العفو الرئاسي في تونس بوظائف جديدة: تسامح ازاء متعاطي المخدرات وأداة نضالية لالغاء الاعدام


2014-07-29    |   

العفو الرئاسي في تونس بوظائف جديدة: تسامح ازاء متعاطي المخدرات وأداة نضالية لالغاء الاعدام

أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بتاريخ 24 جويلية 2014 بمناسبة الاحتفال بذكرى إعلان النظام الجمهوري عفوا خاصا عن عدد من المساجين "تمتع بموجبه 1630 من المحكوم عليهم بالعفو المفضي إلى السراح منهم 1201 سجين من أجل استهلاك المخدرات من المساجين المبتدئين الذين لم يتورطوا في جرائم أخرى. كما تم استبدال عقوبة الإعدام في حق سجين واحد بالسجن المؤبد. وقد تمّ في هذا العفو استثناء الجرائم الخطيرة "وخصوصا المتعلقة بالإرهاب وإدخال الأسلحة والذخيرة إلى البلاد وترويج المخدرات والقتل والجرائم الأخلاقية البشعة".
 وما يسترعي الانتباه أن  إصرار الرئاسة على الاستخدام الدوري لهذه الآلية رغم الاعتراضات عليها قد ترافق هذه المرة مع سعي منها لتوظيفها في عملية اصلاحية للمنظومة القانونية ككل.

أولا: الإصرار على العفو الخاص الدوري:

نص الفصل 77 من الدستور التونسي الجديد على العفو الخاص كاحدى صلاحيات رئيس الجمهورية[1] .واتى التنصيص على العفو في ذيل قائمة  صلاحيات رئيس الجمهورية كما كانت صيغة الفصل الدستوري مقتضبة إذ ذكر به ويتولى (رئيس الجمهورية ) العفو الخاص وذلك على خلاف الفصل 48 من دستور غرة جوان 1959 الذي اعتبر أن العفو الخاص"حق لرئيس الجمهورية"[2].

 ويكشف الاختلاف في صياغة الفصلين الدستوريين عن التغير الذي لحق بمكانة وتصور العفو الرئاسي. وقد بدا هذا التغير متناغما مع الاعتراضات التي باتت تعترض تدخل السلطة التنفيذية في الأحكام القضائية من خلال آلية العفو سواء في سياق التجارب القانونية العالمية أو داخل الفضاء القانوني والحقوقي المحلي. الا أنه ورغم ذلك، عاد العفو الرئاسي ليحتل جزءا من المشهد بسبب الانتقادات التي وجهت اليه وذلك على ضوء كيفية تطبيقه من قبل أول رئيس منتخب للجمهورية التونسية بعد الثورة د. المنصف المرزوقي. وهنا يذكر ان رئيس الجمهورية التونسية حرص منذ بداية عهدته على إصدار عفو في كل المناسبات الوطنية والدينية. وبرزت منه مبالغة في منح العفو من جهة عدد المشمولين به والذي قدر خلال سنة واحدة بما تجاوز الخمسة عشر ألفا وتسعمائة وخمسين سجينا[3]ومن جهة تواتر العفو بتعدد مناسباته وتقاربها.وأثار "التعسف في استعمال حق العفو" ردود فعل سلبية خصوصا بعدما كشف الإعلام عن تطور نسبة التعود الإجرامي في صفوف من تم العفو عنهم وبعد أن تم التطرق  لحالات تتعلق بجرائم خطيرة شملها العفو دون اعتبار لشخصية المحكوم عليه ولجرائم كبرى اقترفها بعض ممن تم العفو عنهم  بمجرد مغادرتهم للسجون ومس بعضها الأمن القومي. ودفعت حدة الانتقادات رئاسة الجمهورية لمراجعة تجربتها مع العفو. وظهرت ملامح التراجع من مؤشرات متعددة تمثلت في تراجع عدد المشمولين بالعفو والحرص على انتقاء من يتم العفو عنهم وفق معايير تراعي خطورة الجرائم وشخصية المحكوم عليهم.

وبيّن البلاغ الذي تعلق بالعفو بمناسبة عيد الثورة بتاريخ 14 جانفي 2014 ملامح التحول الجذري بحيث نص على الآتي: "تذكّر رئاسة الجمهورية بأن العفو الخاص هو إجراء ينبني على روح الرحمة والعفو لمن يبرهن من خلال سلوكه في المؤسسة السجنية على استعداده للعودة إلى الجادّة، وبعد قضاء قدر أدنى من العقوبة المحكوم بها، كما تلفت النّظر- أي رئاسة الجمهورية – إلى أن معايير العفو الخاص تخضع إلى مراجعات من حين لآخر بحسب ما يستجد في المجتمع". وتأكد الاتجاه نحو فرض ضوابط للعفو بمناسبة العفو الخاص بعيد الجمهورية من خلال التأكيد على إقصاء "الجرائم الخطيرة وخصوصا المتعلقة بالإرهاب وإدخال الأسلحة والذخيرة إلى البلاد وترويج المخدرات والقتل والجرائم الأخلاقية البشعة" من ملفات العفو.

وقد أوجدت رئاسة الجمهورية من خلال وضع هذه الضوابط عرفا دستوريا في هذا المجال[4].غير أن تقييد العفو ووضع حدود له عنوانها تعلقه بجرائم دون سواها في سياق يستثني الجرائم الخطيرة وتلك التي تصدم الرأي العام أو تمس بالأمن العام وبصنف المتهمين يجعل من العفو الذي يؤدي لاطلاق السراح امتيازا للمحكوم عليهم المبتدئين دون المكررين (العائدين).

ويبدو تمسك رئاسة الجمهورية التونسية بممارسة العفو لاستجابتها لضغط الإدارة السجنية. فقد تحول العفو في تصور القائمين على هذه الادارة إلى أداة للحد من اكتظاظ السجون.كما بات وسيلة تضمن بها إدارة السجون انضباط المساجين الذين يبدون تعاونا معها على أمل إدراجهم بقوائم العفو سواء كان مفضيا لسراحهم أو يؤدي لتخفيض عقوباتهم[5]. وان كان تبرير الحاجة للعفو كعلاج ترقيعي للمنظومة العقابية لا يقنع فعليا مناهضيه الذين يتمسكون بكون العفو جزءا من منظومة لا تقر باستقلالية القضاء، فان تركيز عفو عيد الجمهورية على مستهلكي المخدرات وما تضمنه من إشارة للعفو عن محكوم بالإعدام يسلط الضوء على ما يمكن أن يكون دورا تعديليا للعفو في السياسة العقابية يجعل منه وسيلة  تصوب السياسة التشريعية بما يلائم تطور النظرة للعقوبة.

ملامح بداية تحول في التعامل الجزائي مع مستهلكي المخدرات:

تضمن بلاغ العفو لعيد الجمهورية إشارة صريحة بأن الذين استفادوا من العفو هم في غالبيتهم الكبرى سجناء من أجل استهلاك المخدرات من المساجين المبتدئين الذين لم يتورطوا في جرائم أخرى (وعددهم 1201 من أصل 1630 سجين معفى عنه). ويندرج تدخل العفو في هذا الصنف من الجرائم في سياق استجابة لمطالبات حقوقية متعددة كشفت عن قسوة الأحكام القانونية التي تتعلق بتتبع جرائم استهلاك المخدرات وحثت على تعديلها بما يسمح بتخفيف العقوبة عن المتهمين المبتدئين تمهيدا لتطور النظرة اتجاهم للاعتراف بكونهم ضحايا لجرائم المخدرات. وكانت الحكومة سبقت رئيس الجمهورية في إعلان مباشرتها إعداد مشروع قانون يسمح للمحاكم بالتخفيف على المتهمين في جرائم استهلاك المخدرات غير أن مشروع القانون الموعود تأخر الإعلان فعليا عن إحالته للمجلس التشريعي كما أن بطء عمل المؤسسة التشريعية يمنع من توهم قرب صدور هذا القانون.

وفي مقابل ذلك، أتى العفو المعلن كإجراء سريع وناجز يعالج الحالات التي جدت، وكرسالة قد تحفز مستقبلا القضاة على العدول عن الإيقاف في جرائم استهلاك المخدرات بالنسبة للمبتدئين خصوصا وان هؤلاء يمكنهم التمتع بالعفو الرئاسي في انتظار الإصلاح التشريعي.
أكد عفو عيد الجمهورية بداية تغير النظرة الرسمية لجرائم استهلاك المخدرات فيما قدم ذات العفو بشأن عقوبة الإعدام عن استخدامات أخرى له.
 
العفو في الإعدام كأداة نضالية:

من اللافت إدراج العفو في عقوبة الإعدام في قائمة المعفي عنهم بمناسبة عيد الجمهورية. فأحكام الإعدام تستوجب مطالب عفو خاصة يفترض ان يتولى رئيس الجمهورية بمناسبتها ابداء رأيه فيها. وما يزيد من أهمية الأمر أن هذا العفو يصدر بالتزامن مع اشتغال المجلس الوطني التأسيسي بمناقشة مشروع قانون الإرهاب الذي يستحدث جرائم جديدة تستوجب عقوبة الإعدام، ورغم اصرار القضاء على تطبيقها، انما يؤكد استمرار الحراك الحقوقي من اجل إلغاء عقوبة الإعدام داخل مؤسسات الدولة.

ومن هذه الزاوية، تبدت وظائف جديدة لصلاحيات العفو الرئاسي بحيث تم استخدامها كوسيلة لإصلاح قسوة النصوص القانونية وأداة للنضال الحقوقي من اجل إلغاء عقوبة الإعدام. وبذلك بدت صلاحية العفو التي وصفها الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي بأنها جزء ارث نظام سابق يجب انهاء العمل به الى اداة لتطوير المؤسسات. 

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا



[1]الفصل 77 من الدستور                                                                                                                                                                                                        
يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة ويختص برسم السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة. كما يتولّى ………………
-العفو الخاص  
[2]الفصل 48( نقح القانون الدستوري 51 لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002 المصادق عليه بالاستفتاء الجاري في26 ماي 2002)ـ يبرم رئيس الجمهورية المعاهدات .
ويشهر الحرب ويبرم السلم بموافقة مجلس النواب.
لرئيس الجمهورية حق العفو الخاص
[3] يراجع مقال  أكثر من 15950 سجينا شملهم العفو الرئاسي في عام المرزوقي يُخلي السجون.. وبالفوضى الخلاّقة الشعب في طريقه للجنون! مقال نشر بموقع التقدمية بتاريخ 25/01/2013  بقلم لمياء سلام
[4]يعد العفو صلاحية سيادية لرئيس الجمهورية وان كان القانون يلزمه اجرائيا بالاستناد لتقرير وزير العدل الذي يتم اعداده بناء على رأي لجنة العفو بوزارة العدل الفصل 372 من مجلة الاجراءات الجزائية
[5]نص الفصل 371 من مجلة الاجراءات الجزائية على تعريف العفو الرئاسي بكونه " إسقاط العقاب المحكوم به أو الحط من مدته أو إبداله بعقاب آخر أخف منه نص عليه القانون.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني