القضاء التونسي في 2013 (5): ارساء الضمانات الاساسية لاستقلال القضاء


2014-03-10    |   

القضاء التونسي في 2013 (5): ارساء الضمانات الاساسية لاستقلال القضاء

نص الفصل 48 من مشروع الدستور على” ان الهيئات القضائية تتكفل بحماية الحقوق والحريات من كل انتهاك”.كما تطرق باب الحريات والحقوق الى المحاكمة العادلة كحق أساسي من حقوق المتهم[1]، كما أكد على الحرية كمبدأ لا يمكن حرمان أي شخص منها الا بمقتضى قرار قضائي[2]. وكما عوّل الدستور في جملة الأحكام التي تعلقت بإرساء الحقوق والحريات على القضاء كحام لها. وتأكيدا لهذا الدور وضمانا لحسن القيام به، نص اول فصول باب السلطة القضائية على أن “القضاء سلطة مستقلة تضمن اقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات”. كما كشف باب السلطة القضائية عن تحقق جانب من الضمانات، تمثلت أساسا في ارساء مجلس أعلى للقضاء ذات ولاية كاملة وتمثيلية، وفي التكريس الدستوري لحق الدفاع انتهاء بمنع انشاء المحاكم الاستثنائية.

مجلس أعلى للقضاء ممثل وذو صلاحيات
أسند الفصل 114 من الدستور للمجلس الاعلى للقضاء مهمة “ضمان حسن سير القضاء والسهر على استقلاله”. وبين الفصل 112 منه تركيبة المجلس فبين انه مجلس يجمع اصناف القضاء العدلي والاداري والمالي ويتكون من أربعة هياكل هي “مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الاداري ومجلس القضاء المالي” فضلا عن الجلسة العامة لهذه المجالس. ويتكون المجلس في هياكله الاربعة من ثلثين من القضاة اغلبيتهم من المنتخبين وفي الثلث المتبقي من غير القضاة “من المستقلين ذوي الاختصاص”[3]. كما نص الفصل 113 على أن المجلس الاعلى يتمتع بالاستقلالية الادارية والمالية والتسيير الذاتي ويعد موازنة خاصة يناقشها امام اللجنة الخاصة بالمجلس التشريعي.” واسند الدستور للمجلس صلاحية اقتراح الإصلاحات سواء كانت ترتيبية او تشريعية كما اوجب عرض مشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء عليه لإبداء الرأي فيها.

وفي إطار اضطلاع المجلس بدوره الأصلي، أسند له الدستور صلاحية تعيين القضاة التي تتم بأمر من رئيس الجمهورية بناء على رأي مطابق من المجلس، فيما ترك صلاحية تعيين سامي القضاة لرئيس الجمهورية بعد التشاور مع رئيس الحكومة بناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء. كما حدد مجلس القضاء كجهة تختص بنقل القضاة وتأديبهم. وفي مقابل سلطة المجلس الأعلى على القضاة وحماية لاستقلالية القاضي، حدّ النص الدستوري من سلطات المجلس في مواجهة القضاة فأرسى مبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه وألزم المجلس بالتزام القانون في الاستثناءات التي ترد على المبدأ وبتعليل قراراته في شأنها.

وقد وافقت الهياكل الممثلة للقضاة على هيكلة المجلس وصلاحياته، بخلاف الحال بما يتصل بتركيبته. فقد تمسكت نقابة القضاة برفض فكرة مشاركة غير القضاة في تركيبة مجالس القضاء، بعدما قدرت ان مشاركة غير القضاة تؤدي الى تسييس القضاء وتفتح المجال امام الولاءات السياسية[4]. وفي هذا الخصوص، تمسكت جمعية القضاة بضرورة أن تكون غالبية أعضاء المجلس من القضاة المنتخبين[5]. وبالمقابل، رفض اعضاء المجلس التأسيسي الأخذ بهذه الاعتراضات، على أساس أن “القضاء شأن عام وليس شأنا خاصا بالقضاة ولتيسير المراقبة والمساءلة تم تبني التركيبة المختلطة”[6]. كما تم اقرار مبدأ اصدار المجلس الاعلى للقضاء تقريرا سنويا يحيله لرئيس مجلس الشعب ورئيس الجمهورية ويتم نشره[7]. وتم إلزام محكمة التعقيب والمحكمة الادارية العليا والمحكمة المالية بإعداد تقارير سنوية يتم نشرها جميعا مع تمتيع المحكمة المالية بحرية تحرير تقارير خاصة تنشر بدورها كلما قدرت ضرورة ذلك.

التكريس الدستوري للحق في المحاكمة العادلة
كرس الفصل 108 من دستور الجمهورية التونسية الحق في محاكمة عادلة بأن نص على أن “لكل شخص الحق في محاكمة عادلة”. ولم يربط النص الدستوري بين صفة المواطنة والحق في المحاكمة العادلة بما يبين التوجه لدسترة الحق في المحاكمة العادلة كأحد حقوق الانسان الاساسية وفقا لمقتضيات المادة العاشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة 14 من العهد الدولي لحقوق الانسان. ويتبين من الاطلاع على فصول الدستور ان واضعيه لم يكتفوا بإرساء الحق في المحاكمة العادلة وإنما حرصوا على تفصيل مقتضياته من خلال تكريس ضماناته دستوريا سواء تلك التي تتعلق بإجراءات التتبع والمحاكمة وتنفيذ العقاب او تلك التي تتعلق بالحق في المحاكمة امام محكمة مستقلة.

فتم تكريس مبدأ قرينة البراءة بأن نص الفصل 27 من الدستور على أن “كل متهم بريء الى ان تثبت ادانته”، واتى الفصل 29 ليؤكد المبدأ بأن اعتبر الايقاف والاحتفاظ استثناء لا يتم اللجوء اليه إلا في حالتي “التلبس بالجرم او بموجب قرار قضائي” لمدة احتفاظ او ايقاف يجب ان تكون محددة قانونا. وتاليا، تمنع هذه المواد كلّ اشكال الاعتقال التعسفي مع التوسع في تعريفه ليشمل ليس فقط الايقاف والاحتفاظ في غير الحالات المحددة حصرا انما أيضا ذلك الذي يتجاوز قيد المدة القانونية.وألزم النص الدستوري في مقابل ذلك الجهات الموكول لها تطبيق القانون وممارسة الايقاف “بالإعلام الفوري لمن يتسلط عليه التتبع بالتهمة المنسوبة اليه وبحقوقه”، وقد خص في هذا المجال حق المتهم في انابة محام، وهو “حق اساسي للمتهم يضمن طوال اجراءات التتبع والمحاكمة”. كما اعتبر الدستور الأجل المعقول للمحاكمة حقا للمتقاضي بما يعني إلزام الدولة بتوفير مقتضيات المحاكمة السريعة للمتقاضين ورفع مسببات المحاكمات المتسرعة أو التي يطول أمدها دون مبرر. وفي السياق نفسه، اشترط الدستور أن تكون المحاكمة وفق قانون سابق الوضع الا في حالة القانون الأرفق بالمتهم. كما منع التعذيب سواء كان ماديا او معنويا ورتب على حصوله جريمة لا تسقط بمرور الزمن.

اما فيما تعلق بالعقوبة وتنفيذها، فقد كرس الدستور حقوق السجين بان نص على ان لكل سجين الحق في “معاملة انسانية تحفظ كرامته” والحق في التأهيل لإعادة ادماجه في المجتمع بعد انتهاء عقوبته. كما كرس حقوق ذوي السجين منعا لتحول تنفيذ العقاب الى عقوبة تنالهم فاشترط “ان تراعي الدولة في تنفيذ العقوبة السالبة للحرية مصلحة الاسرة”.

منع بعث محاكم استثنائية وتحجير التدخل في القضاء
حدد النص الدستوري انشاء المحاكم بالقانون كما اشترط أن تكون القوانين التي تتعلق بتنظيم القضاء من القوانين الاساسية. وفصل النص الدستوري اصناف المحاكم بحسب التخصص باعتبار القضاء العدلي والاداري والمالي وتعرض للمحكمة العسكرية فحدد اختصاصها بالجرائم العسكرية لينتهي الى تحجير “احداث محاكم استثنائية أو سن اجراءات استثنائية من شأنها المس بالمحاكمة العادلة”[8].

كما حجر الدستور تعطيل تنفيذ الاحكام او الامتناع عن تنفيذها دون موجب قانوني. كما حجر التدخل في القضاء بما يؤكد أن الرؤية التأسيسية لاستقلالية القضاء حاولت الجمع بين شروط الاستقلالية وشروط المحاكمة العادلة. وكان الاقرار للقضاة بحقهم في النشاط النقابي وبحق الاضراب من الضمانات الهامة لاستقلالية القضاء التي أرساها الدستور.

حق القضاة في العمل النقابي والاضراب
شغلت المسألة النقابية أعضاء اللجنة التأسيسية التي صاغت مشروع باب السلطة القضائية. وجاء في تقريرها ان هؤلاء تداولوا في مسألة حقوق القضاة المدنية والنقابية، الا ان اختلافهم الحاد حول الاقرار بحق القضاة في الاضراب من عدمه دفعهم لإرجاء البت في الموضوع وتركه لمجال تدخل القانون ليبت فيه لاحقا.

غير أن تطور صياغات النص الدستوري بالجلسة العامة للمجلس الوطني التأسيسي أدى لإقرار جلي لحق القضاة في ممارسة الحق النقابي وفي ممارسة الاضراب كشكل من اشكال التعبير عن المطالب النقابية. فقد نص الفصل 36 من الدستور في صياغته النهائية على أن “الحق النقابي بما في ذلك حق الاضراب مضمون”. وفيما استثنى من حق العمل النقابي العاملين بالجيش حصريا، ومن حق الاضراب الأمنيين وأعوان الجمارك، فان القضاء بقي خارج هذه الاستثناءات. وبالنظر لما اقتضاه الفصل 49 من الدستور على عدم جواز التضييق لاحقا من الحقوق التي ارساها لنص الدستوري، فان حق القضاة في العمل النقابي وفي ممارسة الاضراب بات حقا دستوريا لا يمكن ان تنال منه النصوص القانونية بما في ذلك احكام الفصل  18 من قانون عدد 29  لسنة 1967المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة والذي ينص صراحة على تحجير ممارسة القضاة لحق الاضراب وكانت وزارة العدل التونسية تذكر به في كل الاضرابات التي خاضها القضاة وتلوح باستعماله لمعاقبة القضاة المضربين.



[1]نص الفصل 26 من الدستور على ان المتهم بريء الى ان تثبت ادانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في اطوار التتبع والمحاكمة.
[2]          الفصل 28 من مشروع الدستور ” لا يمكن ايقاف شخص او الاحتفاظ ب هالا في حالة التلبس او بموجب قرار قضائي ويعلم فورا بحقوقه وبالتهمة المنسوبة اليه وله ان ينيب محاميا وتحدد مدة الاحتفاظ والايقاف بالقانون.
[3]        تولت لجنة التوافقات مراجعة تركيبة المجلس الاعلى للقضاء على ضوء الملاحظات التي ابدتها هياكل القضاة اذ كانت صيغة مشروع دستور 1 جوان 2013 تنص على ان اعضاء المجلس الاعلى للقضاء يكون نصفهم من القضاة والبقية من غير القضاة فتم تدعيم عدد الاعضاء من القضاة مع تأكيد ان تكون اغلبيتهم من المنتخبين كما تم التنصيص على ان غير القضاة يشترط فيهم ان يكونوا مستقلين ومن ذوي الاختصاص.
[4]بلاغ نقابة القضاة التونسيين مؤرخ في 19/08/2013 منشور بصفحة نقابة القضاة بموقع التواصل الاجتماعي facebook.
https://www.facebook.com/groups/344925978888750/597839356930743/?ref=notif¬if_t=group_activity
[5]   تمسكت جمعية القضاة التونسيين بكون عدم تكريس اغلبية للقضاة المنتخبين يتعارض مع المعايير الدولية وخصوصا الفصلين 17 و18 من الرأي عدد 10 لسنة 2007 المجلس الاستشاري للقضاة الاوروبيين الذي ينص ” على انه عندما يكون مجلس العدالة متركبا من قضاة وغير قضاة فانه يتعين لتجنب كل توظيف او ضغوطات ان يكون المجلس متركب من اغلبية من القضاة المنتخبين من زملائهم ”
تقرير الندوة الصحفية لجمعية القضاة التونسيين بتاريخ 30/10/2013
[6]التقرير العام حول مشروع الدستور –الهيئة العامة للتنسيق والصياغة صفحة 31 منشور بالموقع الرسمي للمجلس الوطني التأسيسي
http://www.anc.tn/site/main/AR/docs/constitution/rapport_projet_constitution.pdf
[7]الفصل 111 من مشروع الدستور
[8]                الفصل 110 من  الدستور
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني