اقتطاع مبالغ من رواتب أساتذة الجامعة لصالح عائلات شهداء الجيش: مجاملة فوقية على حساب الغير؟


2014-09-12    |   

اقتطاع مبالغ من رواتب أساتذة الجامعة لصالح عائلات شهداء الجيش: مجاملة فوقية على حساب الغير؟

بتاريخ 28-8-2014 أصدر رئيس الجامعة اللبنانية تعميماً يحمل الرّقم 16 ويتعلّق باقتطاع مبلغ مقداره مئة ألف ليرة لبنانية من رواتب أفراد الهيئة التعليمية عن شهر أيلول لصالح عائلات شهداء الجيش اللبناني في المواجهات الأخيرة،بحيث يسلّم المبلغ المقتطع لقائد الجيش بغية توزيعه على هذه العائلات. وقد استند هذا التعميم، بحسب ما ورد فيه، إلى موافقة عمداء الوحدات الجامعية في الإجتماع المنعقد بتاريخ 26-8-2014.
 وعلى الرغم مما يوحي به هذا التعميم من نبل في أهدافه، بيد أنه ينطوي من نحو آخر على مخالفات فادحة وخطيرة لأحكام القانون، نرى عرضها وفقاً للآتي:
 
1- من المسلّم به أن الراتب هو أوّل الحقوق التي ينتظرها الموظّف لقاء العمل الذي يؤدّيه ويكرّس له وقته. فهو يكاد يكون الوسيلة الوحيدة والأساسية التي تكفل للموظف وأسرته الحد الأدنى من الحياة الكريمة. ونظراً لهذه الأهمية، فإن القانون وحده، هو الذي يحدّد ما يتقرّر لكل وظيفة من راتب. ويتحصّل من ذلك أن الإدارة لا تملك أية سلطة استنسابية في تحديد رواتب الموظّفين، لأن القانون قام بتحديد ذلك من خلال قواعد عامّة آمرة، لا يجوز مخالفتها. وهذا الأمر مستمدّ من الطبيعة التنظيمية غير التعاقدية التي تسود علاقة الموظّف بالإدارة، والتي يترتّب عليها عدم إمكانية تقييد حقوق الموظّف، ومنها الراتب، بشكل يتعارض وأحكام القانون، حتى لو جرى ذلك بموجب اتفاق مسبق بين الموظّف والإدارة. إذ أن مثل هذا الإتفاق يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً بسبب مخالفته لقواعد آمرة تتعلّق بالإنتظام العام[1].
وبالعودة إلى أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، يتبيّن أن القانون رقم 206 تاريخ 5-3-2012 قد حدّد سلسلة رواتبهم، بحيث عيّن لكل درجة راتباً محدد المقدار يتوجّب على الإدارة الإلتزام به، دون ان يكون لها أية سلطة استنسابية في ذلك، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية،فقد نصّ البند (أ) من المادة 7 من قانون تنظيم الجامعة اللبنانية رقم 75 تاريخ 26-12-1967 وتعديلاته على ما حرفيّته:«افراد الهيئة التعليمية وموظفو الجامعة، فنيين واداريين، هم من موظفي الدولة، ويخضعون لجميع القوانين والانظمة المتعلقة بسائر الموظفين ولا سيما احكام التدرج والترفيع والترقية والصرف والتقاعد إلا في الأحكام الخاصة المنصوص عليها في هذا القانون وفي الأنظمة المتعلقة بالجامعة».
وعليه، وطالما أن قانون تنظيم الجامعة رقم 75/67 المشار إليه لم ينص هو أو أي من أنظمة الجامعة على أحكام خاصّة متعلّقة برواتب أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، فتكون هذه الرواتب خاضعة لأحكام نظام الموظفين العام الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 12-6-1959 وتعديلاته المختصّة بهذا الشأن.
ومن المعلوم أن الفصل الثالث من الكتاب الأول من المرسوم الإشتراعي رقم 112/1959 المتعلّق بنظام الموظفين قد نص على أحكام واضحة ودقيقة تنظّم مسألة الرواتب، فحدّد على وجه الحصر الحالات التي يقطع فيها الراتب كله أو جزء منه، ولم يترك للإدارة أي سلطة تقديرية في هذا المجال
(المادة 18 من نظام الموظفين). وبالعودة إلى التعميم المتخذ من قبل رئيس الجامعة اللبنانية رقم 16/2014 والقاضي باقتطاع مبلغ مئة ألف ليرة لبنانية من رواتب افراد الهيئة التعليمية لصالح عائلات شهداء الجيش اللبناني، يتبيّن أن هذا التدبير يخالف أحكام القانون رقم 206/2012 الذي حدّد مقدار رواتب افراد الهيئة التعلمية في الجامعة، بحيث انقص هذا المقدار[2]، وذلك دون ان يستند إلى أي من الحالات المحدّدة في نظام الموظفين أعلاه ما يجعله مخالفاً أيضاً للأحكام الإلزامية المنصوص عليها في هذا النظام[3].
وهنا لا بد لنا ان نشير، إلى أن التعميم المنوه إليه، لم يراعِ على نحو خاص، أحكام البند الأخير من المادة 19 من نظام الموظفين التي تفيد بأنه: «يمكن للحكومة في ظروف وحالات استثنائية، يعود اليها تقديرها، ان تتخذ بعض التدابير الخاصة المتعلقة بقطع رواتب الموظفين واجور الاجراء وتعويضات المتعاقدين وسائر العاملين في ادارات القطاع العام، كليا او بنسب مختلفة.
تنفذ التدابير الخاصة،المبينة اعلاه، كلما اقتضت الحاجة بقرار يتخذ في مجلس الوزراء».
وذلك على اعتبار أن هذه المادة تولي مجلس الوزراء، وليس رئيس الجامعة اللبنانية أو العمداء فيها،  صلاحية الإقتطاع كلياً او جزئياً من الرواتب والأجور، ولأن هذه المادة توجب من جهة اخرى وجود ظروف استثنائية لإعمال احكامها وهو الأمر غير المتوافر في حالتنا الراهنة.
وبالتالي فإنه وبالإضافة إلى ما تقدّم، فإن تعميم رئيس الجامعة المشار إليه يكون قد اغتصب سلطة مجلس الوزراء وتعدّى على الصلاحيات الممنوحة لهذا الأخير مخالفاً بذلك أحكام القانون.
2-أن الشخص لا يمكنه أن يهب إلا الأموال العائدة له والتي يمكنه التصرّف فيها وفق المادة 504 من قانون الموجبات والعقود. فالشخص لا يمكنه أن يهب اموال غيره عملاً بالقاعدة البديهية المسلّم بها والمستقرّ عليها بأن"فاقد الشيء لا يعطيه"، طبعاً ما لم يحرز موافقة صريحة من الغير.
 
ومن الثابت أن إدارة الجامعة اللبنانية قد اقتطعت الأموال من رواتب افراد الهيئة التعليمية لديها، خلافاً لإرادتهم أو على الأقل دون أن تحرز موافقتهم، ووهبتها إلى عائلات شهداء الجيش اللبناني. وهذا ما هو ثابت من نص التعميم حيث توجه إلى افراد الهيئة التعليمية بالنص على ما حرفيته "نعلمكم، بأن إدارة الجامعة ستقتطع من راتب شهر ايلول…."وذلك على اعتبار أن الإعلام يختلف عن إحراز الموافقة، فهو لا يترك مجالاً للخيار بالتأييد او عدمه أمام المقصود بالإعلام، فتكون إدارة الجامعة اللبنانية قد خالفت بذلك أحكام قانون الموجبات والعقود الناظمة لعقد الهبة فوهبت ما لا تملكه خلافاً لإرادة مالكيه ما يجعل تصرّفها خارجاً عن أحكام القانون.
 
3-جاء في التعميم رقم 16/2014، وعلى ما يبدو لإضفاء شرعية ما على مضمونه،أن اقتطاع هذه المبالغ قد جرى بعد موافقة عمداء الوحدات الجامعية في اجتماعهم المنعقد بتاريخ 26-6-2014.
وفي هذا السبيل، يهمّنا أن نشير إلى أن هؤلاء العمداء هم عمداء مكلّفون مؤقتاً لإدارة الوحدات الجامعية، ومعيّنون من قبل رئيس الجامعة للقيام بهذه المهمّة، ريثما يتم تعيين عمداء للوحدات الجامعية وفق الأصول للوحدات الجامعية. وبالتالي، فإن هؤلاء العمداء لا يشكّلون مجلس الجامعة المنصوص عليه في القانون رقم 75/76 وتعديلاته، ما يعني أن اجتماعهم ليس له أي قيمة ولا يترتّب عليه أية نتيجة قانونية وبالتالي لا يجوز الركون إلى مقرراته أو الإستناد إليها، هذا مع العلم أن مجلس الوزراء كان قد عيّن العمداء الأصيلين أعضاء مجلس الجامعة في جلسته المنعقدة بتاريخ 24-7-2014 بيد أن تأخر إصدار مراسيم تعيينهم قد اتاح الفرصة للعمداء المؤقتين للإجتماع والموافقة على الإقتطاع من رواتب افراد الهيئة التعليمية.
ومن ناحية ثانية، فحتى مجلس الجامعة المشكّل بصورة قانونية ليس لديه السلطة والصلاحية للإقتطاع من رواتب أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، وذلك سنداً للمادة 19 من نظام الموظفين التي أولت هذه الصلاحية لمجلس الوزراء دون غيره ضمن شروط معينة، وفق ما أشرنا إليه أعلاه،ولأن المادتين17 و 18 من قانون تنظيم الجامعة اللبنانية رقم 75/67 وتعديلاته لم تولِ مجلسها هكذا صلاحية[4].
4-يفيد التعميم رقم 16/2014، بأن المبلغ المقتطع سيسلم إلى قائد الجيش لتوزيعه على عائلات الشهداء العسكريين.
إن ما تضمّنه التعميم بهذا الشان، يعدّ مخالفاً للأصول المتعلّقة بالهبات المنصوص عليها في المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية التي تنص على أن:«تقبل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء الأموال التي يقدمها للدولة الأشخاص المعنويون والحقيقيون، وتقيد في قسم الواردات من الموازنة.
وإذا كانت لهذه الأموال وجهة إنفاق معينة فتحت لها بالطريقة نفسها اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات».
وعليه،كان يقتضي، أن تُقبل هذه الهبة، حتى لو افترضنا مشروعيتها، بمرسوم متخذ في مجلس الوزراء، وأن تُفتح اعتمادات في الموازنة لإنفاقها في الوجهة المحددة لها، لا أن تسلّم إلى قائد الجيش لتوزيعها على النحو الوارد في التعميم رقم 16/2014، ما يستفاد منه أن هذا التعميم الأخير مخالف لأحكام المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية.
5-إن اقتطاع المبالغ "لصالح عائلات شهداء الجيش اللبناني"،وفق ما ورد في التعميم،وليس لصالح "الجيش اللبناني" يوحي وكأن هذه العائلات معوزة أو محتاجة لهكذا مساعدة، فيما الحقيقة أن النصوص القانونية ولا سيما تلك الواردة في قانون الدفاع الوطني ترعى اوضاع هذه العائلات وتمنحها حقوقاً مالية تؤمّن لها العيش الكريم.
هذا مع العلم أن نصوصاً قانونية عدّة قد أبرزت أهمية هذه الحقوق، وفق ما هو مستفاد من أحكام القانون رقم 381 تاريخ 14-12-2001 (إعطاء تعويضات ومعاشات تقاعد للذين استشهدوا مع الشهيد الرئيس رينيه معوض) الذي نصّ في مادته الوحيدة على أن:«يعتبر الأشخاص المدنيون الذين استشهدوا مع الرئيس رينيه معوض شهداء في الجيش اللبناني.
ويعطون تعويضات ومعاشات تقاعد جندي أول استشهد أثناء تأدية الواجب وتسري على عوائلهم الأحكام نفسها المتعلقة بالتقديمات والتعويضات ومعاشات التقاعد التي تسري على عوائل شهداء الجيش اللبناني».
وهذا ما عاد وأكّد عليه اقتراح القانون المعجل المكرر المقدّم من النائب سامي الجميّل بتاريخ 23-10-2012، والرامي إلى إعطاء تعويضات ومعاشات تقاعد للمدنيين الذين استشهدوا في الاغتيالات من 22-10-1989، حيث نص في مادته الوحيدة على أن:«يعتبر الأشخاص المدنيون الذين استشهدوا في الانفجارات وفي عمليات الإغتيال والتي طالت رؤساء ووزراء ونواب وضباط منذ تاريخ 22-10-1989، بمثابة شهداء في الجيش اللبناني.
ويعطون تعويضات ومعاشات تقاعد جندي أول استشهد أثناء تأدية الواجب وتسري على عوائلهم الأحكام نفسها المتعلقة بالتقديمات والتعويضات ومعاشات التقاعد التي تسري على عوائل شهداء الجيش اللبناني»[5].
6-إن المفاعيل القانونية الناجمة عن التعميم رقم 16/2014، تجعل منه قراراً نافذاً وضاراً قابلاً للطعن أمام مجلس شورى الدولة بمفهوم المادة 105 من نظام هذا المجلس[6]، بحيث يجوز لكل ذي مصلحة، وهو كل فرد من أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية، أن يطعن بهذا التعميم.
كما أن المخالفات الواردة فيه، توجب تحرّك النيابة العامة المالية والنيابة العامّة لدى ديوان المحاسبة. ومن المعلوم أن كلا النيابتين يمكنها ان تتحرّك عفواً أو من خلال شكوى المتضرّر أو من خلال إخبار يقدّمه أي شخص وذلك سنداً للمادة 25 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وسنداً لما اقرّه الإجتهاد لناحية أن الشكوى أمام ديوان المحاسبة ليست دعوى شخصية يبغي منها الشاكي منفعة شخصية كأن يعترف له بحق أو يقرر له تعويض معين،إنما هي تقدم بصفة اخبار يمكن على إثرها تحريك النيابة العامة تماماً كما تتحرك النيابة العامة المالية أو النيابة العامة الجزائية بناء على إخبار،في حال التأكد من صحة الوقائع أو المخالفة موضوع الشكوى.وذلك على اعتبار أن المرسوم الإشتراعي رقم 82/83 المتعلّق بتنظيم ديون المحاسبة لم ينص على شروط معينة تتعلق بصفة ومصلحة الشاكي،بل أن المادة 68 منه نصت في فقرتها الأولى بأن "ينظر الديوان في المخالفة عفواً أو بناء على طلب المدعي العام لديه". الأمر الذي يستنتج منه أن توفر صفة ومصلحة مباشرة لدى التقدم بشكوى أمام ديوان المحاسبة ليس شرطاً لقبول الشكوى[7].
 
 
 



[1]– يراجع في هذا المجال،د.فوزت فرحات،القانون الإداري العام،الكتاب الأول(التنظيم الإداري – والنشاط الإداري)،الطبعة الأولى، 2004،ص: 320،319،301،299 و321 والمراجع والإجتهادات الواردة فيه.
[2]– هذا مع العلم أن البند (1) من المادة 16 من نظام الموظفين قد نصّ على أن:«لكل درجة راتب يحدد بالقانون»
[3]– وهذا ما عبّر عنه رئيس الجامعة اللبنانية السابق الدكتور زهير شكر،عندما طُرحت فكرة مماثلة بعيد انتهاء حرب تموز للعام 2006،حيث رفض الإقدام على هذه الخطوة معتبراً  أن" راتب الأستاذ حق له، ولا يجوز التصرف به أو اقتطاع أي جزء منه، إلا بتفويض شخصي، أو بقرار تأديبي بعد موافقة مجلس الوزراء، أو جراء حكم جزائي صادر عن المحاكم".
يراجع حول ذلك: عماد الزغبي،مقال بعنوان «استنكار لتعميم رئيس "اللبنانية"»،1/9/2014،موقع جريدة السفير الإلكتروني،
http://www.assafir.com/Article/3/369450
[4]– المادة 17 من القانون رقم 75/67 وتعديلاته.
[5]– للإطلاع على نص الإقتراح كاملاً:"سامي الجميل تقدم باقتراح لاعتبار المدنيين المستشهدين في الاغتيالات بعد معوض شهداء في الجيش"،http://www.kataeb.org/ar/news/print/393339/
[6]– تنص المادة 105 من نظام مجلس شورى الدولة على أنه:«لا يمكن تقديم طلب الابطال بسبب تجاوز حد السلطة إلا ضد قرارات ادارية محضة لها قوة التنفيذ ومن شأنها الحاق الضرر، ولا يجوز في أي حال قبول المراجعة بما يتعلق باعمال لها صفة تشريعية أو عدلية».
[7]– يراجع: مجلس شورى الدولة،قرار رقم 116/2009-2010،تاريخ 11/11/2009،المهندس سمير انطوان بارود/الدولة- ديوان المحاسبة ورفاقها.
 
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني