آمال العلوي: سِيرة مناضلة يُلاحِقها شَبَح السّجن


2024-07-24    |   

آمال العلوي: سِيرة مناضلة يُلاحِقها شَبَح السّجن
من صفحة الناشطة آمال العلوي على فيسبوك

رغم حلّ المجالس البلديّة منذ مارس 2023، إلاّ أنّ آمال العلوي الرئيسة السابقة لبلديّة طبرقة لم تكفّ عن التحرّك لفائدة جهتها. تدوينَتها الأخيرة التي كشفت فيها عن تجاوزات قام بها أحد المستثمرين في جهتها كلّفها حُكما بالسجن لمدّة سنة ونصف، على معنى المرسوم 54. صدر هذا الحكم ضدّها في 11 جويلية 2024. 

تتعلّق القضيّة التي حُوكِمت فيها آمال العلوي بتدوينة نشرَتها على صفحتها بموقع فايسبوك كشفَت فيها عن تجاوزات ارتكَبَها أحد أصحاب الأعمال، الذي اختارَ التّوجّه نحو الصلح الجزائي في ملفّ يتعلّق بالاستيلاء على الملك العمومي البحريّ، وفق عدد من المصادر الإخبارية. وحَسب ما قالته العلوي في منشورها -وهو ما يتقاطع مع ما ذكرته للمفكرة- فإن صاحب الأعمال المذكور أقام مصنعًا (وهو مغلق منذ سنة 2018) وأراد ضمّ قطعة أرض مجاورة، فتحرّك الأهالي ضدّ هذه الخطوة وأصدر الوالي قرارًا يقضي بهدم الجزء الّذي بناَه هذا المستثمر فوق تلك المساحة. وفي سنة 2023، خُصّصَت هذه الأرض لإقامة مدرسة إعدادية ولكنّ المستثمر واصل البناء ومَنَعَ المقاولَ من مواصلة أشغال تهيئة المدرسة، فبادرت آمال بتصوير الاحتجاجات ونَقلِها للرأي العامّ. “قام المواطنون بغلق الطريق الرابطة بين طبرقة وعين دراهم في خريف 2023، ولم أقم سوى بنقل الحراك، وذكرت في تدوينتي بأنّ هذا الرجل ارتكب تجاوزات يَعلمها الجميع، فتدخّلت السلطة وأصدرت قرار هدم. لكنّه تقدّم بشكاية ضدّي لأنّني حرّضت المتساكنين ضدّه حسب قوله، وطلب منّي تعويضًا بأربعة مليارات مقابل هدم السّور الّذي أقامه على الأرض، والّذي لا تتجاوز كلفته 500 دينار. فمن أين لي أن آتيه بهذا المبلغ”؟ تتساءل آمال العلوي بسخرية. وبخصوص الحكم الصادر ضدّها تقول: “لا بدّ من التعامل مع الوضع، ولا  نستغرب شيئا ممّا يحصل الآن”.

بدايات النضال في الجامعة

راكَمت آمال العلوي تَجربة سياسيّة منذ سنوات الجامعة، حيث كانت ناشطة في الاتحاد العامّ لطلبة تونس منذ التحاقِها بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار سنة 2006، وانطلقت في تجربة سياسيّة مع اتّحاد الشباب الشيوعي التونسي قبل الثورة، لتنشط فيما بعد مع حزب العمال الشيوعي بصفة مؤقتة. لم تقبل آمال الانخراط في حزب وفضّلت النشاط تحت غطاء نقابي عبر انتمائها إلى الاتحاد العام التونسي للشغل بعد تخرّجها من الجامعة والتحاقها بإحدى الإدارات. “قبل الثورة كنت في اتحاد الشباب الشيوعي، وبعد الثورة أصبحت ناشطة مع حزب العمّال وكتبت مع جريدة صوت الشعب الناطقة باسم حزب العمال . الانتماء إلى اليسار لا يزول، وأنا بقلبي وفكري مع اليسار. هناك من يفضّلون الانضمام إلى أحزاب فيما يرفض آخرون هذه القوالب. أنا بحكم شخصيّتي لا يمكنني أن أنضبط حزبيّا ولكنّ هذا لا يمنعني من مساندة الشخصيات السياسية التي أرى فيها نفسي ورؤيتي للمجتمع، ومن البديهي أن أصطفّ مع رموز من اليسار على حساب شخصيات أخرى يمينيّة”، هكذا تحدّثت آمال العلوي للمفكرة القانونية.

قبل التحاقها بالجامعة، كانت آمال متردّدة بين تخصُّصَين اثنين: المحاماة والصحافة. تركيبة شخصيّتها “القويّة والعنيدة” دفعتها إلى أن تَجد نفسها بين هذين الخيارَين، لتحسم تردّدها بالتحاقها بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار في 2006، وشدّت الرّحال في ذلك الوقت من مدينتها طبرقة إلى العاصمة تونس.

كانت نهاية العشرية الأولى من سنوات الألفين مشحونة سياسيًّا، ولكنّ الفضاء العامّ لشدّة ما كان مغلقًا لم يترك منفذَا لخلق نقاش سياسيّ، باستثناء بعض الأوساط مثل الجامعة التي كانت حاضنة للنقاش العامّ عبر  الاتحاد العامّ لطلبة تونس، و هي منظّمة  ذات توجّه يساري مدافعة عن حقوق الطّلبة ومصالحهم الماديّة والمعنوية. كانت كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، الواقعة على بعد بضعة أمتار من مبيت الطالبات البساتين الّذي كانت تقيم فيه آمال، أوّل إطار يُتيح لها التعرّف عن قرب إلى الاتحاد العامّ لطلبة تونس. ظلّت تستمع بانتباه إلى ما قيل في أحد الاجتماعات العامّة عندما كان أحد الناشطين يندّد بتجاوزات السلطة آنذاك ويدافع عن حقوق الطّلبة. “ظللتُ أتقدّم تدريجيّا نحوه وقد شدّني خطابه المشحون ضدّ النّظام الحاكم والمدافع عن حقوق الطّلبة. وعندما أنهى حديثه أعلنتُ له عن رغبتي في الانضمام إلى الاتحاد. في ذلك الوقت، كان مجرّد الحديث مع منتسبي الاتّحاد تهمة، فما بالك بالانضمام إليه”، تقول آمال للمفكّرة، لتضيف: “الاتحاد مدرسة تشذب الشخصية وتعلّم التفاوض والدفاع عن المبادئ وتهيّئ منتسبيها إلى الخوض في الشأن العامّ. كنّا رفاقًا تقدّميّين بحقّ ندافع عن بعضنا البعض بشراسة ولا نرضى لأيّ من رفاقنا بأن يتعرّض للأذى. كنت ناشطة ضمن اتحاد الطلبة في معهد الصحافة وكليّة الآداب بمنوبة وصولا إلى كلية 9 أفريل للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وكنت عنصرا فاعلا وأنشط بوجه مكشوف وأتغيّب باستمرار عن الدروس”. 

حرب مكشوفة ضدّ السلطة

رغم مرور أكثر من عشر سنوات عن أحداث الحوض المنجمي التي حصلتْ في 2008، إلا أنّ آمال ظلّت تتذكّر تفاصيل مواجهتها لآلة القمع في ذلك الوقت، خاصّة وأنّها نُقلت إلى المستشفى بعد محاولة دهس تعرّضت لها من أمام الجامعة عندما دخلت في اعتصام مع عدد من الطّلبة تنديدًا بالعنف البوليسي الّذي سلّطه النظام لقمع الاحتجاجات الاجتماعية بمنطقة الحوض المنجمي في الجنوب الغربي للبلاد: “خضنا تحرّكًا لفكّ الحصار عن منطقة الحوض المنجمي، بغلق السكة الحديدية للمترو الخفيف التي كانت في طور الإنجاز. كنا معتصمين ومعتصمات على حافّة الطريق، وإذا بسيّارة تتقدّم نحوي لكنّني لم أعرْها اهتمامًا في البداية لأنّني كنت أجلس على حافّة الطّريق قرب الرّصيف. رأيت سيّدة تجلس بجانب السائق تُشير بيدها نحوي وتقول له تقدّم. فدهستني السيارة ولاذ سائقها بالفرار. فقَدت الوعي ولم أستفقْ إلا في المستشفى، وكان الطّلبة المعتصمون غاضبين أمام الجامعة ومنعوا الأساتذة من الخروج.”.

في 2009، خاض طلبة جامعة منّوبة اعتصامًا على خلفيّة منع عدد من الطالبات من السّكن الجامعي، استمرّ لمدّة شهر مع بداية السنة الجامعية، التي تزامنت مع الانتخابات الرئاسية التي انتظمت سنة 2009. “خُضنا تحرّكا في 03 نوفمبر داخل كليّة الآداب بمنوبة، فداهمت قوات الشرطة المكان وتعرّض العميد والأ ساتذة إلى الضرب، وتمّ التحضير لمداهمة مبيت الطالبات وحاصرته قوات الشرطة بالأحصنة، كأنّنا إرهابيات أو نمثّل خطرا مُحدقًا، في حين أنّ سلاحنا الوحيد هو الكلمة والقلم ولم تتجاوز أكبرنا سنًّا الحادية والعشرين سنة”. علمت الطالبات الناشطات في اتحاد الطلبة التي كانت آمال من بينهنّ بأنّ قوات الشرطة ستوقفهنّ، فتنكّرن ووضعن شعرًا مستعارًا وغادرن المبيت نحو وجهة أخرى آمنة، مع عائلة إحدى صديقاتهنّ. “تمّ إصدار حكم ضدّي يقضي بسجني لمدّة سنة مع إيقاف التنفيذ على خلفيّة ذلك الاعتصام”، هكذا تحدّثت آمال العلوي للمفكّرة.

إثر ذلك، بدأت التحرّكات الاحتجاجية التي مهّدت لهروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي يوم 14 جانفي 2011، بعد سلسلة من الاحتجاجات وسقوط عدد من الشهداء. ظلّت آمال وفيّة للمبادئ التي آمنت بها، و”استبشرت خيرًا” بالثورة: “خرجنا من حيّز الجامعة وأصبحت مطالبنا ذات بعد وطني وكان سقف انتظاراتنا عاليًا. ولكنّ الأمل بدأ يتلاشَى مع انتخابات المجلس التأسيسي وصعود فاعلين سياسيّين قَدموا من وراء البحار وخرجوا من السجون وكانوا صامتين إزاء الانتهاكات الحاصلة، لكنّهم ركبوا على الثورة وعلى نضالات الشعب”. هكذا كان تقييم آمال العلوي لمنظومة الحكم في فترة الانتقال الديمقراطي. تقديرها لمنظومة الحكم القائمة الآن لا يختلف عن تقييمها  للسّنوات التي تلت الثورة، فهي تقول بأنّها لم تكن متفائلة بانتخابات 2019: “الماكينة التي أوصلت هذا النظام إلى الحكم هي نفسها التي أوصلت اليمين في السابق. ولم أكن متفائلة بمستقبل الحقوق والحريّات، وتبيّن زَيْف شعارات مكافحة الفساد التي من الممكن أن تنطلي على البسطاء ومن يفتقرون إلى مَلَكة النّقْد. فقد تعاملت مع مسؤولين وأدرك جيّدًا الفرق بين القول والفعل”.

التحقت آمال بالإدارة التونسية وانخرطت في الاتحاد العام التونسي للشغل، لكنّ آلة الإدارة لم  تُروّضها، بل حافظت على سلوكها الاحتجاجي ووقوفها في صفّ المطالب الاجتماعيّة: “دائمًا ما أخوض نضالات قطاعية وأساند الحقوق والحريّات. يجب أن نكون فاعلين أينما حللنا. عندما بدأت أشتغل كنت أشارك في التحركات وأكون في الصفوف الأولى رغم أنّني مُلزَمة بالحضور إلى العمل، ولكنّ المبادئ لا يمكن التخلّي عنها. لا يمكن مثلا أن أباشر عملي في الوقت الّذي يخوض فيه زملائي تحرّكًا”.

إكراهات الشأن المحلّي

بعد سنوات من المعارضة والنضال في الجامعة والانخراط في الاتحاد العامّ التونسي للشغل ومشاركتها في مختلف التحرّكات ذات المطالب السياسية والاجتماعية والحقوقية، اختارت آمال العلوي المشاركة في الشأن العامّ عبر ترشّحها للانتخابات البلديّة الجزئية بطبرقة، في مارس 2022. التقينا آمال في ذلك الوقت عن طريق الصّدفة عندما كنّا بصدد تغطية الانتخابات البلديّة الجزئية بطبرقة، وكنّا نعرف آمال منذ أيّام الجامعة بحكم نشاطها وحركتها الدائمة وصوتها الحادّ في الاجتماعات العامّة في ساحة معهد الصّحافة. استقبلتنا بحفاوة وأخذتنا في جولة في المدينة، وكانت ملتزمة بضوابط الصمت الانتخابي فلم تسعَ بأيّ شكل إلى التعريف ببرنامجها رغم أنّنا لم نكن من متساكني الجهة، مما يعني أنه ليس لنا الحقّ في التصويت. وكانت عند مرورها في الشارع الرئيسي للمدينة وفي الممرّات الفرعيّة تردّ التحيّة على المارّة بحزم، دون أن تحثّهم على الاقتراع أو أن تتثبّت في الحبر الانتخابي على سبّاباتهم، على عكسنا.

انتُخبت آمال العلوي رئيسة للبلديّة وعُيّنت في 17 ماي 2022. “ترشّحت للانتخابات البلديّة إيمانًا منّي بعدم وجود بدائل في ذلك الظّرف. فالانتخابات تأجّلت مرّتين بسبب عدم وجود مترشّحين”،  ثم تضيف قائلة: “أنا أحبّ منطقتي وأريد لها الخير والازدهار وكنت أرى في نفسي قادرة على التغيير. مدّتي النيابية كانت قصيرة وكان سقف طموحاتي عاليًا ولكنّني لم أجد تعاونًا. كنت دائما في مواجهة مع المسؤولين لافتكاك حقّ طبرقة في التنمية مراعاةً لخصوصياتها، فهي منطقة حدودية تمثّل وجهة ثقافيّة وسياحية، وكان لا بدّ من إحياء المهرجانات وإعادة فتح النّزل المغلقة وفتح المطار وتهيئة الطّرقات وإعادة تشغيل السكة الحديدية”.

سعت آمال إلى افتكاك حقّ طبرقة في التنمية لاسترجاع إشعاعها كوجهة سياحيّة وثقافيّة، لكنّها وجدت نفسها في أوت 2022 محلّ شكاية أودِعت إثرها السجن المدني بالكاف مدّة تسعة أيّام، في إطار “حملة أمنية لمكافحة استغلال الملك العمومي”، على اعتبار أنّها أسندت رُخَصًا لاستغلال الملك العمومي البحري على خلاف الصّيغ والإجراءات القانونية. “اتّبعت الإجراءات المعمول بها وعقدت اجتماعًا مع الوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي والشرطة البحرية وغيرها لتجديد رُخَص المظلاّت الشمسية لفائدة الشباب المعطَّلين عن العمل. فالوقت لا يكفي لإجراءات البتّة التي قد تستغرق شهرين أو ثلاثة فينتهي موسم الاصطياف قبل أن تنتهي الإجراءات. لم ترتكب البلدية تجاوزات، بل أسندنا رُخَصًا أقلّ من العدد الّذي كان يُسند في المواسم السابقة. تمّ التحقيق معي بناءً على شكاية من الوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي، ثمّ تبيّنت بعد الإفراج عنّي أنّ الوكالة لم تكن هي مصدر الشكاية”، تفسّر آمال للمفكرة القانونية، مضيفةً أنّ المضايقات والتحقيقات لم تتوقّف عند هذه الحالة: “تمّ استدعائي للتحقيق بسبب الروائح المنبعثة من ميناء طبرقة في الوقت الّذي شرعت فيه الجهات المعنيّة بتنظيفه، كما تمّ التحقيق معي بسبب تجاوزات حصلت في وقت سابق لعُهدتي تخصّ مقبرة المسيحيّين في الجهة”.

ورغم الحكم الصادر أخيرًا عن محكمة جندوبة والقاضي بسجنها سنة ونصف على معنى المرسوم 54، لا تبدي آمال ضيقًا ولا خوفًا، فهي تتلقّى المكالمات الهاتفيّة من رفاقها وأصدقائها وتجيب ضاحكة: “أنا لست في السريّة، أتجوّل في الشارع وكأنّ شيئًا لم يكن”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني