استمرار التوريث في تعيينات القضاء المصري: وكأن ثورة لم تقم


2014-07-18    |   

استمرار التوريث في تعيينات القضاء المصري: وكأن ثورة لم تقم

في الفصل الأخير من عام 2013، أعلن مجلس القضاء الأعلى عن استبعاد 188 شخصا من تعيينات معاونين النيابة العامة معللا ذلك بانتمائهم لجماعات سياسية في مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين[1]. وكان المجلس اختار فعليا المستبعدين مع آخرين لاشغال الوظيفة في ظل حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وأرسل مشروع تعيينهم الى رئاسة الجمهورية في شهر يونيو/حزيران 2013 للمصادقة عليه، ولكن حالت مظاهرات 30-6 دون ذلك[2]. وبعد تغيير السلطة في مصر، تم اعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وتم الاعلان عن اعادة استكمال التحريات على المرشحين، قبل أن يتم اتخاذ القرار باستبعادهم. والتعيين في وظيفة معاون النيابة تعد أول درجة في سلم النيابة العامة ومدخلا ضروريا الى القضاء المصري.

وتبعا لذلك، سارع الأشخاص المعنيون الى نفي ما نسب اليهم، وصرحوا على نقيض ذلك أنه تم استبعادهم بسبب “عدم حصول أحد الوالدين على مؤهل عال وعدم لياقتهم اجتماعيا”[3]، كما أنه تم استبدالهم بتعيين أبناء قضاة وأصحاب نفوذ وكبار المسؤولين[4]. وقد غمزوا من خلال ذلك الى أن الاستبعاد حصل، ليس لأسباب سياسية، انما لأسباب تتصل بالطبقية وآليات التوريث السائدة في السلك القضائي، وأكد عدد منهم أنهم حازوا على تقديرات عالية من امتياز الى جيد جدا. وقد انتهى هؤلاء الى تقديم طعون ضد قرارات استبعادهم أمام محكمة القضاء الاداري التي قامت بتأجيل النظر في الطعون الى جلسة 3-8-2014[5].

هذا الخبر، وبانتظار الردود وردود الأفعال عليه، يطرح ثلاثة أسئلة أساسية: الأول حول استغلال النقمة على الاخوان المسلمين لاستبعاد بعض المتقدمين للنيابة العامة رغم أحقيتهم، الثاني حول  استمرار مسلسل التوريث داخل القضاء، والأخير حول مستقبل تعيين النساء في السلك القضائي.

هل استغل مجلس القضاء الأعلى فعلا النقمة على الاخوان لتغليب الاعتبارات الفئوية على مبدأي المساواة والكفاءة؟
مما تقدم، يظهر أن المجلس استبعد مرشحين كان سبق له أن قبل بهم في ظل حكم الأخوان، فور زوال هذا الحكم. وقد أعلن المجلس قراره على مرحلتين: مرحلة أولى أعلن فيها عن تكليف الأجهزة الأمنية باجراء تحريات عن هؤلاء في ضوء شكوك لديه حول انتمائهم للأخوان، ومرحلة ثانية أعلن فيها استبعادهم بعد ثبوت هذا الانتماء.

وقد استغل المجلس حالة النقمة على الاخوان في ذلك التوقيت، والكلام المتناثر حول محاولتهم “أخونة” مؤسسات الدولة ومن بينها القضاء ليقوم باستبعاد ال188 شخص بحجة انتمائهم لهؤلاء، رغم تصريحه في وقت سابق عن ورورد التحريات بانتماء 73 منهم فقط الى الاخوان المسلمين[6]. وهذا الأمر يقوي حجة القضاة المستبعدين لجهة عدّ “الأخونة” مجرد ذريعة لخدمة أهداف أخرى تتعلق بالطبقية والتوريث.
فالانتماء الى الاخوان أصبح في مصر بمثابة “وصمة العار” التي يمكن لها-حاليا في مصر- أن تؤدي الى الاطاحة بشخص من وظيفته، أو تبرر رفض توظيفه، أو حتى اغلاق مصنعه ومصادرة أمواله؛ أى انها أصبحت أبسط “ذريعة” يستخدمها النظام لضرب الحقوق الأساسية للمواطنين مستغلا بذلك النقمة الحالية ضدهم من فئة كبيرة من الشعب. ومن هذه الزاوية، يصبح التساؤل بشأن لجوء المجلس الى هذه الحجة  لتمرير قرارات يصعب القبول بها في ظروف أخرى ملحا، بمعنى أن يكون عمد الى تمرير قرارات غير دستورية وقطعا غير شعبية تتصل بحماية مصالح فئوية للقضاء (التوريث والطبقية) تحت غطاء حجج يمنحه مجرد إرساء قراره عليها حصانة شعبية وسلاحا لا يستهان به في مواجهة المساءلة والنقد.

بعد ثورة على توريث السلطة وطبقية المجتمع: هل ينجح مجلس القضاء في الحفاظ على التوريث؟ 
ما أثاره المرشحون المستبعدون يشكل، في حال صحته، مؤشرا بليغا على استمرار الطبقية والتوريث في القضاء المصري. والحقيقية أن الأمرين لا يختلفان عن بعضهما البعض، فتوريث مهنة القضاء لأبناء القضاة لا ينم فقط عن رغبة القضاة بضمان “وظيفة” لأبنائهم، ولكنه بالاضافة الى ذلك يعكس رؤية القضاة لمهنتهم ورفضهم أن يتبوأ المهنة “كل من هب ودب”[7]. ولعل ذلك الشعور بالعلو والتباهي من جانب القضاة قد ظهر جليا طوال مناقشة مواد السلطة القضائية في دستور 2013-2014، وقد عكس وفق تعبير أحد الكتاب الجامعيين مفهوما خاصا لاستقلال القضاء[8].

وقد أكد المستشار صبري حامد عضو مجلس القضاء الاعلى السابق على الأمر الأول المتعلق بالطبقية، حيث صرح ان الشروط التي يجب توافرها في المرشحين تشمل المستوى العائلي والمادي الجيد، بالاضافة، بداهة، الى مجموع درجات الكلية، كما أكد انه يتم تطبيق شرط ضرورة حصول الأب على مؤهل عال دون تطبيق الشرط نفسه على الأم[9]. لكنه نفى وجود استثناءات لأبناء القضاة أو تلقي توصيات من آبائهم.
ولا بد هنا من التذكير بأن أزمة التوريث داخل القضاء ليست وليدة السنوات القليلة الماضية، انما تفشت فيه منذ عقود عدة حتى أصبح بعض القضاة يعتبرونها حقا مكتسبا لهم.

وقد وجد نظام مبارك في رغبة القضاة في توريث أبنائهم وسيلة ناجحة للانقضاض على قضاة الاستقلال المعارضين له والذين تولوا قيادة نادي القضاة في مصر بين 2001 و2009، فعدّل ردا على اعتراضات النادي على قانون السلطة القضائية، الى جانب مواقفهم المشهورة ضد تزوير انتخابات 2005، بأن اشترط تقدير “جيد” للدخول للنيابة العامة.

وقد جاء التعديل بثماره فعلا بحيث حمّل القضاة تيار الاستقلال مسؤولية هذا التعديل الماس بمصالحهم في انتخابات النادي في 2009 مما مهد لفوز المستشار أحمد الزند، من التيار المحافظ، بولايته الأولى. وتجدر الاشارة الى ان هذا الأخير صرح بعدئذ مرة ومرارا أنه “لن يهدأ له بال حتى يتبوأ أبناء القضاة مواقعهم الطبيعية في النيابة العامة”[10].

وأكثر ما يلفت في الخبر المذكور، هو أنه يؤشر الى تغليب الطبقية والتوريث، رغم الحراك الثوري الذي قام بشكل خاص ضد هذين المكروهين. وبذلك، بدت الرهانات على نجاح الثورة في تغليب الديمقراطية ومعها المساواة على الطبقية والتوريث، وكأنها سقطت. ولعل من شأن متابعة كيفية تطور فكرة انشاء اكاديمية للقضاة أن يلقي ضوءا هاما على هذه المسألة: فأثناء حكم المجلس العسكري، تم اقتراح انشاء اكاديمية للقضاة لاختيار القضاة وأعضاء النيابة بناء على معايير الكفاءة والمساواة، ثم الحاق المختارين بالاكاديمية لتأهيلهم وتقييمهم. ولكن المجلس العسكري أجل اصدار القانون لحين انتخاب مجلس نواب، ولعل ذلك يعود الى يقينه بأن المشروع سيغضب الكثيرين من القضاة، ولم يكن يريد خوض تلك المعركة. وغياب مشروع قانون الاكاديمية من على الساحة التشريعية المصرية منذ ذلك الحين، وعودة توريث المهن القضائية بل وتفشي الطبقية، يعكس التراجع الحاصل الآن في المجتمع المصري والحيدة عن أهداف الثورة.

وبالطبع، لا تتوقف مفاعيل استمرار التوريث على انتهاك مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين والمساواة. بل هي تمتد سلبا لتؤثر في مستوى ثقة المواطنين في قدرة القضاء على اقامة العدل وأيضا في الاستقلال الفعلي للقضاة طالما أن السلطة سعت وسوف تسعى حكما الى استغلال “نقطة الضعف” هذه ضدهم كلما رأت مصلحة في ذلك.

السؤال الثالث: حين يسود الطبقية والتوريث في اختيار القضاة، أي حظ لتعيين النساء؟ 
وفي الاتجاه نفسه، وبانتظار جلاء الحقيقة الكامنة خلفلا استبعاد هؤلاء، فان المعطيات الحالية تبدو مقلقة جدا بشأن مدى التزام مجلس القضاء بأحكام دستور 2013-2014 والتي فاخر فيها الاعلام على أنها تكفل حقوقا وحريات لم يكفلها أى دستور مصري من قبل. فأن تستمر سياسة الطبقية والتوريث داخل القضاء يخالف بداهة موادا أساسية في الدستور، في مقدمتها المادة 9 التي تنص على أن: “تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز”، وفي الآن نفسه المادة 14 التي تنص على أن “الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة ودون محاباة أو وساطة”. وبالطبع، من شأن تواتر الأدلة على استمرار الطبقية والتوريث ومعهما الفئوية داخل القضاء، أن يشكل عامل قلق وتشكيك بشأن قرب تطبيق المادة 11 من الدستور التي تقر للمرأة صراحة بحق تولي المناصب القضائية.

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية، الرجاء إضغط هنا

 


[1] نشر الخبر بجريدة المصري اليوم بتاريخ 20-6-2014.
[2] راجع “ظلمنا فتظلمنا فزاد ظلمنا ؟؟” -ملف خاص بالمستبعدين من النيابة العامة، نشر على موقع قاضي اون لاين بتاريخ 14-4-2014.
[3] نشر الخبر على الموقع الالكتروني لجريدة الوطن بتاريخ 21-6-2014، تحت عنوان” المستبعدون من تعيينات النيابة العامة بسبب مؤهل الأب يستغيثون بالسيسي”.
[4] راجع البيان الصادر عن ائتلاف خريجي الحقوق، نشر على موقع قاضي اون لاين بتاريخ 9-7-2014.
[5] نشر الخبر على موقع جريدة الشروق بتاريخ 1-7-2014.
[6] نشر الخبر على موقع جريدة اليوم السابع بتاريخ 21-9-2013.
[7] جملة شعبية مصرية تطلق للتعبير عن “تدني” مستوى الشخص.
[9] راجع جريدة الموقع الالكتروني لجريدة الشروق، تحت عنوان “بالأسماء..ابناء القضاة يستحوذون على 35% من تعيينات النيابة الجديدة”، نشر بتاريخ 17-7-2014.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني