المحكمة الدستورية تمسك العصا من المنتصف: رواتب تقاعد النواب غير دستورية بلا مفعول رجعي


2014-11-19    |   

المحكمة الدستورية تمسك العصا من المنتصف: رواتب تقاعد النواب غير دستورية بلا مفعول رجعي

في قرار تفسيري جريء وصادم بالنسبة الى أعضاء مجلس الامة الاردني، أصدرت المحكمة الدستورية قرارا يقضي بعدم دستورية تقاضي اعضاء مجلس الامة للرواتب القاعدية[1]. وبالطبع، لا يمكن قراءة هذا القرار بمعزل عن مجريات الاحداث السابقة له. فقد جاء هذا القرار بناء على طلب تقدمت به الحكومة للمحكمة الدستورية بتاريخ 24/9/2014 لتفسير عدد من مواد الدستور الاردني للاجابة على السؤال المطروح وهو: هل تجيز نصوص الدستور الاردني المشار لها في طلب التفسير اخضاع مدة العضوية في مجلس الامة للتقاعد المدني؟ والحقيقة أن هذا الطلب جاء عقب سلسلة من المناوشات بين الحكومة والملك من جهة ومجلس الامة من جهة اخرى[2]. وملخصها أن اعضاء مجلس الامة الاردني كانوا قد اقروا بتاريخ 11/9/2014 تعديلا لقانون التقاعد المدني يمنحهم رواتب تقاعدية مساوية لرواتب الوزراء ولمدى الحياة وتسري بأثر رجعي على اعضاء المجلس السابق. وكان هذا التعديل قد اثار استياء عاما لدى الشارع الاردني متهما اعضاء مجلس الامة باقرار امتيازات مالية لانفسهم على حساب الشعب. وفي خطوة كانت متوقعة عقب هذا الموقف، تدخل الملك مستخدما سلطاته الدستورية ورفض المصادقة على ذلك التعديل. وفي ذات الوقت وجه الملك رسالة لرئيس الحكومة يفصح فيها عن الاسباب الموجبة لرفض القانون مع مطالبته بالتوجه للمحكمة الدستورية للاستفسار منها عن مدى دستورية تقاعد اعضاء مجلس الامة[3]. وهو ما دعا مجلس الوزراء لطلب التفسير الذي صدر على اثره القرار مدار البحث.
مأخذ قانوني على القرار التفسيري  
خلصت المحكمة الدستورية الى قرارها القاضي بعدم دستورية تقاضي أعضاء مجلس الأمة لرواتب تقاعدية بناء على اعتبارات عدة. ومن أبرز هذه الاعتبارات أن عضو مجلس الامة لا يعد موظفا عاما ولا تنطبق عليه عناصر الموظف العام مثل التعيين من جهة مختصة ودائمة الوظيفة والخدمة في مرفق عام تديره الدولة، وان علاقة الموظف العام بالدولة هي علاقة تنظيمية تحكمها تشريعات الوظيفة العامة في الدولة وهو ما لا يتوافر في حالة اعضاء مجلس الامة الذين يحكم علاقته بالسلطة التنفيذية مبدأ الفصل بين السلطات وممارستهم للرقابة على السلطة التنفيذية. كما أنه لا يشترط في عضو مجلس الامة التفرغ التام لاداء مهامه ويمكن له ممارسة اي عمل خاص اخر لا يتعارض مع طبيعة تلك المهام، على خلاف الموظف العام المحظور عليه ذلك. كما أن ما يتقاضاه عضو مجلس الامة هو مخصصات او مكافآت وليس رواتب، وذلك استنادا لقانون قديم نسبيا صدر في ظل دستور عام 1946 ولا يزال ساريا وهو قانون مخصصات اعضاء مجلس الامة رقم ( 17 ) لسنة 1946 والذي نصت المادة الثانية منه على "يعتبر ما يتقاضاه اعضاء مجلس الامة مخصصات لا رواتب". وفي هذا تأكيد من وجهة نظر المحكمة أن اعضاء مجلس الامة ليسوا موظفين وانهم بالتالي لا يستحقون رواتب تقاعدية. ومن الناحية القانونية البحتة، لا غبار على ما توصلت اليه المحكمة الدستورية من عدم استحقاق اعضاء مجلس الامة للرواتب التقاعدية في ضوء النصوص الدستورية محل التفسير. فعضو مجلس الامة قطعا لا يعد موظفا عاما، وبالتالي لا تعتبر مدة عضويته في المجلس خدمة مقبولة لاغراض التقاعد. ولكن ما يلفت النظر في القرار التفسيري مدار البحث أن المحكمة الدستورية قد اشارت الى عدم المساس بالحقوق المكتسبة. وهذا يعني أن المحكمة الدستورية ترى أنه رغم عدم دستورية تقاضي اعضاء مجلس الامة للرواتب التقاعدية الا انها استثنت من ذلك من سبق وان استحق راتبا تقاعديا عملا بقاعدة احترام الحقوق المكتسبة. وهنا لا بد لنا من تأييد المحكمة في ما توصلت اليه بالشق الاول من قرارها التفسيري وهو عدم استحقاق عضو مجلس الامة للراتب التقاعدي، الا اننا نخالفها الرأي في الشق الثاني وهو عدم المساس بالحقوق المكتسبة، اي عدم سريان القرار التفسيري على من سبق وان استحق راتبا تقاعديا من اعضاء مجلس الامة. فتفسير النص القانوني او الدستوري الاصل لا يأتي بجديد وانما يقتصر على الكشف عن حكم قانوني قائم اصلا، فقرار المحكمة هو قرار كاشف وليس منشئا. وعملا بالاصول العامة، فإن التفسير يولد مع النص القانوني المفسر ويدور وجودا وعدما معه، ولا يعتبر تطبيق التفسير من تاريخ سريان النص المفسر سريانا بأثر رجعي بل ان ذلك هو الاصل بالنسبة للقرار التفسيري، اي سريانه من تاريخ سريان النص المفسر وليس من تاريخ صدور القرار التفسيري. وعليه كان على المحكمة أن تفسر النص وتقف عند ذلك الحد، ولا تحدد تاريخ سريان التفسير لان ذلك خارج عن نطاق التفسير ويخالف الاصول المتبعة في تطبيق تفسير النصوص القانونية، بمعنى انه كان على المحكمة ان تقرر عدم استحقاق اعضاء مجلس الامة للرواتب التقاعدية سواء الحاليين منهم او السابقين.
مزج السياسة بالقانون في القرار التفسيري
لا شك أن المحكمة الدستورية اثناء اعدادها للقرار التفسيري لم يغب عن بالها انها بمثابة الحكم بين سلطتين بدت علائم النزاع بينهما. لذلك عمدت المحكمة الى البحث عن حل لا ينتصر لاحداهما على الاخرى بشكل مطلق ، فلا هي حرمت اعضاء مجلس الامة من الرواتب التقاعدية بشكل مطلق ولا هي منحتهم اياها بشكل مطلق ايضا، وانما أمسكت بالعصا من المنتصف، فقررت عدم استحقاق اعضاء مجلس الامة الحالي للرواتب التقاعدية مع احتفاظ اعضاء مجالس الامة السابقة بتلك الرواتب. وهي تعلم أن معظم اعضاء مجلس الامة الحالي قد استحقوا رواتب تقاعدية بحكم كونهم اعضاء في المجالس السابقة. اما المسألة الاخرى التي تداركتها المحكمة بهذا القرار فهي منع مواجهة محتملة بين الملك واعضاء مجلس الامة لو لم تقرر هذا التفسير. فرفض الملك المصادقة على تعديل قانون التقاعد الذي منح اعضاء مجلس الامة رواتب تقاعدية مساوية للوزراء ولمدى الحياة لا يعني طي هذا الموضوع نهائيا. ففي هذه الحالة يعاد مشروع القانون لمجلس الامة لإعادة النظر فيه على ضوء ملاحظات الملك. فإذا وافق عليه مجلسا الاعيان والنواب باغلبية الثلثين، وجب عندئذ إصداره رغم معارضة الملك وعدم موافقته[4].، واذا لم تحصل اكثرية الثلثين، فلا يجوز اعادة النظر فيه خلال تلك الدورة على انه يمكن لمجلس الامة ان يعيد النظر في المشروع المذكور في الدورة العادية التالية. وفي حال مناقشة هذا المشروع من جديد اذا حصل على اغلبية الثلثين من اعضاء مجلس الامة وجب اصداره وبخلاف ذلك اذا لم يحصل على اغلبية الثلثين فلا يجوز مناقشته مرة اخرى في ذات الدورة. ولعل المحكمة الدستورية ايضا لم تغفل عن الاثار الخطيرة التي سيرتبها قرارها التفسيري لو سرى بمجراه الطبيعي (بأثر رجعي يعود لسريان النصوص المفسرة). وهذه الاثار تتمثل باسترداد كل ما صرف لاعضاء مجالس الامة السابقة من رواتب تقاعدية، وفي هذا تأزيم للموقف مع اعضاء مجلس الامة الذين قد يعتقدون ان الامر مدبر ويستهدف اعضاء مجلس الامة. وربما هذا ما ظهر من خلال ردود افعال بعض اعضاء مجلس النواب على القرار التفسيري مدار البحث: فعلى سبيل المثال وفي صبيحة اليوم التالي لصدور قرار المحكمة الدستورية، طالب النائب أمجد المجالي مجلس النواب البحث في دستورية المادة (20) من قانون المحكمة الدستورية. وتتعلق هذه المادة برواتب رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية[5]. في حين ابدى نائب اخر انزعاجه من قرار المحكمة الدستورية وعلق على صفحة رئيس ديوان التشريع والرأي الذي اشاد بقرار المحكمة على الفيس بوك، فرد عليه النائب سعد البلوي: " اذا حكومة ترسل قانون غير دستوري تضلل الشعب ونوابه والملك، يجب ان تذهب الى مزبلة التاريخ هي ومستشاريها".[6]
والخلاصة أن المحكمة الدستورية اصدرت قرارا شكل صدمة لاعضاء مجلس الامة ولكنه منع مواجهة دستورية بين السلطة والتشريعية والسلطة التنفيذية بقطع الطريق على مجلس الامة لاقرار القانون باغلبية الثلثين من اعضائه وتجاوز معارضة الملك للقانون. ولكن المحكمة قدرت اثار القرار فخففت من حدته ولو على حساب صحيح القانون من خلال السماح باحتفاظ اعضاء مجلس الامة برواتب تقاعدية مستحقة سابقا رغم قرار المحكمة بعدم احقية اعضاء مجلس الامة للرواتب التقاعدية، متذرعة بفكرة الحقوق المكتسبة التي لا محل لها في هذه الحالة. وكان من الممكن ان تلتزم المحكمة حدود وظيفتها وتكتفي بتفسير النصوص التي عرضت عليها وتخلص الى عدم جواز استحقاق اعضاء مجلس الامة للرواتب التقاعدية دون الاشارة الى اي حقوق مكتسبة. وتترك معالجة اثار القرار التفسيري للسلطة التنفيذية التي تملك بمقتضى قانون الاعفاء من الاموال العامة اعفاء اعضاء مجالس الامة السابقين من المبالغ التي كانوا قد تقاضوها كرواتب تقاعدية، على ان يوقف صرف هذه الرواتب مستقبلا. ورغم ان هذا سيثير استياء وسخطا عاما لدى الشارع الاردني الا انه يحفظ هيبة القانون وسيادته ولا يستدعي الخروج على اصول تفسير وتطبيق النصوص القانونية. ويبقى افضل من ابقاء شبهة عدم دستورية تحيط بقرار تفسيري صادر عن المحكمة الدستورية .
 



[1]– قرار المحكمة الدستورية رقم ( 2 ) لسنة 2014 تاريخ 17 / 11 / 2014 منشور على موقع المحكمة الدستورية على الرابط http://www.cco.gov.jo/Portals/0/22014.pdf
[2]– تناولنا هذه المناوشات بسلسلة مقالات نشرت في المفكرة القانونية، انظر د.حمدي القبيلات، مجلس الامة الاردني يقر لنفسه امتيازات مالية على حساب الشعب ، https://legal-agenda.com/article.php?id=854&lang=ar، وكذلك د.حمدي القبيلات ، الملك الأردني يرفض امتيازات النواب: انتصار للمساواة أم مجاملة الشعب على حساب هؤلاء؟ ، https://legal-agenda.com/article.php?id=861&lang=ar، وكذلك د.حمدي القبيلات ، بعد رفضه منحهم امتيازات مالية: نواب الاردن يتناولون مخصصات الملك و"هرقلة غيت"، https://legal-agenda.com/article.php?id=865&lang=ar.
[3]– الموقع الرسمي للملك عبدالله الثاني ،  http://kingabdullah.jo/index.php/ar_JO/royalLetters/view/id/346.html
[4]– المادة ( 93 / 4 ) من الدستور الاردني " اذا رد مشروع اي قانون (ماعدا الدستور) خلال المدة المبينة في الفقرة السابقة واقره مجلسا الاعيان والنواب مرة ثانية بموافقة ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم كل من المجلسين وجب عندئذ اصداره وفي حالة عدم اعادة القانون مصدقاً في المدة المعينة في الفقرة الثالثة من هذه المادة يعتبر نافذ المفعول وبحكم المصدق. فاذا لم تحصل اكثرية الثلثين فلا يجوز اعادة النظر فيه خلال تلك الدورة على انه يمكن لمجلس الامة ان يعيد النظر في المشروع المذكور في الدورة العادية التالية".
[5]– تنص المادة ( 20 ) من قانون المحكمة الدستورية على أنه " أ-    يتقاضى الرئيس الراتب والعـلاوات المقررة لرئيس محكمة التمييز بمقتضى أحكام التشريعـات النافذة 0ب-   يتقاضى الأعضاء الآخرون الراتب والعلاوات المقررة لنواب رئيس محكمة التمييز بمقتضى احكام التشريعات النافذة 0ج-   على الرغم مما ورد في اي قانون تقاعد يجوز للعضو الجمع بين اي راتب تقاعدي يتقاضاه والراتب والعلاوات المقررة له بمقتضى احكام هذه المادة " 0
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، الأردن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني