وحدة الموظفين والأساتذة الممنوعة: سلسلة أزمات النظام السياسي اللبناني


2014-06-03    |   

وحدة الموظفين والأساتذة الممنوعة: سلسلة أزمات النظام السياسي اللبناني

في تعليق له مرّ دون إثارة ردود فعل، يقول الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني إن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي قدّم استقاله في آذار من العام 2013 بسبب سلسلة الرتب والرواتب وغياب المداخيل (“السفير” في 04 آذار). وكنا قد طرحنا في مقالٍ سابق[1] فرضية أن استقالة ميقاتي حينذاك، مهما كانت أسبابها، حصلت بالتوازي مع إستراتيجية لأقطاب متعددين من الأحزاب المهيمنة (إن لم يكن جميعهم) هدفت إلى وضع حد لحالة الحراك المُركّز الذي سارت به هيئة التنسيق النقابية خلال أكثر من شهر من ذاك العام. طريقة إخراج المسرحة اقتضت إعطاء الحراك انتصاراً مرحلياً، إجرائياً وشكلياً، وتصوير الأمور وكأن الحكومة وأقطابها ماضون في خط الأساتذة والموظفين أو في تلبية مطالبهم، لتأتي استقالة نجيب ميقاتي في اليوم التالي بصفة “الصدفةالمرتبطة بالسياسة الإقليمية وبالتوازنات بين المحاور إلخ. أي بالسياسة بمعنى “الوهرة” و”أمور الكبار” وخباياهم ووشوشات السفارات، البعيدة كل البعد عن القضايا “الصغيرة”، أو قضايا “الناس الصغيرة” كما يقال بالفرنسية، ولتضع الحراك في حالة تعليق مُطوّل.

هذا السيناريو قد لا يكون بعيداً عن آخر التطورات التي شهدها ملف السلسلة والحراك النقابي الذي يرافقه، ومنه فرضية أن معركة هيئة التنسيق النقابية وحراكها تأخذ النظام السياسي اللبناني في كل حلقة من تفاعلها إلى أحد حدود ارتكازه، على أن يختبر الاهتزاز الناتج جزءاً بسيطاً من الطبقة السياسية في كل مرحلة، بينما تبدو باقي الأجزاء ومعها “النظام” بأكمله في حالة استقرار تام و”أبدي”.

وقد رأينا سابقاً[2] أن انتهاج هيئة التنسيق النقابية “حراكاً مُركّزاً” كان قوامه الإضراب المفتوح والتظاهرات المتكررة، أوجد حالة تعبئة جماهيرية استثنائية ومتينة ذهبت تصاعدياً في خطابها، وقيادة الحراك معها، إلى المطالبة بأمور تتخطى المستوى التقني لمطالب الحراك، ومنها مطالب إصلاح الدولة وإعادة الاعتبار لمؤسساتها وإعادة هيكلة السياسة الضريبية.

في وجه هذه الحالة، لاحظنا تعاوناً بين مكوّنات الطبقة السياسية وتناغماً في لغة أعضائها إزاء الحراك، من أجل تنفيسه، وذلك عبر اعتمادهم ما أسميناه “اللغة الإجرائية”، وهي لغة تستند الى إحالة المعضلات إلى سببيات تقنية لا منتهية[3]. ولاحظنا في شتاء 2013 أن كل أعضاء الطبقة السياسية اشتركوا في اعتماد هذه اللغة، وهي التي تقول بأحقيتهم في الإدارة على غيرهم وبأحقية الإدارة في “أخذ وقتها” بالمقارنة مع “إلحاح” الناس المتظاهرين. ولا تستقيم هذه اللغة إلا باعتمادها من جميع أعضاء الأحزاب المهيمنة دون استثناء. هذه اللغة المعتمدة في علاقة الجسم السياسي بحراكٍ مؤثر، ستتكرر مثلاً في موضوع اعتصام أهالي وجمعيات منطقة الناعمة وجوارها ضد مطمر النفايات الكائن بين منازلهم، إذ لن يحمل أي فريق سياسي من الأحزاب المهيمنة خطاب المعتصمين إلى المستوى السياسي الأولوي ولن يُحَمّل فريقاً آخر مسؤولية المأساة، وسيتشارك الجميع في لعبة تبادل أدوار إجرائية عبر إحالة الموضوع كلا إلى الآخر.

سيختلف الوضع في ربيع العام 2014 في موضوع سلسلة الرتب والرواتب كما سنرى، إذ سيعود حراك الأساتذة والموظفين الى نشاطه وسيضع واحداً على الأقل من الأحزاب السياسية المهيمنة في وضعٍ حرجٍ، بحيث سيضطر إلى التخلي عن “اللغة الإجرائية” والتمايز عن باقي الأحزاب، ولو مرحلياً.

نيسان 2014: “القضايا الاجتماعية” في سباقٍ مع السياسيين
كان الحراك المُركّز لهيئة التنسيق النقابية في شهر آذار 2013 قد انتهى أو اُقفل ضمن تشابك عوامل عدة، كان أبرزها إخراجٍاً “مسرحياً” حصل داخل هيئة التنسيق نفسها، أي إخراج أراده البعض من مكوّنات الهيئة أن يبدو كما بدا، وهم النقابيون المنتمون لحركة “أمل”. وقوام المسرحة أن “السلسلة أصبحت بعهدة الرئيس بري الآن”، بعدما خرجت من أيدي “القطب” نجيب ميقاتي “غير الأمينة” بنظر باقي أهل الحراك. وقد أقرت الحكومة مشروع قانون للسلسلة وآخر لتحصيل إيرادات تمويلها. في أشهر العام التي ستتبع، سيرفض النقابيون المنتسبون لـ”أمل”، ثم أولئك المنتمون لـ”حزب الله” معهم، دعم أي خطواتٍ تصعيدية مقترحة داخل هيئة التنسيق، وستتّسم سياسات الهيئة إزاء تطور ملف السلسلة في الدوائر التشريعية بالجمود، ما عدا بعض الاستثناءات.

في شتاء العام 2014، تشكلت حكومة تمام سلام مستندةً على ما يبدو الى توازن “شرق أوسطي” معين، وكان أن حدد نبيه بري لمجلس النواب مجموعة من الجلسات التشريعية المتتابعة في شهر نيسان، وعلى جدولها أكثر من سبعين مشروع قانون من قضايا شتى كان بعضها عالقاً على جدول أعمال المجلس منذ العام 2012 بسبب انقطاع العمل النيابي التشريعي ومقاطعة أعضاء الأحزاب المهيمنة لبعضهم البعض. ورافق انعقاد الجلسات تحركات مطلبية عديدة كانت، بالرغم من تشتتها، كفيلةً بإيجاد جو إعلامي “اجتماعي”، أي بوضع “القضايا الاجتماعية” أو “الحياتية” في الإعلام في أعلى هرمية التغطية (النهار مثلاً، في 7 نيسان، عنونت صفحتها الأولى “المطالب الحياتية تحاصر الحكومة والمجلس معاً”). وهو ما عززه أيضاً انسجام القوى السياسية المهيمنة مع بعضها البعض مع اقتراب “الاستحقاق الرئاسي” وغياب قضايا سجالية في ما بينها قد تحتل مساحة العناوين الإعلامية. إليه، فقد أضاف إقرار قانوني “العنف الأسري” و”الإيجارات” لمسة درامية على اللغة الإعلامية المُتابعة، وموجة إضافية من التظاهرات في جوار المجلس النيابي وفي مناطق متنوعة من العاصمة، أدخلت لا شك في منطق التعبئة فئات اجتماعية إضافية.
في هذا الإطار، أقامت هيئة التنسيق إضرابها واعتصامها في يوم 02 نيسان، بموازاة انعقاد إحدى الجلسات البرلمانية التشريعية. وقد كان مشروعا السلسلة وإيرادات تمويلها في تصرّف لجنة نيابية فرعية منبثقة عن اللجان المشتركة وبرئاسة النائب ابراهيم كنعان منذ تموز 2013، وكانت مولجة بدراسة المشروعين خلال مدة شهرين مضى وقت طويل على انتهائها. كان مطلب الاعتصام والإضراب إحالة مشروعي السلسلة والإيرادات إلى اللجان النيابية المشتركة للتصويت عليه، وإجراء بعض التعديلات الأساسية عليه، ومن ثم يذهب إلى الهيئة العامة للمجلس حيث يُقرّ. فاتخذ نتيجة ذلك مطلب هيئة التنسيق طابع “سباقٍ مع الوقت” سيتعزز لا شك في نظر جمهورها من خلال مقارنة العملية التشريعية بما يخص مشروعهم مع المشاريع الأخرى التي أصبحت في الهيئة العامة وجرى التصويت على الكثير منها خلال الأسبوع التشريعي المخصص لهذه الغاية (بداية نيسان)، في عمليات تصويتٍ دامت دقائق في بعض الأحيان.

هذا السباق مع الوقت، الوقت الدستوري لصلاحيات عقد الجلسات التشريعية، سيطبع موضوع السلسلة عند المعنيين بها، من نقابيين مؤيدين ومن خصوم مختلفين، بوقع “طوارئ”، سيتجلى في الإعلام وفي التخاطب بين الأفرقاء، لا سيما في خطابٍ متزايدٍ يدعو “للتريث” و”التمهل”. تحسسٌ جديد لموضوع السلسلة، سيترجمه وليد جنبلاط مثلاً، في 08 نيسان، في تسجيله اعتراضاً على “الاعتباطية والاستنسابية” في موضوع السلسلة، بينما المشروع كان ما زال عالقاً في اللجان المشتركة بعد سنتين من المناقشات في محطات تشريعية مختلفة.
فيما لم ينطبع موضوع السلسلة في حسابات أعضاء الطبقة السياسية بصفة “العجلة”، كان يتخذ في المقابل ومن دون شك وزناً إضافياً ومعنى “خطورة” ما، أحسنت نقل جوه الصحافة (“السفير” في 08 نيسان) في ذكرها مشاركة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في جلسة للجان المشتركة في 07 نيسان، “مؤجلاً سفراً كان مقررا” ومُلمحة للوزن الذي اكتسبه كلام سلامة، هو “حامي الاستقرار النقدي”، عند النواب المستمعين خلال الجلسة، مع أن سلامة كان قد شارك سابقاً في المناقشات وأدلى برأيه في غير مرة في موضوع السلسلة. ومن المفترض أن يكون النواب أو مستشاروهم على احتكاك دائم به وعلى اطلاع على آرائه وأن لا يأتي بجديد. فتبدو بالتالي الجلسة بحضوره وكأنها نابعةً من حاجة لأعضاء الطبقة السياسية للاختلاء مع أنفسهم ومع أفكارهم المُشتركة في وجه ضغوط تنحو إلى تفريقهم وأخذهم في مسار آخر. ويجوز النظر إلى كل تصرفات ومواقف النائب جنبلاط في ذاك الشهر بالعلاقة مع هذه الحاجة “لتذكير الذات” عند الطبقة السياسية والجسم الإعلامي والفئات الاجتماعية القريبة منها، بلعبه دور “الضمير المتكلم للطبقة المسيطرة” وهو المتحرر من أي قيود شعبية في موضوع حراك هيئة التنسيق تحديداً. ولا شك بأن لمواقفه هذه فائدة رمزية معينة، في تصويره “حكيماً” أو واقعياً”، وهي المبنية على معلوماته الخاصة عما ستؤول إليه قرارات الكتل قبل وصولها إلى الجمهور وترجمتها في الأعمال البرلمانية.

على كلٍ، ودون التكهّن أكثر في ما يتناقله أعضاء الحقل السياسي في أحاديثهم السرية، يبدو أن هناك جهات أخرى تحسّست عند هؤلاء التبدل الحاصل في شهر نيسان، ألا وهي جمعية المصارف، واتحاد المؤسسات التربوية الخاصة وجمعية الصناعة والتجارة. فقد عمدت هذه الجهات هي أيضاً خلال الأسابيع الأولى من نيسان إلى تصعيد لهجتها ضد السلسلة وبنود إيرادات تمويلها، وصولاً إلى إضراب للمصارف في تاريخ 11 نيسان، موعد اجتماع اللجان النيابية المشتركة المُرتب لإقرار المشروعين وإحالتهما إلى الهيئة العامة.

أقرت اللجان المشتركة مشروع السلسلة الذي أعدّته لجنة كنعان في ذاك اليوم، بعدما اجتمعت خمس مرات لمناقشة بنوده وللتصويت عليها (في 04، 07، 08، 09 و11 نيسان). وبالرغم من بعض التسريبات للإعلام على مر الجلسات، كانت قد تحدثت عن منحى عام لاعتماد فرض ضرائب إضافية على الأرباح المصرفية، عُقدت الجلسة الختامية في دورة مقفلة، منذرةً بوجود اتجاه طاغ ومشترك عند الأحزاب المهيمنة حيال الموضوع، على أن لا يُسمح لأحد الأفرقاء بإعلان انتصاره شعبياً على حساب الآخر.

الحراك يسبق حركة “أمل”
سرية جلسة التصويت في اللجان المشتركة كانت ترجمةً لتماسك من نوع ما لمُكوّنات الطبقة السياسية، أقلّه تماسك من خلال الاتفاق على التماسك. لكن، كما رأينا، فإن ظروف “اللغة الإجرائية” وإمكانية إحالة السلسلة من لجنة إلى لجنة قد عُلّقت لبعض الوقت، وقد كان انعقاد جلسات اللجان المحددة مرفقاً بوعدٍ من رئيس مجلس النواب نبيه بري لهيئة التنسيق بعقد جلسة تشريعية لإقرار السلسلة في الأسبوع الذي سيعقب التصويت مباشرةً ودون تأخير، وذلك منذ الجلسة الأولى للجان في 04 نيسان. فعكفت الهيئة عن تنظيم إضراب واعتصام في يوم 11 نيسان كبادرة “حسن نية”، بعدما تحركت في 02 و09 نيسان.
هذا الوضع الضاغط على أعضاء الحقل السياسي، الذي جاء كنتيجة لانعقاد الجلسات التشريعية بوجه السرعة في أول أيام نيسان وفي ظل انتفاء ظروف وحجج التخاصم السياسي المأزوم (“14 آذار” ضد “الممانعة” إلخ.) وتبخّر “محاور” تقاتل الميليشيات في طرابلس، كان لا شك وقعه أشد على شخص نبيه بري، رئيس مجلس النواب ورئيس حركة “أمل”. إذ شاءت الظروف أن يكون رصيده الرمزي أساساً على المحك. ويتصل هذا الأمر بداية برصيده داخل حراك هيئة التنسيق والروابط التي تكوّنها، بحيث إن حركة “أمل” تشكل أحد المكونات الرئيسية. كما يتصل بتعهده بأخذ الحل على عاتقه، والذي كان أبرز كوابح الحراك والعودة إلى الخطوات التصعيدية على امتداد عام. والرصيد داخل الحراك يكاد يكون مضاعفاً، من وجهة نظر استراتيجيات الأحزاب المهيمنة في إرساء مكانة لها داخل الجمعيات الأهلية والنقابات. وكنا قد أشرنا في مقال سابق[4] إلى نموذج “النقابيين الحزبيين” الذين غالباً ما يستمدون مبرر وجودهم النقابي والرمزي على تمكن حزبهم و”زعيمهم” (السهل الوصول إليه) من تحصيل شيء حيث يعجز الآخرون. فكيف بهم ورئيس حزبهم هو رئيس الجسم الإداري (البرلمان) المُخوّل تحقيق مطلبهم ومطلب زملائهم، والوزير المعني (أي وزير المال) مُنتمٍ لحزبهم، وليس هناك من أسباب آنية ضمن أجندة حزبهم الخاصة (مثل الوقوف للدفاع عن شرعية المقاومة) تبرر تأجيل مطلبهم ومطلب زملائهم؟

علامات هذه المعضلة كانت بادية على سلوك نبيه بري العلني وعلى خطاب وزرائه ونوابه في ما بدا أنه محاولات منهم لتثبيت توازن مع توسع حراك هيئة التنسيق النقابية. تجسدت هذه المحاولات مثلاً في ترؤس نبيه بري شخصياً بعض جلسات اللجان المشتركة، وهذه الدرجة الأقصى ربما لما تتيحه شروط “اللغة الإجرائية” من خطوات، على أساس أن “رئيس التقنيين أخذ التفاصيل التقنية على عاتقه”، قبل أن يضطر إلى تبنّي بعض شعارات هيئة التنسيق في خطابه لاحقاً.
هذه السلوكيات لم تحصل من دون مقابل، أو من دون إرفاقها بالمقابل بمطالبة الموظفين والأساتذة ببدلٍ خاص يبقي على استقرار “خط أمل” داخل جسمهم النقابي. فكانت دعوات نبيه بري للهيئة بتجنب التصعيد مثلاً، “لأن المجلس النيابي لا يعمل تحت الضغوط”، مسرّباً إلى الصحافة (“السفير” في 09 نيسان) في المناسبة خبر “غضبه” و”تذمّره” من تصعيد الهيئة وإنذارها بخوض “انتفاضة”. وكانت أبرز هذه “المقايضات” شبه الإلزامية بالنسبة الى قيادة الهيئة من المستقلّين، حين أعلنت هيئة التنسيق في 14 نيسان “وقف العمل” بدل الإضراب، ودعت للاعتصام، في موعد انعقاد الهيئة العامة في اليوم التالي. وقد سعى النقابيون المنتمون إلى “أمل” إلى إلغاء الإضراب على أساس أن الهيئة العامة التي رتّب موعدها بري ستُصوّت للسلسلة وستُغرّم المصارف. وقد نقلت جريدة السفير أجواء خلافٍ حصل داخل هيئة التنسيق في اجتماعاتها الحاصلة بين مقرّي رابطة التعليم الثانوي ورابطة التعليم الأساسي. وكاد الخلاف يخرج إلى العلن حين طلب ممثل إحدى روابط التعليم الأساسي – وهو منتمٍ إلى “أمل” – من الإعلام الخروج فيما كان الإعلام قد دُعي ليدلي حنا غريب بيانا في حضوره.

غير أن التطوّر الأبرز للمعضلة التي عاشها بري كانت في انتهاجه في مناسبتين سياسة “طلب الاعتذار” من قيادة جمعية المصارف أولاً، وثم من قيادة هيئة التنسيق. والواقع أن هذه السياسة لم تأت من بري وحده، بل بدأها وكررها مجموعة من النواب، سجّلت الصحافة منهم أسماء اميل رحمة ونبيل نقولا (“السفير” في 11 نيسان)، إذ طلب هؤلاء في جلسة 10 نيسان من رئيس المجلس أن يتّخذ موقفاً من كلام قيادة هيئة التنسيق عن “الحرامية” الذي اعتبروه إهانة للنواب. لم يستجب بري لطلبهم في خصوص هيئة التنسيق في حينه. في اليوم التالي، سيرفض بري استقبال وفد جمعية المصارف، المُضربة في ذاك اليوم، وسيدّعي أحد نواب كتلة “التنمية والتحرير” هاني قبيسي على رئيسها فرنسوا باسيل بجرم قدح وذمّ. لاحقاً، بعدما أكثرت حركة “أمل” من استخدام مصطلحات هيئة التنسيق النقابية في ضرورة تغريم الرساميل و”ثبتت” موقعها نسبياً أمام أعين الجمهور القريب منها والمنضوي في الحراك، سيطلب بري من النقابي حنا غريب أن يعتذر لنفس سبب طلبه من فرنسوا باسيل، في خطوةٍ بدت مبتذلة ومفتعلة، بينما كان النقابي يخطب في ساحة رياض الصلح أمام جمهور من عشرات الآلاف من الأساتذة والموظفين والمتضامنين معهم في 14 أيار.
والسلوك هذا، إن دل على شيء، فهو وصول الإستراتيجيات الخطابية للسياسيين الى مستوى الاستحالة، لا سيما “اللغة الإجرائية” المفضّلة لديهم، أو حتى الخطاب الذي يسمى “بالعقائدي” الذي لم ينفع بري استعارة القليل منه من لغة النقابيين. فبات ضرورياً على أعضاء الجسم السياسي إعادة رسم الحدود، بشكل فجٍ وصريح، بينهم وبين “العامة” ممن لم يعتادوا على وجودهم كمحاورين يُحسب لهم وزن.

هذا الرسم للحدود، نجده أيضاً في تلك الزيارة “المُفاجئة” من وفدٍ للحزب “التقدمي الاشتراكي”، يترأسه النائب وائل أبو فاعور، عشية جلسة اللجان المشتركة الأخيرة في 11 نيسان، إلى مقرّ هيئة التنسيق النقابية وإعلام قيادتها بكل محبة أن اللجان باتت تسلك الطريق الصحيح لكنها بذلك تدخل “مناطق محرمة” (“السفير” في 11 نيسان). هذا مع العلم أن كتلة جنبلاط ستصوّت لتأجيل المشروع في الهيئة العامة المقبلة، ووليد جنبلاط سينفرد بطلب إلغاء السلسلة في 16 نيسان لأنها ستؤدي بحسب قوله “إلى سيناريو يوناني”. فيبقى من مبدأ الزيارة أنها حصلت. وكأن هذا النزول للسياسيين من عرشهم لزيارة العامة من المفترض أن يذكّر العامة بعلياء عرش السياسيين من حيث نزلوا، وبجدية عملهم.
قد يكون السياسيون قد استشعروا تغيّراً ما في الأرض (الأرضية) الاجتماعية التي اعتادوا عليها، لكنهم لا شك استشعروا “انزعاج” نبيه بري. فقد أرسل إليه وليد جنبلاط مثلاً، النائب وائل أبو فاعور، لاستئذانه على نية كتلة اللقاء الديموقراطي التصويت لتأجيل إقرار مشروعي السلسلة والإيرادات في الهيئة العامة، والتأكد “إذا كان الأمر سيسبب زعلاً” بينهما (“السفير” في 16 نيسان). كذلك، عند اتصاله برئيس المجلس، تودد له النائب جورج عدوان بعبارة “وصّينا دولة الرئيس”، قبل مباشرته ولجنته الفرعية إعادة “درس” المشروعين بعدما جرى أحباط إقرارهما في الهيئة العامة (“السفير” في 18 نيسان. واللافت/المضحك هو تسريب خبريات هذه اللياقات للإعلام). أما نبيه بري، “حارس الشركة” كما سمّاه الصحافي الاقتصادي محمد زبيب في مقالةٍ، “الخائف عليها من بعض الشركاء المتهورين” (الأخبار في 16 نيسان)، فقد تحسّس التغيير بالفعل، أو تحسس احتمالاته، وقد لا يكون الوحيد في ذلك، وقد لا يعني ذلك شيئاً وينسى كل شيء بعد أقل من شهر.

عودٌ على بدء
في 11 نيسان، اجتمعت اللجان المشتركة في جلسة مغلقة وصوّتت لمشروعي السلسلة والإيرادات بصيغة مُعدلة عن تقرير اللجنة الفرعية. مع تسريب نص المشاريع التي صوّتت عليها اللجان، وجدت هيئة التنسيق أن ملاحظاتها منذ أن كان المشروعان في عهدة اللجنة الفرعية لم تؤخذ بالحسبان، ودعت من جديد مكوناتها إلى الاعتصام و”وقف العمل” في يوم انعقاد الهيئة العامة في 15 نيسان. وقد كاد قرار “الإضراب” يلاقي معارضةً من بعض مكوّنات الأفرقاء النقابيين لا سيما الفئات المنتسبة إلى “أمل”، فاستُبدل “بوقف العمل”.
لكن سير الهيئة العامة والنتيجة التي ستؤول إليها ستعيد التراص سريعاً إلى جسم الهيئة ومُكوناتها. فقد جرى خلال الجلسة التصويت بأغلبية الأصوات لتأجيل البَت بالسلسلة ولتشكيل لجنة جديدة مصغّرة لدراستها خلال مهلة 15 يوماً برئاسة النائب جورج عدوان. وقد كان لافتاً في الجلسة وقوف كتلة “التيار الوطني الحر”، أي “التغيير والإصلاح”، بأغلبية أعضائها، إلى جانب كتل “المستقبل” و”الكتائب” و”القوات” و”الإشتراكي” (65 نائباً) دعماً وتصويتاً للتأجيل ولتشكيل لجنة إعداد إضافية، مع أن النائب ابراهيم كنعان المنتمي للتيار الوطني كان قد ترأس اللجنة الفرعية التي اجتمعت أكثر من 40 مرة خلال العام 2013 وخرجت بالمشروعين المطروحين. عدا أن المشروعين نالا تصويت اللجان المشتركة، التي تتكون من ممثلين لجميع الكتل البرلمانية. لم يعارض التأجيل سوى 28 نائباً، أغلبهم من كتل “حزب الله” و”أمل”، ورفض الحزبان الاشتراك مع الكتل المُؤيدة للتأجيل في اللجنة المنبثقة عن الجلسة لدراسة المشروع.

في ما بعد، لن تلغي اللجنة المُصغرة الضرائب على أرباح المصارف، لكن جمعية المصارف ستوقف تحركاتها، وهو ما اعتبره البعض دليل احتمال “رشوة” حصلت خلسة بين المصارف والبنك المركزي (“السفير” في 07 ايار). لكن اللجنة ستذهب بعيداً في التخلّف عن تلبية طلبات الحراك الشعبي، مضيفةً على مشروع الإيرادات ضرائب على الاستهلاك (أي على الناس) ومنها زيادة على نسبة الضريبة على القيمة المضافة التي يعارضها “أمل”، و”حزب الله”، ومن المفترض أن يعارضها “التيار الوطني الحر” المشارك في الإعداد. انعقدت الهيئة العامة في 14 أيار، وكانت عملية “اللجنة المصغرة” قد أجلت تداول المشروعين شهراً كاملاً. وبحجة عدم انتهاء التصويت على “البنود الخلافية”، تم اعتماد جلسة تشريعية ثانية عند منتصف الليل. ثم بحجة تجنب إثارة مواضيع خلافية خلال مرحلة “الاستحقاق الرئاسي”، تم تحديد 27 أيار موعداً للجلسة التشريعية المقبلة، أي بعد انتهاء صلاحية التشريع المعطاة للمجلس النيابي بسبب انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار، وتحوّل المجلس الى هيئة انتخابية عند اجتماعه، بينما يبدو أي انتخاب سريع لخلفٍ له أمراً مستبعداً. كل ذلك وفي جوار المجلس، كان يجتمع في النهار أكثر من خمسين ألف مواطن، وللمرة الثانية بهذا الحجم الكبير خلال أسبوعين، تلبيةً لدعوة هيئة التنسيق النقابية للإضراب والاعتصام، وبعدما عادت هذه إلى الحراك المُركّز مؤقتاً منذ 8 أيار، رداً على نص تقرير اللجنة المُصغّرة.

انقلاب “التيار الوطني الحر” في جلسة 15 نيسان، والذي فسّره الإعلام بحصول “صفقة” من شأنها أن يدعم تيار “المستقبل” ترشّح ميشال عون للرئاسة، هذا الانقلاب جنّب على مكوّنات “14 آذار” أن تبدو خطاً واحداً وواضحَ المعالم ومنقلباً على جمهورها، في مقابل منافسيها في المعركة الانتخابية النيابية المرتقبة. كما سمح لنبيه بري بأن يجدد صورته أمام الجمهور المُقرب منه من فئة الموظفين والأساتذة، دون أن يكون لإستراتيجيته المُتبنّية لموقف النقابيين، المفروضة عليه بنيوياً، من تبعات على العمل التشريعي وبالتالي على استقرار الإدارة المالية الحالية للبلاد. ويبقى لمرور الوقت أن يلعب دوره في جمهور الحراك، وأن يقرر ممن سيملّ الجمهور أولاً، من الطبقة السياسية أو من “قضيته”. عسى أن يجد النقابيون في هيئة التنسيق صيغاً أخرى لكفاحهم، أو أن تكون الحلقة المقبلة من الجسم السياسي التي ستتفاعل معهم أكثر ضعفاً.

نشر هذا المقال في العدد | 17 |أيار/مايو/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
التضامن المهني، عامل توحيد في زمن الإنقسام؟ 


[1] انظر مقال رائد شرف، “معركة هيئة التنسيق النقابية: الحراك المركّز”، المفكرة القانونية، العدد 13، كانون الثاني 2014.
[2] انظر المصدر السابق.
[3] انظر المصدر السابق.
[4] انظر المصدر السابق.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني