدودية تعرف توافد كثير من المهاجرين من بلدان افريقيا جنوب الصحراء قصد الهجرة بطريقة غير شرعية إلى مدينة مليلية المحتلة من طرف اسبانيا.
“