أزمة المحاماة التونسية في ظل التجاذب السياسي: هل تنتصر الروح المهنية الجامعة اليوم كما انتصرت في صراعها ضد الديكتاتورية؟


2012-04-23    |   

أزمة المحاماة التونسية في ظل التجاذب السياسي: هل تنتصر الروح المهنية الجامعة اليوم كما انتصرت في صراعها ضد الديكتاتورية؟

انعقدت يوم 20 افريل 2012 جلسة عامة للمحامين التونسيين وسبقتها جلسات عامة أخرى وستعقبها جلسة عامة يوم 05 ماي 2012 لن تكون حتما الأخيرة. تتهاطل في هذه الفترة الدعوات للجلسات العامة على المحامين التونسيين. كل مدة تطالعهم دعوة في شكل بلاغ  للحضور بجلسة عامة وان تخلفوا ولم يتوفر النصاب القانوني أي ثلث عدد المحامين فسيعاد عقد جلسة بمن حضر لتقرر مآل كرسي عمادة المحامين. بعد أن كان المحامي التونسي يستبشر بمستقبل قطاعه في ظل تطوير قانونه وتوسيع مجال تدخله ويفاخر بدوره في إنجاح الثورة وقيادتها، أضحى المحامون اليوم في حيرة على مستقبل هياكل مهنتهم وقد احتدم الصراع بين أقطابهم حول من سيكون عميدهم أي رمزهم الجامع الذي يتقدمهم في الدفاع عن قيم العدالة.
وقد انطلقت الأزمة بينما كان المحامون مشغولين بالإسهام في إعادة بناء منظومة العدالة وفي تحقيق الانتقال الديمقراطي وأتاهم خبر التحاق عميدهم الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني بالحكومة بخطة وزير تكريما لهياكل المحاماة واعترافا بدورها في تأطير الثورة وصيانة بعدها الحضاري. جعل هذا التكليف منصب عميد المحامين في وضعية شغور لحين ظن المتفائلون أن أعضاء الهيأة سيتوافقون على اختيار خلف له يتم مدته النيابية طبق القانون ويواصل قيادة السفينة. ولكن وبمجرد صدور بيان 5 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2012 الذي أعلمهم أن أعضاء الهيأة اجتمعوا وانتخبوا من بينهم الأستاذ شوقي الطبيب عميدا توالت الأحداث التي خيبت آمال الأغلبية الصامتة من المحامين.
بدأت بيانات الانشقاق والشقاق تتهاطل على المحامين: بلاغات ترحب بالعميد الشاب ونهجه التقدمي وتعدهم بمواصلة مسيرة الإصلاح وأخرى تذكرهم أن عميدهم لا تتوفر فيه الشروط القانونية المتمثلة في اقدمية مباشرة المحاماة لدى درجة التعقيب لمدة عشرة أعوام وتلمح بان أنصاره يدعمونه في إطار  رغبتهم في الانفراد بالمحاماة. وانقسم الجماعة في كتاباتهم وخطبهم بين من ينسب النضالية لشق ويصم الآخر بالرجعية. ولم تبق الكلمات والكتابات سلاحا وحيدا للمعركة إذ سريعا ما بدأت تحركات ميدانية فاتحتها كانت التقاضي الذي يجيده المحامون بحكم تخصصهم المهني والعلمي.
وبالفعل، فقد التجأ الذين شككوا في شرعية الجالس على كرسي العميد إلى رفع قضيتين بمحكمة الاستئناف بتونس المختصة قانونا بالنظر في الطعون التي ترد على قرارات هيأة المحامين. الأولى، استعجالية والثانية أصلية طلبوا خلالها قول القضاء في مشروعية ولاية العميد. وقد انتهت القضية الاستعجالية بالرفض، الامر الذي اعتبره أنصار العميد نصرا لهم فيمااعتبره المناهضون مجرد رفض لطلب استعجالي لم ينظر في اصل الإشكال وذكروا بان محكمة الأصل لم تقل كلمتها في الموضوع ويجب انتظار حكمها قبل رفع راية النصر. استقبل السواد الأعظم من المحامين تحول موضوع خلافهم الى نزاع قضائي بالاستهجان لأنهم اعتبروا ذلك سابقة خطيرة قد تصبح في مستقبل الأيام بوابة لضرب استقلاليتهم. اجبر موقفهم هذا المتنازعين على العودة الى قواعدهم من المحامين ليفصلوا فيما اختلفوا فيه. بادر الشق المعارض الذي يضم كاتب عام الهيأة الوطنية للمحامين الأستاذ محمد رشاد الفري وأمينة مالها الأستاذة سعيدة العكرمي بالدعوة لجلسة عامة انعقدت يوم 05 مارس 2012 بمن حضر من المحامين بعد أن عجز منظموها عن توفير النصاب القانوني في موعدها الأول. وصدر عن الجلسة قرار يقضي بعدم شرعية مباشرة الأستاذ شوقي الطبيب لمهام العميد وبمعاينة شغور المنصب تبعا لذلك وتكليف الأستاذ محمد المكشر بالإدارة المؤقتة لعمادة المحامين والتحضير لجلسة عامة انتخابية لانتخاب عميد جديد.
رد شق العميد بالدعوة لجلسة عامة تعذر انعقادها في موعدها الأول يوم 20 افريل 2012  لعدم توفر النصاب القانوني. وستعقد في بحر الأيام القادمة بمن حضر وفي جدول أعمالها إجراء استفتاء بالاقتراع السري للجواب على سؤال: هل توافق على مواصلة الأستاذ شوقي الطبيب الاضطلاع بمهام العميد؟.
تمسك كل طرف بعدم الاعتراف بقانونية الجلسات العامة التي ينظمها الآخر، واشتركا في انتظار ما ستقرره محكمة الاستئناف بتونس في النزاع المعروض عليها في الموضوع بحكمها المنتظر صدوره يوم 25 افريل 2012 دون أن يكون متوقعا إذعان من سيحكم ضده لما ستقرره المحكمة.
 دخل الصراع مجال الحلقة المفرغة. وأيا كانت نتيجة الاستفتاءات ومنطوق الأحكام وقرارات الجلسات العامة، فان الحاصل واحد وهو أن المحاماة ومجلسها شقته فرقة عميقة. تعد هذه الفرقة بكل المقاييس نذير خطر قادم وذلك بالنظر للأهمية الوظيفية لمجلس هيأة المحامين. إذ يستحيل قانونا القبول بانقسام الهيأة الوطنية للمحامين لان هذه الهيأة ليست مجرد هيكل مهني يدافع عن المصالح المهنية للمحامين بل إنها هيكل إشراف على المحاماة. فمجلس الهيأة بقرار من عميدها هو من يمنح المحامي صفته بترسيمه في جداول المحامين. وهو من يسير صندوق تقاعد المحامين بما يعني أنه المسؤول عن معاش من تقاعد منهم وعلى حقوق أبنائهم وأراملهم وهو مع كل هذا الذي يدافع عنهم افرادا وجماعة في صورة تعرضهم لضيم. ويبدو هذا المانع سببا في التخوف من تطورات أزمة حرب العمادة الذي قد يؤدي لضرب المحاماة وربما لتعطيل مرفق العدالة بأكمله. وبات الخطر المتوقع واقعا معاشا بعد أن أصبح للمحامين عميد يعترف به جزء منهم ومتصرف في العمادة يعترف به شق آخر
 لم يتعود المحامون بالفرقة بينهم وهم الذين نجحوا في الحفاظ على ديمقراطية هياكلهم طيلة حكم زين العابدين بن علي. كانت المحاماة دوما عصية على الاختراق رغم ما بذلت السلطة المستبدة من اجل ذلك من مال وما مارست من ضغوط بلغت حد استهداف المحاماة في وجودها. كان المحامون دوما يفاجئون السلطة السياسية بانتخابهم للمستقلين كأغلبية في هياكل عمادتهم، كما كان المنتخبون رغما عن اختلافات أفكارهم ومرجعياتهم الفكرية يتحدون في الدفاع عن مصالح المحاماة وقضايا الحرية وحقوق الإنسان. وهذا التاريخ هو الذي يبرر هذا الاستغراب الذي استقبل به المحامون ومن خلفهم الحقوقيون تآكل صلابة بنيان هياكل المحاماة في ظل ثورة قادتها هذه الهياكل. السرعة التي تم بها التصدع وعمق الأزمة اوجدا  حيرة تلازم العديد من المتتبعين والمعنيين حول الموقف الذي سيتخذون والمستقبل الذي ينتظر أصحاب العباءة السوداء.
 يعي المتتبعون أن نزاع الاخوة وان كان في ظاهره قانونيا إلا انه في عمقه انعكاس لتجاذبات سياسية بين مكونات المشهد السياسي في البلاد. فمن وحدهم نضال الأمس في مواجهة الديكتاتورية فرقتهم اليوم نزاعاتهم الإيديولوجية وأراد كل منهم أن يبرز قوته في رحاب المحاماة فلم ينته بهم المطاف إلا للفوز على قلعة من قلاع الحرية هي المحاماة التونسية. أرادوا أن تكون المحاماة حديقة خلفية لأحزابهم فأبت ذلك واختارت أن تنقسم لأنها تعودت أن تجمع وتحمي لا أن تحتوى وتوظف. لم تكن المحاماة التونسية يوما يمينية ولا يسارية وان جمعت الضدين.
تحتاج المحاماة لكي تستعيد وحدتها الحقيقية لمن دافعت عنهم بالأمس وهم كثر ليؤازروها في محنة كتب لها أن تحياها. يتعين على القضاة الذين دعمت المحاماة نضالاتهم من اجل الاستقلالية وعلى الصحافيين الذين دفع المحامون غاليا ثمن الدفاع عن حقهم في الإعلام الحر وعلى الساسة الذين دافع عنهم المحامون دون مقابل عندما حوكموا لأجل قناعاتهم ومواقفهم، على كل هؤلاء أن يذكروا المحامين بان الهيأة الوطنية للمحامين ملك لكل التونسيين وجزء من تاريخهم لا يسمح لهم بأن يتركوها فريسة لصراعات حزبية مقنعة. وتحتاج المحاماة اليوم إلى المهنيين فيها لكي يحاولوا إيجاد مخرج من الأزمة قوامه المبادئ المشتركة التي طالما صنعت وحدتها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني