القضاء المصري في فترة ما بعد الثورة (2011-2013) (3): الخطاب الإصلاحي بشأن القضاء


2014-03-31    |   

القضاء المصري في فترة ما بعد الثورة (2011-2013) (3): الخطاب الإصلاحي بشأن القضاء

إصلاح مؤسسات الدولة بعد الثورات من الفساد الذي أصابها في عصور الاستبداد من أهم آليات العدالة الانتقالية. وفي عصور الاستبداد ينتشر الفساد في كل مؤسسات الدولة، لكن بدرجات تتفاوت من مؤسسة إلى أخرى، تبعاً لما يسود في كل مؤسسة من قيم وسلوكيات تحد من الفساد وتتوارثها الأجيال. والواقع أن التقارير الدولية، قبل الوطنية، تعترف أن السلطة القضائية المصرية كانت دوماً هي الأقل فساداً والأكثر استقلالاً بين سلطات الدولة المصرية، وهو ما يؤكده تقرير صدر عن منظمة الشفافية الدولية في عام 2010 بعنوان "تقوية الحكم الرشيد في مصر".
وقد كانت السلطة القضائية المصرية عبر تاريخها الأكثر استقراراً واستقلالاً. وإذا كان القضاء المصري يواجه منذ عام 1952 بعض المشاكل المرتبطة باستقلاله، فإن هذا لا ينفى أنه يتمتع بقدر من الاستقلال المؤسسي يجعله يعمل بصورة مرضية، لاسيما إذا ما قورن حال السلطة القضائية بأحوال المؤسسات المدنية الأخرى للدولة المصرية ([1]).

لذلك فالحديث المتداول عن استقلال القضاء، سواء جاء من القضاة أنفسهم أو عبرت عنه قوى المجتمع السياسي أو المدني، لا يعني أننا نبحث عن استقلال مفقود للسلطة القضائية، لكنه يعني أن الجميع يهدف إلى إكمال استقلال موجود، حتى قبل صدور أول قانون يتعلق باستقلال السلطة القضائية في عام 1943، الذي لم يخلق استقلالا كان غائباً، لكنه قنن وكرس استقلالاً كان قائماً وممارساً فعلاً([2]). كما أن تعبير "إصلاح القضاء"، لا يقصد منه الإصلاح الذي يواجه فساداً متفشياً في القضاء كمؤسسة أو كأفراد، بل الهدف منه إزالة المعوقات ومواجهة التحديات التي تعرقل مسيرة القضاء وتحد من فاعليته، وتوفير الإمكانات التي تزيد من كفاءته وتدعم ثقة الشعب المصري فيه.

والملاحظ أن الخطاب الإصلاحي بشأن القضاء يركز على دعم استقلال القضاء، وعلى زيادة كفاءته ودعم فاعليته. والحديث عن استقلال القضاء يأتي من داخل القضاء ومن خارجه، أما المطالب بزيادة الكفاءة ودعم الفاعلية فتأتي في الغالب من القوى السياسية والمدنية.
 
أولاً: الخطاب الإصلاحي من داخل القضاء:

الخطاب الإصلاحى الذي يصدر عن ممثلي السلطة القضائية يركز على دعم استقلال القضاء، لكن وفقاً للمفهوم المصري للاستقلال، هذا المفهوم بعضه يتوافق مع المعايير الدولية لاستقلال القضاء، وبعضه لا يعبر إلا عن رؤية قضائية مصرية لمعنى الاستقلال.

أ‌- استقلال القضاء وفقاً للمعايير الدولية:
يعنى استقلال القضاء وفقاً للمعايير الدولية، جملة من الضمانات التي يتبناها القضاة، ويطالب بها الثوار، وكل الفعاليات المجتمعية، بعضها موجود فعلاً، وبعضها ينبغي أن يشمله إصلاح القضاء:

1- التزام مؤسسات الدولة باحترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، وهذا مطلب قضائي وشعبي لم يتحقق كاملاً حتى الآن. ويشمل ذلك عدم التدخل في القضايا المعروضة على القضاء بالإغراءات أو الضغوط أو التهديدات، أي بالوعد أو الوعيد، وهو ما قررته صراحة المادة 184 من دستور 2014.

2- شمول ولاية السلطة القضائية لجميع المسائل ذات الطابع القضائي، وهو ما نصت عليه المادة 188 من الدستور الجديد، التي تقرر اختصاص القضاء بالفصل في كافة المنازعات والجرائم، عدا ما تختص به جهة قضائية أخرى.

3- توفير الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة، وهو ما قررته المادة 185 من الدستور: يكون لكل جهة أو هيئة قضائية موازنة مستقلة، تدرج بعد إقرارها في الموازنة العامة للدولة رقماً واحداً.

4- التمتع بحرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع على نحو يحفظ هيبة المنصب ونزاهة القضاء. والحق في حرية التعبير مكفول للمواطنين. لكن المادة 76 من الدستور تحظر إنشاء النقابات والاتحادات بالهيئات النظامية ومنها القضاء، ولا يشمل الحظر نوادي القضاة أو جمعيات القضاة أو غيرها من التنظيمات التي تمثل مصالحهم وتنهض بتدريبهم المهني وتحمى استقلالهم.

5- مراعاة النزاهة والكفاءة وعدم التحيز أو المحاباة في اختيار من يشغلون الوظائف القضائية، وعدم التمييز بين المواطنين لأي سبب، لاسيما الآراء السياسية أو المنشأ الاجتماعي أو الجنس. وقد كرس الدستور الجديد المساواة بين المواطنين، وجعل تولى الوظائف العامة على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة (م 14). كما كرست المادة 11 من الدستور المساواة بين المرأة والرجل، وكفالة الدولة لحق المرأة في تولى الوظائف العامة، والتعيين في الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها. لكن التمييز بين المواطنين في تولى الوظائف القضائية لم ينته مع الثورة المصرية، والغالب أنه لن يزول قريبا على الرغم من وجود النصوص الدستورية، وهو ما سوف نعرض له لاحقاً.

6- حق القاضي في الحصول على محاكمة عادلة، ولا يجوز وقف القاضي أو عزله إلا بسبب عدم القدرة أو عدم اللياقة السلوكية، وحقه في إعادة النظر في الإجراءات التأديبية ضده من جهة مستقلة. وقد نص الدستور الجديد على عدم قابلية القضاة للعزل، وينظم القانون مساءلتهم تأديبياً (م 186).

ب- مفهوم القضاء لاستقلاله:
المفهوم المصري لاستقلال القضاء يقصد به استقلاله عن الدولة وسلطاتها وشعبها. هذا المفهوم كان يثار على استحياء قبل ثورة 25 يناير. لكن الأحداث التي تلت ثورة 25 يناير أكدت خصوصية مفهوم الاستقلال لدى القضاء، وهو مفهوم أقل ما يقال عنه أنه لا يعبر عن رغبة حقيقية في إصلاح المنظومة القضائية. وقد تركت التجربة المريرة التي خاضها القضاء المصري مع نظام حكم الإخوان، الذي لم يدم طويلاً، بصماتها على مفهوم الاستقلال، فصارت المطالبة بإصلاح القضاء من قاض أو ممن ليس بقاض بمثابة "إهانة للسلطة القضائية"، أما عبارة "تطهير القضاء" فهي حديث الإفك. وقد كان المفهوم القضائى لمعنى الاستقلال مقبولا قبل الثورة، لكنه لن يكون محل إجماع بعد التغييرات الثورية.

1- قبل ثورة 25 يناير، لم تكن هناك شرعية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، فكان مقبولاً من الجميع المطالبة بالاستقلال التام للسلطة القضائية عن هاتين السلطتين، بدلاً من أن يكون القضاء أداة تستغلها السلطات غير الشرعية في إحكام قبضتها على المواطنين وشرعنة الاستبداد.

2- بعد ثورة 25 يناير، ظهرت شرعيات أخرى، منها شرعية البرلمان المنتحب. لكن بدلاً من توظيف هذه الشرعية الجديدة لتعزيز استقلال القضاء، عن طريق الاستجابة للمطالب الثورية بإعادة هيكلة القضاء وإصلاحه، تفرغ البرلمان المنتخب لمهاجمة أحكام القضاء، وتأليب القوى الثورية ضد السلطة القضائية. ومن هنا كانت مقاومة القضاة لأي تدخل من جانب البرلمان، ورفع شعار استقلال القضاء لقطع الطريق على البرلمان ومنعه من إصدار قوانين تتعلق بإصلاح أحوال السلطة القضائية. واستعان القضاة – الذين لم يتورعوا عن الانخراط في الصراع السياسي – بمبدأ الفصل بين السلطات للانفراد بصياغة تعديلات لقانون السلطة القضائية، تؤكد المفهوم المصري القديم لاستقلال القضاء، دون إدراك للتغييرات التي أحدثتها الثورة على العلاقة بين السلطات، بل وحتى بتجاهل حدود الفصل بين سلطات الدولة، الذي لا يعني بأي حال إنغلاق سلطة داخل تخومها، بما يخل بمبدأ التوازن بين السلطات. لذلك لم يلق مشروع القانون الذي أعدته لجنة مشكلة من قضاة ما عرف قبل الثورة بتيار الاستقلال قبولاً من شركاء العدالة أو من القوى الثورية أو حتى من المجلس العسكري الحاكم في حينه.

3- في عهد الرئيس محمد مرسي، ساهمت سياساته تجاه السلطة القضائية في زيادة تعلق القضاة بالمفهوم القديم لاستقلال القضاء، ورفض أي محاولة للتدخل في شؤون السلطة القضائية، ولو عن طريق البرلمان، متى كانت تتضمن مساساً بالحقوق المكتسبة للقضاة. ولم يقتصر رفض تدخل البرلمان في شؤون السلطة القضائية على القضاة وحدهم، بل شمل القوى الثورية وشركاء العدالة والأحزاب وكافة فئات المجتمع. ويرجع ذلك إلى أن تدخل البرلمان في هذه الفترة في شؤون القضاة كان يثير شكوكا بأن يكون مبعثه الرغبة ليس في اصلاح القضاء انما في "أخونته"، كي يكون سنداً لنظام حكم الإخوان. هذا فضلاً عن الشكوك التي أحاطت بنشأة مجلس الشورى الذي كان يتولى سلطة التشريع بعد حل مجلس الشعب.

4- بعد ثورة 30 يونيه 2013، حاول القضاة توظيف عدوان النظام السابق على السلطة القضائية للحصول على ضمانات، تؤكد استقلالهم عن باقي سلطات الدولة وعن الدولة ذاتها. وكان وضع الدستور مناسبة لتحصل كل جهة أو هيئة قضائية على نصوص دستورية، تؤكد مفهومها الخاص لمعنى الاستقلال. لذلك كانت نصوص دستور 2014 الخاصة بالسلطة القضائية بمثابة تكريس لهذا المفهوم، وجوهره تقوية القضاء في مواجهة سلطات الدولة الأخرى، وتحصينه ضد اختصاص البرلمان الذي سوف ينتخب بإصدار تشريعات تخص السلطة القضائية لا توافق عليها.
لذلك يمكن إيجاز مقومات المفهوم المصري لإصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته فيما يلي:

– الصراع على الاختصاصات، وهو ما ظهر في النزاع بين مجلس الدولة من ناحية وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة من ناحية أخرى، أثناء صياغة مشروع الدستور، بشأن الاختصاص بالقضاء التأديبي وصياغة ومراجعة عقود الدولة، وهو صراع لم يلتزم بما ينبغي أن يكون عليه الحوار بين جهات القضاء من رقي في أسلوب الخطاب وترفع عن توجيه الإهانات.

– إصرار القضاء العسكري على النص في الدستور الجديد على محاكمة المدنيين أمامه. ولم يكن دستور1971 يتضمن أساسا دستوريا لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ثم جاء دستور 2012 لينشئ هذا الأساس، ويجيز محاكمة المدنيين في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة ويحددها القانون. وكان من الصعب على واضعي دستور 2014 أن يسحبوا اختصاصاً من القضاء العسكري منحه دستور سابق، فأبقوا عليه مع تقييده بالجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على القوات المسلحة، وعلى ضباطها وأفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم، ويحدد القانون تلك الجرائم. وعلى الرغم من أن اختصاص القضاء العسكري بمحاكمة المدنيين ينتزع اختصاصاً من ولاية القاضي الطبيعي، ويخالف ما هو مستقر في الدول الديمقراطية ، لم نجد من شيوخ القضاة وممثلى القضاء العادى اعتراضاً على ذلك.

– رفض إشراك غير القضاة، ولو كانوا من شركاء العدالة، في الشأن القضائي، واعتبار المطالبة بذلك تدخلاً غير مقبول وعدواناً على استقلال القضاء. وهذا المفهوم للاستقلال لم يعد مقبولاً في أي دولة في العالم، حيث يشترك غير القضاة في تشكيل بعض المحاكم، مثل المحكمة الدستورية العليا، وبعض المجالس القضائية، مثل مجلس القضاء الأعلى. ففي فرنسا نصف عدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء من غير القضاة، وفي اليمن اقترح مؤتمر الحوار الوطني في جلسته الثالثة أن يشكل مجلس القضاء الأعلى بالانتخاب من 70 % من القضاة، 15 % من المحامين، 15 % من أعضاء هيئات التدريس بكليات الحقوق. كما اقترح الأمر ذاته بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا، ولها دور سياسي يقتضى إشراك بعض سلطات الدولة في اختيار أعضائها.

– رفض أسلوب الانتخاب في تشكيل مجلس القضاء الأعلى. وعلى الرغم من أن قضاة تيار الاستقلال قبل ثورة 25 يناير، كانوا يطالبون بانتخاب نصف عدد أعضاء مجلس القضاء الأعلى ، إلا أنهم لم يحققوا مطلبهم القديم في مشروع القانون الذي أعدوه بعد ثورة 25 يناير، بل أبقوا على قاعدة الأقدمية، وهي ضد المفهوم الديمقراطي.

– إصرار القضاة على انفرادهم بتعديل قوانين السلطة القضائية، دون تدخل من شركاء العدالة أو من الهيئات المنتخبة، تذرعاً باستقلال القضاء ورفض التدخل في شؤونه، وهو ما يترك انطباعاً بأن الاستقلال يعنى الانغلاق ورفض المساءلة والحساب. فالقضاة يسائلون السلطات والناس كافة، لكنهم لا يسألون ولا يقدمون حساباً لممثلي الشعب حتى يطمئن إلى حسن سير العدالة. وليس أكثر دلالة على رفض المساءلة والحساب، حتى في الشؤون غير القضائية للقضاة، من حديث رئيس نادي القضاة، يوم 13 يناير 2014، خلال ندوة نظمتها غرفة التجارة المصرية الكندية بالقاهرة، إلى رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي قال فيه ما نصه "إن شاء الله لن تدخل أنت ولا غيرك للتفتيش على نادي القضاة طول ما الزند وأنت على قيد الحياة"([3]).

– كرس الدستور الجديد المدلول غير الديمقراطي لاستقلال القضاء، بنصه على أن تقوم كل جهة أو هيئة قضائية على شؤونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة (م 185)، ونصه على أن يفصل القضاء العادى دون غيره في المنازعات المتعلقة بشؤون أعضائه (م 188)، وتفصل المحكمة الدستورية العليا في المنازعات المتعلقة بشؤون أعضائها (م 192)، كما يفصل مجلس الدولة في المنازعات المتعلقة بشؤون أعضائه (م 190)([4]). كما اعتبر الدستور القوانين المنظمة للسلطة القضائية من القوانين المكملة للدستور، التي لا يجوز لمجلس النواب إصدارها أو تعديلها إلا بموافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس. ومن شأن هذا النص أن يغلق كل باب لإصلاح القضاء، فيجب أخذ رأيه بداية في مشروع القانون، والرأي قد يفسر من جانب القضاة على أنه موافقة على كل حكم ورد في المشروع. وبعد أخذ موافقة السلطة القضائية، لا يجوز للبرلمان تعديل المشروع أو إصداره إلا بأغلبية ثلثي عدد أعضاء المجلس، وليس ثلثي عدد الحاضرين. وهكذا تغل يد البرلمان المنتخب من الشعب، مصدر كل السلطات، عن التدخل في شؤون السلطة القضائية. وقد صرح رئيس نادي القضاة بأن قانون السلطة القضائية هو أهم قانون بعد الدستور، فلا يجوز تعديله إلا من القضاة أنفسهم. ومن الناحية النظرية البحتة، يمكن أن يؤدى هذا النص لغل يد القضاة أنفسهم عن تعديل قانونهم إذا ما رفض البرلمان التعديل. لكن يبدو أن خشية القضاة من تعديل قانونهم على غير ما يأملون أكبر من رغبتهم فى تغيير الأوضاع التى يضمنها القانون الحالى. فبقاء الحال على ماهو عليه أفضل من انتظار أو تقبل المجهول.

– يصر بعض القضاة على المطالبة بامتيازات لا شأن لها باستقلال القضاء، أو الإبقاء على ما هو مقرر منها قانوناً أو فعلاً. من ذلك موضوع ندب القضاة، الذي حظره دستور 2012 ،إلا إذا كان كلياً للجهات وفي الأعمال التي يحددها القانون، وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء "وإنجاز أعماله". أما دستور 2014، فقد حظر فى المادة 186 ندبهم كلياً أو جزئياً إلا للجهات وفي الأعمال التي يحددها القانون. وقد نصت المادة 239 الواردة فى باب الأحكام الانتقالية على وجوب أن يصدر مجلس النواب، فى خلال مدة لاتتجاوز خمس سنوات من تاريخ العمل بالدستور، قانونا بتنظيم قواعد ندب القضاة بما يضمن إلغاء الندب الكلى والجزئى لغير الجهات القضائية أو اللجان ذات الاختصاص القضائى أو لإدارة شؤون العدالة أو الإشراف على الانتخابات. ومن ذلك أيضاً موضوع الالتحاق بالوظائف القضائية الذي لم يضع الدستور الجديد ضوابط له، فيما عدا نص المادة 14 التي تنص على أن " الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة …"، وسوف نعرض لهذا الموضوع لاحقاً.

وهكذا فبدلاً من أن تقوم القيادات القضائية بإصلاح ما اعوج من الشأن القضائي، وتعكف على إجراء ما يلزم من إصلاحات جذرية، تعيد للقضاء مكانته وتؤهله لأداء دوره في خدمة العدالة، اتخذ القضاة مما قام به نظام الإخوان من عدوان على السلطة القضائية ذريعة لدعم المطالبات الفئوية، مثل النص على سن تقاعد القضاة في الدستور، أو تخصيص نسبة من الموازنة العامة للقضاء، أو عدم مناقشة ميزانية القضاء في البرلمان.
والحقيقة أن ما يعرقل عملية الإصلاح من داخل القضاء ليس هو رغبة القضاء في عدم الإصلاح، فالقضاة جميعاً يدركون أهمية دعم السلطة القضائية، ومواجهة المعوقات التي تحد من فعاليتها، وتعزيز استقلالها. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن القيادات القضائية تتبوأ مقاعدها في نهاية خدمتها، لمدد قصيرة لا تكفي لتطبيق مشاريعها وأفكارها الإصلاحية، إن وجدت، لذلك تميل إلى إبقاء الحال على ما هو عليه، وتترك مواقعها لمن يليها في الأقدمية، تجنباً لما قد يثيره الإصلاح من تغييرات لا يكفي الوقت لإنجازها. وهذا ما يفسر اختزال عملية الإصلاح في شقها الشخصي دون جوانبها الموضوعية.

ثانياً: الخطاب الإصلاحي من خارج القضاء:

هو خطاب يصدر عن القوى الثورية والفعاليات القانونية والاجتماعية والسياسية. وجوهر الخطاب الإصلاحي من خارج القضاء يركز على مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه السلطة القضائية. وفي المرحلة الثورية، اتفق الجميع على ضرورة إجراء إصلاحات جذرية لهيكل السلطة القضائية، لضمان وصول العدالة الناجزة ذات الجودة العالية إلى طالبيها ومستحقيها. لكن التعبير عن هذا الهدف اختلف مضمونه، واصطبغت أساليبه بطابع المرحلة التي عاشها المجتمع المصري خلال الفترة الانتقالية، التي بدأت مع ثورة يناير 2011، ولا تزال مستمرة حتى الوقت الراهن.

أ‌-     بعد ثورة 25 يناير:
غلب على الخطاب الإصلاحي طابع الانفعال وأجواء المرحلة الثورية، التي أعقبت عقوداً طويلة من الاستبداد السياسي، الذي أفسد كل مؤسسات الدولة بدرجات متفاوتة. لذلك طالب الثوار "بتطهير القضاء"، وعزل النائب العام الذي عدوه مسؤولا عن مظالم النظام السابق. كما طالب البعض بضرورة محاسبة القضاة الذين يثبت عليهم أنهم كانوا عوناً للنظام السابق على شرعنة الظلم والاستبداد. والحقيقة أننا لا نستطيع القول بأن هذا المطلب كان مطلباً لغالبية المصريين، لأن التجربة العملية كشفت بعد ذلك عن أنه كان بالدرجة الأولى مطلباً لقوى الإسلام السياسي. فغالبية طوائف الشعب يدركون أن المؤسسة القضائية كانت من أكثر مؤسسات الدولة المصرية مقاومة للاستبداد والظلم. لذلك كان النظام الاستبدادي السابق على ثورة يناير يسعى دائماً لتقليص القضاء العادي الطبيعي، عن طريق الحد من ولايته إما بقوانين استثنائية أو عن طريق التوسع في المحاكم الاستثنائية على حساب القاضي الطبيعي، أو تجنب القضاة المستقلين في المناصب القضائية العليا([5]).

ب- في عهد الرئيس محمد مرسي:
تأكد ما أشرنا إليه حالاً من أن المطالبة "بتطهير القضاء" كان منبعها قوى الإسلام السياسي. فبعد تولى الرئيس مرسي رئاسة البلاد، علت الأصوات المطالبة بتطهير القضاء بوصفه سبيلاً لإصلاحه، وتزعم قادة تيار الإسلام السياسي هذه الدعوة، بداية من البرلمان ذي الغالبية الإسلامية، والأحزاب الدينية، وأنصار تيار الإسلام السياسي، وصولاً إلى الرئيس المنتخب ذاته. وظهرت نوايا هذا التيار العدوانية تجاه القضاء، فانتقلت من الأقوال المجردة والشعارات إلى الأفعال([6]). وتمثلت الأفعال في مواقف منها:

1- إعادة الرئيس المنتخب لمجلس الشعب، الذي حل بعد حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون انتخابه.
2- إعلان رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب أن المجلس سيرد على المحكمة الدستورية بقانون لتنظيم السلطة القضائية.
3- المطالبة بعزل النائب العام بالمخالفة لقانون السلطة القضائية، وهو ما تم لاحقاً.
4- إصدار الإعلان الدستوري في 21 نوفمبر 2012، الذي قلص ولاية القضاء، بالنسبة لما يصدره الرئيس من إعلانات دستورية وقوانين وقرارات حتى انتخاب مجلس شعب جديد. وكذلك عزل النائب العام وتعيين نائب عام من المقربين من تيار الإسلام السياسي.
5- حصار المحكمة الدستورية العليا لمنعها من إصدار حكمها ببطلان تشكيل مجلس الشورى، وتهديد أعضائها بعبارات لا تليق بمقام المحكمة، وكان ذلك فى يوم 2 ديسمبر 2012، المحدد لانعقاد جلسة المحكمة لإصدار أحكامها في قضيتي حل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية المنتخبة لوضع دستور 2012.
6- تقديم مشروعات قوانين لمجلس الشورى لتعديل قانون السلطة القضائية، تضمنت نصوصاً إصلاحية في ظاهرها، مثل الحرص على شفافية التعيين في الوظائف القضائية، ورفض الوساطة والمحسوبية وتوريث وظائف القضاء. لكنها تضمنت أيضاً نصوصاً انتقامية، مثل تخفيض سن تقاعد القضاة، لذلك لم يقتصر رفض هذه المشروعات على القضاة وحدهم([7])، بل امتد الرفض إلى القوى السياسية الليبرالية، وممثلي المجتمع المدني، ورجال القانون، الذين كانوا يخشون أن يكون الهدف الحقيقي لهذه "الإصلاحات" هو "أخونة" القضاء.
7- كرس دستور 2012 التوجه العدائي تجاه المحكمة الدستورية العليا التي كانت فاعلاً أساسياً في مواجهة حكم الإخوان وتجاوزاتهم في حق السلطة القضائية، فتم تقليص ولايتها عن طريق حصر رقابتها على قوانين الانتخابات بالرقابة المسبقة خشية تكرار ما حصل مع ابطال انتخابات مجلس النواب (الشعب)، وتخفيض عدد أعضائها بما يتيح إبعاد مناوئي النظام من عضويتها. وكان موقف دستور 2012 من المحكمة الدستورية العليا ترضية للرئيس السابق، وليس رغبة في إصلاحها، فقد اتهم الرئيس المحكمة بأنها تتآمر على الشعب المصري، وتسعى لتقويض مؤسساته، وتعطيل مسيرته نحو الديمقراطية، وأنها تسرب أحكامها قبل صدورها.
 
ج – بعد ثورة 30 يونيه:
حدث تراجع في الخطاب الإصلاحي، سواء من الإسلاميين المؤيدين للنظام الجديد أو من القوى السياسية أو المدنية. ويبدو أن الاتجاه العام هو التسليم بمقولة أن القضاء يصلح نفسه بنفسه، وأنه لا ينتظر دعوات لإصلاحه من خارجه، وأن الإصلاح شأن قضائي بحت.
ونعتقد أن الإذعان لهذه المقولة، قد يؤخر الإصلاح المنشود، فالإصلاح له تضحيات في أي مجال حدث فيه تراجع، ويمكن أن يمس بمصالح يضمنها بقاء الحال على ما هو عليه. وقد تفسر الدعوات لإصلاح شؤون القضاء من داخله وهي قليلة، أو من خارجه، على أنها إهانة للسلطة القضائية وإخلال بمقام القضاء ، وهي تهمة طالت رموزاً قضائية سابقة أو حالية، ورموزاً سياسية ومدنية.

كما أن التراجع في الخطاب الإصلاحي من خارج القضاء يمكن تفسيره بالرغبة في استرضاء القضاة، كي يكونوا عوناً للدولة على إنهاء المرحلة الانتقالية التي طالت. لكننا نحذر من خطورة التعامل مع القضاء على أساس أنه عدو للنظام السياسي القائم كما حصل مع حقبة الرئيس مرسي، أو على أساس أنه صديق مؤيد للنظام القائم، من الضروري التغاضي عن المشاكل التي تحيط به، وهو ما نخشى أن يكون سمة من سمات الحكم ما بعد 30 يونيو. فإصلاح القضاء وتخليصه من معوقاته، هو السبيل لتقويته وتعزيز استقلاله وزيادة فاعليته، ونتيجة ذلك كله هي دعم ثقة مؤسسات الدولة والشعب في نظامه القضائي. فما هي مقومات الخطاب الإصلاحي بشأن القضاء؟

د – مقومات الخطاب الإصلاحي:
هذه المقومات عمادها استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وتحديث القضاء، وعلاج المشاكل التي يعاني منها، وتوفير الكفاءات، وضمان التأهيل المبتدئ والمستمر لأعضاء الهيئات القضائية، وإبعاد القضاء عن الشأن السياسي. ونعرض في إيجاز للإصلاحات التي نراها ضرورية لدعم هذه المقومات الأساسية، وهي إصلاحات ليست مستحدثة، لكن المرحلة الثورية التي عاشها القضاء المصري منذ ثورة 25 يناير أظهرت ضرورة الإسراع بتحقيقها، لضمان الاستقلال المنشود للقضاء.

1– تطهير القضاء:
تطهير القضاء تعبير مألوف عقب الثورات الكبرى، وهو لا يعني أن هناك فساداً معمماً في القضاء. ومصطلح التطهير في الحالة المصرية يعنى مساءلة القضاة الذين دعموا السلطة السياسية في فترات الاستبداد، أو الذين تصرفوا في بعض القضايا على نحو يرضى السلطة السياسية القائمة، أو القضاة الذين مارسوا السياسة وأعلنوا عن انتماءات سياسية، أو ثبت عدم حيادهم في وقائع باشروا تحقيقها أو الحكم فيها.
وفي الدول التي تقوم فيها ثورات كبرى، وتنتقل من عهود الاستبداد والفساد إلى مرحلة جديدة من المكاشفة والمحاسبة، يتم اللجوء إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بغرض إصلاحها، وقد يكون من بين أدوات إعادة الهيكلة البدء بتطهير هذه المؤسسات.
وقبل ثورة 25 يناير، كان القضاء يقوم بتطهير ذاته، ويحاسب الفاسدين الذي يثبت ارتكابهم لجرائم جنائية أو لانحرافات مسلكية، وكان ذلك يتم في سرية، حرصاً على هيبة القضاء ومكانته بين المواطنين.

وبعد ثورة 25 يناير، علت الأصوات الثورية المطالبة بتطهير القضاء من مؤيدي نظام مبارك ومن استفادوا منه. وفي فترة حكم محمد مرسي، جرت محاولات إصلاحية تحت ستار تطهير القضاء وسط تشكيك من أن يكون الهدف منها "أخونة" القضاء والتخلص من المعارضين للنظام.
وعقب ثورة 30 يونيه، قامت حركة لتطهير القضاء من مؤيدي الإخوان المسلمين، فأحيلوا إلى التحقيق، ومنهم من عزل من منصبه ومنهم من ينتظر. ويجرى في الوقت الحاضر التحقيق مع بعض القضاة الذي نسب إليهم الاشتغال بالعمل السياسي. كما نشرت الجريدة الرسمية بتاريخ 16 يناير 2014 قراراً جمهورياً بنقل قاض بمحكمة استئناف القاهرة، كان يحقق في قضية فساد مالي، إلى وظيفة غير قضائية بوزارة القوى العاملة بعد إحالته إلى الصلاحية بحكم من مجلس تأديب القضاة. وقد نسب إلى هذا القاضي الاشتغال بالعمل السياسي، والتأثير على الشهود في القضايا التي حققها، وعمله مستشاراً لأحد الأندية الرياضية بالمخالفة للقانون. ولا تزال المحاسبة مستمرة ، ونأمل ألا تقتصر المحاسبة على من دعموا نظام حكم الإخوان وحدهم، بل تشمل كل من يثبت فساده أو عدم حياده أو عدم كفاءته أياً كان موقعه. وقد أعلن رئيس نادي القضاة الذي كان يرفض سماع مصطلح التطهير، في برنامج على إحدى القنوات التليفزيونية الخاصة يوم 17 يناير 2014 أنه توجد خلايا نائمة بين القضاة، كما يوجد خونة بينهم.

2-تعزيز الديمقراطية في اختيار القيادات القضائية:
مقتضى هذا أن يتم اختيار القيادات القضائية عن طريق الانتخاب، وليس وفقاً لقاعدة الأقدمية. فقاعدة الأقدمية، التى تستبعد شباب القضاة من المناصب القيادية، قلما تأتي بأفضل العناصر، وقد ثبت فشلها في كافة مؤسسات الدولة التي تعتمد هذا الأسلوب كخيار وحيد، لأنها أدت إلى الجمود وعدم الرغبة أو القدرة على تحمل تبعات التطوير. كما أن انتخاب القيادات القضائية، يجعلها قادرة على مواجهة تدخل السلطات الأخرى في شؤون القضاء، ومقاومة هذا التدخل. ولا شك في أن تجربة نادي القضاة، خلال فترة حكم الإخوان وقبلها، خير دليل على ما نقول به. فاستناد النادي المنتخب إلى تأييد جموع القضاة، جعله قادراً على الوقوف دون تردد أو تراجع في مواجهة تجاوزات نظام الإخوان في حق القضاء والقضاة الذين يمثلهم ويستمد شرعيته وقوته منهم. أما مجلس القضاء الأعلى غير المنتخب من القضاة، والذين يصل أعضاؤه إلى مناصبهم عن طريق قاعدة الأقدمية، فكان أميل إلى تأييد قرارات ومواقف السلطة التنفيذية. إن قاعدة الأقدمية، رغم كونها قاعدة موضوعية مجردة، لا تحمى المجلس من إمكانية تأثير السلطة التنفيذية في أعضائه وفي مواقفه. من أجل ذلك كانت مطالب نادي القضاة الأساسية، عندما كان يقوده تيار استقلال القضاء، تتضمن ضرورة وجود أعضاء منتخبين في تشكيل المجلس. وليس ذلك بدعاً من القول، فقد نص أول قانون منظم للسلطة القضائية في مصر على أن يتكون مجلس القضاء الأعلى من أعضاء منتخبين، وقام الرئيس جمال عبد الناصر بإلغاء نظام انتخاب أعضاء المجلس، قبل أن يلغي المجلس ذاته في سنة 1969([8]). في الحقيقة، فإن تقوية سلطات المجلس لن تجدي كثيراً إذا ما ظل تشكيله يفتقد للديمقراطية. والأمر ذاته يصدق على رؤساء المحاكم الابتدائية، الذين ينتدبهم وزير العدل لمدة سنة قابلة للتجديد بإرادة الوزير (م 9 من قانون السلطة القضائية).

3- دعم الشفافية في إجراءات الالتحاق بالوظائف القضائية:
لا توجد معايير واضحة للالتحاق بالوظائف القضائية، فلا توجد مسابقة لاختيار أفضل المتقدمين، ولا يوجد اختبار حقيقي يسمح بالوقوف على قدرات كل مرشح. يضاف إلى ذلك دور صلة القرابة في اختيار من يشغلون الوظائف القضائية، وهو ما يخل بالمساواة بين المواطنين، ويسمح باعتلاء منصة القضاء دون وجه حق لأشخاص تنقصهم الكفاءة اللازمة لذلك، ويفقد القاضي شعوره بقيمة الاستقلال، التي لا يدركها إلا من وصل إلى منصبه عن جدارة واستحقاق، وتتناقص كفاءة المؤسسة باضطراد.

لقد كانت مسألة توريث السلطة أحد مسببات ثورة 25 يناير، لكن توريث المهن والوظائف لا يزال قائماً في مؤسسات كثيرة في الدولة، ولم تؤثر الثورة تأثيراً إيجابياً في هذا المجال. وقد عانى أبناء الطبقات الكادحة قبل الثورة من أسلوب التوريث لكونهم غير لائقين اجتماعيا لبعض الوظائف، ولن يكون ذلك مقبولاً في ظل ثورة نادت بالمساواة وتكافؤ الفرص. والحقيقة أن مشروعات تعديل قانون السلطة القضائية، المقدمة من القضاة، لم تحسم بوضوح هذا الموضوع، بل حاولت ترك الباب مفتوحاً لتمرير أبناء القضاة، دون إدراك للتغيير الذي أحدثته الثورة، وما ترتب عليها من كسر حاجز الخوف والصمت. ونأمل أن يتدارك القانون الجديد هذا الأمر.

ولم يرد في الدستور الجديد، في باب السلطة القضائية، أي نص يضع ضمانات للتعيين في الوظائف القضائية، واقتصر نص المادة 186 على الإحالة إلى القانون لتحديد شروط وإجراءات تعيين القضاة وأعضاء النيابة العامة. لذلك لا يوجد في الدستور الجديد غير نص المادة 14 المتعلق بالوظائف العامة، فهي "حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة". فهل الوظائف القضائية من الوظائف العامة التي تخضع لهذا النص، أم أن القضاء سلطة لا يخضع لغير نصوص السلطة القضائية في الدستور، والنصوص التى ترد في قانون السلطة القضائية دون غيرها؟

لقد نشرت جريدة الشروق المصرية، في عددها الصادر يوم 14 ديسمبر 2013، أن أبناء القضاة شغلوا نسبة 25% من وظائف النيابة العامة من دفعة 2010، التي تم تعيينها في ديسمبر 2013، بينما يمثل القضاة نسبة %0014, من مجموع السكان. ولا اعتراض لدينا على أن يشغل أبناء القضاة كامل الوظائف، إذا كان ذلك عن جدارة واستحقاق. لكن الذي نتحفظ عليه هو عدم صدور بيان من الجهة القضائية المختصة بالتعيين، لتوضيح هذه المسألة للرأي العام، درءاً للشبهة عن القضاء. قد يوجد بعض القضاة الذين يصعب عليهم تقبل وجود قواعد موضوعية، إذا كان من شأنها تنحية أبنائهم عن مناصب القضاء، لذلك قوبل تعديل قانون السلطة القضائية بالقانون رقم 17 لسنة 2007، الذي اشترط تقدير جيد للتعيين في وظائف النيابة العامة، بمعارضة من هؤلاء القضاة، وطالب بعضهم بتخصيص "كوتة" لأبناء القضاة في المناصب القضائية، وهذا دليل على أن الثورة لم تصل بعد إلى الوسط القضائي، ونأمل ألا يتأخر وصولها.

4- علاج مشكلة بطء العدالة:
مشكلة العدالة البطيئة من المشاكل الكبرى للقضاء المصري. وأسباب بطء التقاضي عديدة، منها تزايد عدد الدعاوى، ومنها نقص الإمكانات المادية اللازمة لانجاز القضايا، ومنها قلة عدد القضاة وأعوانهم، ومنها تعقيد إجراءات التقاضي. وزيادة عدد الدعاوى سببه وجود قوانين غير عادلة خالقة للنزاعات، والإسراف في التجريم والعقاب، وبيروقراطية الإدارة. وهكذا يتحمل القضاء المصري عبء أزمة ليس هو السبب فيها، لكنها تتسبب في إضعاف ثقة المواطنين في جهاز العدالة، ويمكن أن يترتب عليها التجاء المتنازعين في تسوية منازعاتهم إلى قانون القوة، نظراً لغياب قوة القانون.
والدولة في المرحلة الثورية مطالبة بإيجاد حلول لمشكلة بطء العدالة، لتمكين المتقاضين من الحصول على العدالة الناجزة. وقد نصت المادة 97 من الدستور الجديد على أن "التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا ….". فدستور الثورة يلزم الدولة بعلاج مشكلة العدالة البطيئة، وتلتزم الدولة بعد أن تم إقرار الدستور بتعديل أو إصدار القوانين التي تكفل الحق في عدالة ناجزة، كما تلتزم بتحديث القضاء، وتزويده بالتقنيات الحديثة لتحسين كفاءته، وضمان تفرغ القضاة للعمل القضائي لسرعة إنجازه بالجودة اللازمة.

5- تولى المرأة وظائف القضاء:
أقر الدستور الجديد حق المرأة في تولى الوظائف القضائية كافة. فنصت المادة 11 على كفالة الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق، وتكفل الدولة للمرأة "حقها في تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها". وقد حسم هذا النص خلافاً كبيراً حول حق المرأة في الالتحاق بوظائف القضاء كافة، فشمل حقها التعيين في الجهات القضائية، وهي جهة القضاء العادي والقضاء الإداري والمحكمة الدستورية العليا والقضاء العسكري. أما الهيئات القضائية من النيابة الادراية وهيئة قضايا الدولة، فقد دخلتها المرأة منذ سنوات عديدة.

وأثناء انعقاد لجنة الخمسين لتعديل الدستور، ساهم فضيلة مفتى الجمهورية في إقرار نص المادة 11 من الدستور، بفتواه عن حق المرأة في تولى الوظائف العامة ووظائف القضاء وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. وأعلن رئيس مجلس الدولة أثناء حضوره مؤتمر أعضاء المحاكم الإدارية المنعقد فى بيروت فى الفترة من 17-19 ديسمبر 2013 أن المجلس سوف يقبل تعيين المرأة فيه، وذلك بعدما أثار إعلان المجلس في سنة 2009 فتح باب التعيين فيه للفتيات من خريجي كليات الحقوق أزمة، انتهت مؤقتا بتصويت أغلبية 87% من أعضاء الجمعية العمومية للمجلس ضد تعيين المرأة في مجلس الدولة[9].

والحقيقة أن حرمان المرأة من تولى وظائف القضاء، كان يحرم المؤسسة القضائية من عناصر جديدة، يمكن أن ترتقي بمسيرة القضاء. وقد تولت المرأة القضاء في دول عربية وإسلامية. وليس من المقبول في مصر الثورة حرمان نصف الشعب من الولوج إلى مناصب القضاء التي يطمح إليها كل المصريين. فيجب أن يكون من مفاخر ثورة 30 يونيه 2013 ومنجزاتها وصول المرأة إلى منصة القضاء بجميع مكوناته.
 
6- ضمان جودة العدالة:
جودة العدالة تتحقق بحسن اختيار من يشغلون الوظائف القضائية من الجنسين ابتداء، للوصول إلى أفضل الكفاءات. لكن الجودة لا يكفي لضمان استمرارها حسن الاختيار عند التعيين، فهي تتطلب التدريب المستمر للقاضي لضمان زيادة كفاءته، وإلمامه بكل ما هو حديث من المعارف والعلوم اللازمة لحسن أداء عمله، وإتقانه اللغة العربية. ويتطلب ذلك إنشاء أكاديمية للقضاة، تتولى مهمة تأهيل القاضي ابتداءً واستمراراً. كما أن جودة العدالة تتطلب تفرغ القاضي للعمل القضائي، وحظر ندبه لوظائف غير قضائية، مع ضمان الدخل الكافي له، وكذلك دعم ميزانية القضاء للتوسع في تعيين القضاة وأعضاء النيابة العامة. وللأسف لم يخصص الدستور الجديد نصاً يتعلق بضمان الدولة لجودة العدالة، ويلزمها بكفالة تحقيق متطلبات ذلك، وإن كان قد تضمن نصاً خاصاً بالندب. وكان دستور 2012 يحظر الندب الجزئي للقضاة، ولا يجيز الندب الكامل إلا للجهات وفي الأعمال القضائية "وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء وإنجاز أعماله". ولكن دستور 2014 لم يحظر الندب فوراً، ولم يربط بينه وبين استقلال القضاء وإنجاز أعماله وجودة أدائه.

7- ضمان تنفيذ أحكام القضاء:
عدم تنفيذ أحكام القضاء من أهم التحديات التي واجهت القضاء المصري قبل ثورة 25 يناير وبعدها. فما قيمة الحكم القضائي الذي يصدر في الوقت المناسب وبجودة عالية إذا لم يجد طريقه إلى التنفيذ؟ كما أن عدم تنفيذ أحكام القضاء يمثل اعتداء على استقلال القضاء، وعائقاً أمام فعالية النظام القضائي، وقد يدفع الناس إلى الاستغناء عن اللجوء إلى المحاكم لاقتضاء حقوقهم، ويستبدلون بها العنف والقوة.

ولا يقتصر عدم تنفيذ الأحكام على الأفراد، لكن الدولة تعطي المثل السيء عندما لا تحترم أحكام القضاء، وتبتكر الأساليب لتعطيل المحاكم عن إصدار الأحكام أو تأخير تنفيذها. وقد كانت فترة حكم الإخوان المسلمين نموذجاً فريداً، لكنه ليس وحيدا، لإهدار الدولة لأحكام القضاء وعدم تنفيذها كما حصل مع مطالبة مرسي بعودة مجلس النواب رغم ابطال الانتخابات النيابية بقرار من المحكمة الدستورية العليا أو محاولة الالتفاف عليها أو منع صدورها بحصار المحاكم وتهديد القضاة كما حصل مع محاصرة المحكمة في أوائل ديسمبر 2012.

لذلك نصت المادة 100 من الدستور الجديد على أن " تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب، وتكفل الدولة وسائل تنفيذها على النحو الذي ينظمه القانون. ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين، جريمة يعاقب عليها القانون، وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة. لى النيابة العامة بناءً على طلب المحكوم له، تحريك الدعوى الجنائية ضد الموظف الممتنع عن تنفيذ الحكم أو المتسبب في تعطيله."
 
8- محاسبة السلطة القضائية:
المحاسبة والمساءلة من ضمانات الاستقلال والجودة في كافة المهن والوظائف. وإذا كنا نطالب الدولة بتوفير الإمكانات اللازمة لسرعة توفير العدالة للمواطنين وضمان جودتها، فلا بد أن يتأكد الشعب، الذي ينفق على مؤسسات الدولة من أمواله، أن كل مؤسسة تؤدي واجباتها بقدر ما تطالب بحقوقها. لذلك فمحاسبة القضاة ليس معناها أن يساءل القاضي عما يرتكبه من أفعال يؤثمها القانون، فذلك لا جدال فيه، وهو ماتقوم به المؤسسة القضائية مع أعضائها. لكن الذي نعنيه بمحاسبة القضاة أن يكون الشعب على قناعة بأن قضاءه يقدم عدالة ذات جودة وفي الوقت المعقول، وأن تتوافر الآليات الرقابية التى تطمئن المواطني

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني