أول تطبيق لقانون حماية المرأة من العنف الأسري في لبنان: أو حين اجتهد القاضي تصحيحا لقانون مبتور


2014-06-09    |   

أول تطبيق لقانون حماية المرأة من العنف الأسري في لبنان: أو حين اجتهد القاضي تصحيحا لقانون مبتور

بتاريخ 31-5-2014، صدر أول القرارات القضائية على أساس قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة إزاء العنف الأسري الذي أقره المجلس النيابي اللبناني تبعا لحراك نسوي طويل الأمد في نيسان 2014. وعند قراءة حيثيات هذا القرار، سرعان ما نتبيّن أن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت (جاد معلوف) لم يكتف بتطبيق أحكام القانون، انما مارس فضلا عن ذلك دورا رياديا أدى الى استكمال أحكامه والى تصحيح أبرز الشوائب الواردة فيه، وفي مقدمها تعريف العنف الذي يشمله القانون. فهذا العنف لا يقتصر على حالات العنف التي خصها القانون بالذكر في مادته الثانية (وهي الحالات التي تتناولها احدى الجرائم المنصوص عليها فيه[1]) انما يشمل حسبما جاء في القرار، تبعا لتفسير هذه المادة، حالات أخرى لم يذكر القانون أيا منها أهمها حالات العنف المعنوي، كإكالة الشتائم والتحقير والاستيلاء على الأوراق الثبوتية والهاتف الخليوي ومنع الخروج من المنزل.. الخ.

وكنت أثرت إشكالية تعريف العنف الذي يشمله القانون، وذلك في مقالين يشيران اليها في عنوانيهما:
الأول، "مشروع قانون لحماية الأسرة يعيد تعريف العنف: فرض التقاليد عنوة ليس عنفاً، العنف في الخروج عنها"[2]،
والثاني، "حماية قانونية إزاء العنف الأسري، ولكن عن أي عنف نتحدث؟"[3]. وقد بينت في هذين المقالين كيف أن المشرع أدخل تعديلا جوهريا على مشروع القانون الذي أحاله اليه مجلس الوزراء. فبعدما شمل هذا المفهوم: "أي فعل عنيف.. قد يترتب عليه أذى أو معاناة.."،انتهى المشرع الى اعتماد مفهوم ضيق قوامه حصر حالات العنف بالأفعال التي تشكل إحدى الجرائم التي عددها القانون. وقد استبعد من خلال ذلك جميع حالات العنف الأخرى وفي مقدمها العنف المعنوي بما يشمله من أفعال مؤذية يستمد غالبها مشروعيتها من التقاليد الذكورية التي قد تكون الأكثر رسوخا كاكراه الفتاة على الزواج أو منع المرأة من الخروج من المنزل. ويلحظ أن المشرع علّل توجهه ذاك بأن تعريف العنف بالمعاناة النفسية هو تعريف فضفاض جدا وقد يؤدي الى نتائج عبثية كادعاء الزوج بمعاناة نفسية من جراء امتناع زوجته عن مجامعته. وعلى ضوء ذلك، استنتجت في المقالين المذكورين أعلاه، أن المشرع يسعى الى منع الاجتهاد حول ماهية العنف من خلال تكريس مبدأ هجين مفاده أن "لا عنف من دون نص"، وذلك تحسبا لنتائج مشابهة لما وصل اليه قضاة الأحداث الناظرون في حماية الأطفال المعرضين للخطر: فلا يتوسع قضاة الأمور المستعجلة في تعريف العنف تمهيدا لاتخاذ قرارات حماية كما توسع قضاة الأحداث في تفسير مفهوم الطفل المعرّض للخطر ليشمل الحالات التي تكون فيها صحة الطفل النفسية معرّضة للخطر[4]. ومن المعلوم أن عمل قضاة الأحداث قد استثار سابقا (خصوصا 2007) سخطا عارما لدى المراجع الطائفية بعدما أوقف قضاة أحداث تنفيذ أحكام شرعية بنقل طفل من امه الى ابيه بحجة أن تنفيذها يعرض الصحة النفسية لهذا الطفل للخطر[5].

ومن هذه الزاوية، جاء القرار القضائي ليقلب تعريف العنف رأسا على عقب، وتاليا بمثابة رسالة مطمئنة الى الهيئات النسائية والنساء والرأي العام بشأن قدرة القضاء على إجابة عدد كبير من التحفظات أو المخاوف إزاء مدى فعالية هذا القانون في حماية المرأة. وهي رسالة تلتقي في عمقها مع الرسائل التي كان قضاة وجهوها قبل صدور القانون من خلال اعلان سلسلة من المبادئ كمبدأ سلامة الانسان فوق كل اعتبار[6] أو المواقف كاعلان التمسك بحماية النساء من العنف المعنوي أو واجب القضاء بالاجتهاد لتأمين حماية فعلية في هذا المجال[7].
وبالعودة الى تفاصيل القضية، قدمت المستدعية الى قاضي الأمور المستعجلة طلب حماية إزاء العنف الزوجي الذي تتعرض له، لها ولابنتها الرضيعة (ثمانية أشهر). وكان ممثل النيابة العامة في بيروت بلال ضناوي قد أصدر بناء على تحقيقات الشرطة قرارا بتوقيف الزوج وذلك على خلفية تعرضه لزوجته بالضرب والايذاء ومحاولة القتل والتهديد به، وتم اعلامها بإمكانية تقديم طلب حماية. وقد تبين لاحقا لقاضي الأمور المستعجلة أثناء استماعه الى المستدعية والى شقيق زوجها أن هذا الأخير كان يقدم فضلا على ما تقدم على تعنيفها كلاميا كما ويمنعها من الخروج من المنزل الا لبضع ساعات في الشهر. كما استعاد القاضي في قراره ما جاء في طلب الحماية لجهة واقعتي استيلاء الزوج على أوراقها الثبوتية وهاتفها الخليوي.

انقلاب في تعريف العنف
وتبعا لذلك، وقبلما يحدد القاضي التدابير الحمائية، كان لا بد له أن يحدد بداية حالة العنف التي تسمح له باتخاذ هكذا تدابير. وقد برزت هنا بوضوح قدرته الريادية على تطوير النص القانوني واعطائه معنى كما سبق بيانه. فبعدما بين أن اقدام الزوج على ضرب زوجته بيديه وبواسطة الحزام يشكل عنفا أسريا وفق ما نص عليه القانون صراحة، أردف قائلا أن "العنف لا يقتصر فقط على التعرض الجسدي، ذلك أنه تبين من المعطيات المتوافرة في الحالة الراهنة أن المستدعية تعرضت كذلك لأنواع مختلفة من العنف لا تقل خطورة عن العنف الجسدي وذلك عبر اقدام زوجها على تعنيفها كلاميا واطلاق الشتائم بوجهها وتحقيرها كما وعبر اقدامه على منعها من الخروج من المنزل الزوجي الا لبضع ساعات في الشهر، دون أي سبب يبرر ذلك. وهو ما يشكل تعرضا لأبسط حقوقها، وما يدخل دون أي شك في تفسير العنف الأسري المنصوص عليه في القانون 293/2014 ذلك أن العنف المقصود هو ذلك الذي يسبب الايذاء النفسي أيضا، ولا يمكن الا والاقرار بجدية وخطورة الأذى النفسي الذي ينتج عن قمع حرية تنقل الزوجة دون أي مبرر وعن تعنيفها كلاميا".   

ومن خلال تحليل هذه الحيثية، تبدّت نية القاضي واضحة في التوسع في تفسير مفهوم العنف الأسري: فهو لا يقتصر على الأفعال التي شملها النص القانوني صراحة، انما يتعداها ليشمل عملا بقواعد التفسير قياسا جميع الأفعال التي توازيها من حيث الخطورة. فمن العبثي أن يشمل العنف الأسري التعرض بالضرب، فيما يخرج عنه المنع المتواصل أو المتكرر من الخروج من المنزل وغير ذلك من تصرفات خطيرة.  

استكمال لائحة تدابير الحماية
ولم يقتصر دور القاضي الريادي على إعادة تعريف العنف الأسري، انما تناول أيضا لائحة تدابير الحماية. فقد سعى القاضي الى اضافة تدابير حماية قد تكون ضرورية الى لائحة التدابير التي نصت عليها المادة 14 من القانون والتي استند اليها طلب الحماية، بعدما ذكر أن دوره الحمائي يسمح له باتخاذ تدابير حماية بموجب صلاحياته العامة المنصوص عليها في المادة 579 أصول محاكمات مدنية.

واللافت أن القاضي لم يكتف بذلك بل أخضع أي مخالفة لهذه التدابير المبتدعة منه للعقوبات الجزائية التي نص عليها قانون الحماية من العنف الأسري والتي قد تصل الى سنة حبس[8]، على نحو يؤشر الى أنه تعامل مع لائحة تدابير الحماية المنصوص عليها في القانون على أنها مجرد لائحة ارشادية تضمنت بنودا على سبيل المثال وليس الحصر وأن بامكانه تطويلها كلما رأى حاجة الى ذلك. ومن أبرز التدابير التي أضافها القرار في هذا المجال هي: "تكليف مساعدة اجتماعية بالقيام بزيارات دورية لمنزل المستدعية ولمدة ستة أشهر من صدور القرار قابلة للتمديد وذلك كلما دعت الحاجة او بناء على اتصال المستدعية لمراقبة حسن تطبيق القرار، على ان يمتنع الزوج عن التعرض لها". وقد علل القاضي ذلك باحتمال أن لا تكون المستدعية قادرة على تقديم شكوى عند كل مخالفة للقرار. كما من التدابير المبتدعة منع التعرض النفسي تبعا لتوسيع تعريف العنف كما سبق بيانه وأيضا "الزام الزوج بإعادة الأوراق الثبوتية العائدة للمستدعية ومنعه من الاستيلاء على هاتفها الخليوي كما والسماح لها بالخروج من المنزل الزوجي". وقد جاءت هذه التدابير لتكمل تدابير أخرى وردت صراحة في النص القانوني وهي منع التعرض الجسدي ومنع التعرض لاستمرار الضحايا في اشغال المنزل وإخراج الزوج لأسبوع من المنزل والزامه بتسديد سلفة ومنعه من الحاق الأضرار بأي من الممتلكات الخاصة للضحايا أو بالاثاث المنزلي والأموال المشتركة أو التصرف بها. كما أنه في السياق نفسه، فرض على الزوج الخضوع لدورة تأهيلية في مركز عائد لمنظمة كفى على نفقته، منعا لتكرار العنف.

صلاحية شاملة في حماية الأطفال
أما الأمر الثالث الذي تجلى فيه دور القاضي الريادي، فهو يتصل بإعلان صلاحيته الشاملة لحماية الأطفال. ففيما اقتصر طلب الحماية المقدم من الزوجة على حمايتها وحماية ابنتها ذات الثمانية أشهر، رأى القاضي أن مطالبته بتدبير حماية تخوله كلما رأى حاجة لذلك أن يوسع نطاق الحماية ليشمل قاصرا من أفراد الأسرة حتى ولو لم يشمله طلب الحماية وذلك سندا للمادة 12 من القانون التي تنص على استفادة سائر المقيمين مع المرأة المعنية من تدبير الحماية اذا كانوا معرضين للخطر. وانطلاقا من ذلك، وسع القاضي تدابير الحماية لتشمل قاصرا آخر هو ابن الزوج البالغ من العمر عشر سنوات (نفهم أنه من امرأة غير المستدعية) بعدما تبين له أنه  يتعرض أيضا للعنف، من خلال اقدام والده على تعنيف زوجته أمامه، "وهو ما يشكل كذلك بحد ذاته عنفا أسريا يسبب إيذاء نفسيا لأفراد الأسرة المذكورين". 
   
عدم جواز نشر الأسماء حماية للعائلة
وفضلا عن كل ما تقدم، أبرز القاضي حساسية فائقة إزاء حماية العائلة على نحو يؤدي هنا أيضا الى استكمال أحكام القانون. ففيما فرض القانون ان تكون المحاكمات المتصلة بالعنف الأسري سرية، استند القاضي الى روحية هذا النص ليمنع نشر اسم المستدعية أو زوجها في حال نشر القرار أو في كل ما يتعلق بالمسألة الراهنة. واللافت أنه عمد هنا تحسبا لأي تعسف في استعمال هذه القاعدة الى حصر انطباقها على الحالات التي لا يوجد فيها أية فائدة من اطلاع الرأي العام، كما قد تكون عليه الحالة في حال كان المعنّف شخصية عامة مثلا. وأهم من ذلك، عاد القاضي وشمل منع افشاء هذا السر ضمن تدابير الحماية التي تخضع أي مخالفة لها للعقوبات نفسها المشار اليها أعلاه.

استنتاجات وخلاصات
وختاما، جاز استخلاص أمور أربعة:

الأول، أن هذا القرار الأول لتطبيق القانون جاء بمثابة تنبيه للرأي العام أن بإمكان القضاء ان يؤدي دورا أساسيا ليس فقط في إعطاء القانون مفاعيله، انما أيضا في استكمال بنوده وتصويبها كما حصل بشأن تعريف العنف، وعلى نحو قد يسمح بتجاوز الشوائب الكبيرة الواردة فيه والتحفظات عليه. ففيما قد يبقى المشرع أسيرا في حساباته الطائفية المحافظة فيضع نصوصا مبتورة وغير منطقية، يعود للقضاء أن يجتهد لاعادة الانسجام بين النصوص التشريعية وأسس المنطق الحقوقي.

الثاني، يظهر العمل القضائي مجددا أنه يتفاعل بشكل كبير مع التخاطب العام ومع تطور الوعي العام. وهذا الأمر انما يضيئ على أهمية نجاح المنظمات النسوية (وفي طليعتها منظمة كفى) في فرض قضية العنف ضد النساء كقضية عامة. فمن شأن هذا النجاح بالطبع أن يحفز القضاة على تطوير اجتهاداتهم وسط قبول اجتماعي واسع، وهي نتيجة قد تعوّض عند توفر ظروف مؤاتية معينة، بشكل كبير عن النقص الحاصل في التشريع. وبالطبع، قد تصبح هذه الظروف غير مؤاتية في حال استدعت هذه الاجتهادات ردود أفعال مضادة من القوى المحافظة أو ترافقت مع تعرض كبير لاستقلال القضاء على نحو يذكر بالممانعة التي لقيها قضاة الأحداث عند توسعهم في تعريف مفهوم "الطفل في حال الخطر"[9]. ومن هنا، يظهر واضحا أن الدفاع عن هذا الاجتهاد يستلزم تعزيز الجهوزية الاجتماعية للدفاع عن استقلال القضاء في مواجهة أي تدخل.

الثالث، ان هذا القرار يفتح الباب واسعا أمام تطوير دور القضاء الحمائي ليس فقط للمرأة انما أيضا لجميع الفئات التي تتعرض للعنف الجسدي أو المعنوي، وفي مقدمتهم عاملات المنازل. وهذا ما نقرؤه بوضوح كلي من خلال تركيز القاضي على واقعة منع الزوجة من الخروج من المنزل والاستيلاء على أوراقها الثبوتية وهي واقعة يعاني منها آلاف عاملات المنازل. فاذا كان من العبثي استبعاد هذه الأفعال من اطار قانون حماية النساء من العنف الزوجي بالنظر الى نتائجه الخطيرة، من العبثي أيضا أن يبقى القاضي مكتوف الأيدي إزاء الأفعال نفسها التي قد ترتكب  بشكل ممنهج ضد عاملات المنازل. ويؤمل تاليا أن يشكل هذا القرار فاتحة لتقاض استراتيجي لتحسين شروط عمل هذه الفئات.  
 
الرابع، أن هذا الاجتهاد ما كان ليحصل لو ترك أمر اصدار قرار الحماية للنيابة العامة كما تطالب به منظمة كفى. فعدا عن أن النيابة العامة لا تتمتع بفعل تنظيمها التسلسلي الهرمي بضمانات الاستقلالية الكافية، فانها تبقى بطبيعة عملها وصلاحياتها غير قادرة على الاجتهاد على النحو الذي تقدم. ولا يرد على ذلك أنه يخشى أن تمارس ضغوط كبيرة على المرأة للتنازل عن حقوقها بانتظار قرار الحماية، فبامكان قاضي الأمور المستعجلة أن يتخذ القرار في اليوم نفسه ولو كان يوم عطلة، فيما أن الرابط القوي بين النيابات العامة غير المستقلة وأصحاب النفوذ قد يحولها هي الى عامل الضغط الأول لثني المرأة عن حقوقها ولتغليب التسويات. لكن، هذه طبعا هي مسألة أخرى.  

المزيد على الروابط ادناه 

  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا


[1]دفع قاصر الى التسول، حض شخص على الفجور، الاعتماد على دعارة الغير، القتل، الزنى، الايذاء أو التهديد في معرض استيفاء الحقوق الزوجية في الجماع.
[2] المفكرة القانونية، عدد 11، تشرين الأول 2013.
[3]المفكرة القانونية، عدد 16، نيسان 2014.
[4]نزار صاغية، الطفل في حال الخطر، القضاء يكرس نظاما ملزما للطوائف، الأخبار، 13-8-2009.  
[5]المرجع السابق.
[6] يمنى مخلوف، قاضي الأمور المستعجلة يثابر: مبدأ سلامة الانسان على رأس هرم المنظومة القانونية اللبنانية، المفكرة القانونية، المفكرة القانونية، عدد 15، آذار 2014.
[7] نزار صاغية، للمرة الأولى قرار قضائي لحماية المرأة من العنف المعنوي، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 20-3-2014.
[8] المادة 18 من القانون تعاقب كل من يخالف أمر الحماية بالحبس حتى ثلاثة اشهر وبغرامة حدها الأقصى مرتين الحد الأدنى للأجور أو بإحدى هاتين العقوبتين. واذا رافق المخالفة استخدام العنف، عوقب المخالف بالحبس حتى سنة وبغرامة حدها الأقصى أربعة اضعاف الحد الأدنى للأجور.
[9] نزار صاغية، الطفل في حال الخطر، مرجع مذكور أعلاه. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني