المرأة في الدستور التونسي الجديد: حماية للمكتسبات وتوجه نحو تحقيق المساواة


2014-02-12    |   

المرأة في الدستور التونسي الجديد: حماية للمكتسبات وتوجه نحو تحقيق المساواة

شكل الحديث عن حقوق المرأة في تونس ومكتسباتها جانبا هاما من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي رافق سنتي المخاض اللتين سبقتا المصادقة على دستور تونس وتم خلالهما نحت احكامه. واتى دستور الجهورية الثانية في نهاية المطاف لينهي حالة من الصراع بين من كانوا يعربون عن خشيتهم من استعمال الاحكام الدستورية كمنطلق لمراجعات تشريعية لاحقة تعصف بالحقوق التي حصلت عليها المرأة التونسية خلال حقبة الجمهورية الاولى ومن كانوا في موضع اتهام بالسعي لزرع مفاهيم تمنع تحقيق تطور منظومة حقوق المرأة في تونس وكانوا من جهتهم يعتبرون اطروحات خصومهم محاولة لدفع تصور حقوق المرأة في اتجاه يعصف بخصوصيات المجتمع التونسي وتنزعه من محيطه الثقافي. وأثمر التوافق بين الشقين نصوصا دستورية صاغها الصراع الا انها نأت عنه لتؤسس لمقاربة تحمي حقوق المرأة في انتصار لمبدأ المواطنة ومبادئ حقوق الانسان دون اغفال للضوابط والحدود التي فرضتها الخصوصيات الثقافية والعقائدية للمجتمع في تصور يزاوج بين المبادئ الكونية لحقوق الانسان المكرسة في الاتفاقيات الدولية والثقافة العربية الاسلامية في تصورها للأسرة. وقد يؤسس التمشي التأسيسي لمقاربة تنهي فكرة التعارض بين المرجعيتين يستحق الوقوف عند تفاصيله.

أكد الدستور في الفصل 46 منه على ان "الدولة تلزم بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها"، فيما نص الفصل 21 منه على الآتي: "المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز". اشترك الفصلان اللذان وردا بباب الحقوق والحريات بالدستور في تعاطيهما مع حقوق المرأة فأكد الفصل 46 التمسك بمكتسبات دولة الحداثة فيما تعلق بحقوق المرأة وعلى وجوب عدم الاكتفاء بها والسعي نحو تدعيمها فيما أرسى الفصل 21 صراحة مبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات بما يؤكد مباشرة تطوير منظومة حقوق المرأة، في سياق المحافظة على المكتسبات وتحصينها اولا وتدعيمها ثانيا.

المحافظة على المكتسبات:قوانين الاحوال الشخصية مكسب حضاري وجزء مكون للشخصية الوطنية
تعد منظومة القوانين التي تكرس حقوق المرأة من اهم مكتسبات الحداثة التي تحققت في ظل الدولة الوطنية. وتبرز مجلة الاحوال الشخصية ضمن النصوص التشريعية كأبرز عنوان للمكتسبات الاجتماعية والقانونية التي تحققت للمرأة. فقد أرست المجلة التونسية للأحوال الشخصية حقوقا أساسية للمرأة من أهمها الاقرار بحقها في اختيار قرينها وتحديد السن الدنيا للزواج بسن الرشد القانوني اي 18 سنة. كما نظمت الزواج وجعلته مدنيا يبرم بحجة رسمية ولا يفك الا بقرار قضائي واعترفت للمرأة بدور الشريك في رعاية الاسرة علاوة على منع تعدد الزوجات وتكريس حق الزوجة في طلب الطلاق. فيما ضمنت قوانين الجنسية للمرأة التونسية التي تقترن بأجنبي حق منح جنسيتها لأبنائها وكرست قوانين العمل المساواة بين الجنسين في مجال العمل. فيما نظم القانون عدد 91 لسنة 1998 المؤرخ في 09 نوفمبر 1998 نظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين والذي يحمي عند اختياره من قبل الزوجين حقوقهما في حال انفصام الرابطة الزوجية في الاملاك المكتسبة خلال الحياة الزوجية.
وكشف الحراك الاجتماعي والحقوقي الذي تزامن مع اعمال صياغة الدستور وكان له دور هام في تحديد احكامه ان المجتمع المدني والحركات النسوية والحقوقية باتت تعد حقوق المرأة ثوابت لا يجوز التراجع عنها تحت أي عنوان. فيما كشف خطاب الاغلبية النيابية التي تنتمي لتيار الاسلام السياسي عن ابعاد ايجابية فيما تعلق بمجلة الاحوال الشخصية، فقد التزم الحزب الاسلامي حركة النهضة بالحفاظ على مجلة الاحوال الشخصية والعمل على تطويرها بعد أن عدها ثمرة لاجتهادات فقهية لا تتعارض مع ما يطرحه من مشروع مجتمعي باعتبارها اجتهادا محمودا ينسجم مع روح الوسطية والاعتدال في التعاطي مع الشريعة الاسلامية. وتبعا لذلك، بات من واجب جميع السلط بما في ذلك السلطة التأسيسية المشتقة اي تلك التي تباشر التعديلات الدستورية الا تمس بالحقوق القائمة الا في اتجاه تدعيمها وتطويرها.

ودعم الدستور حماية الحقوق المكتسبة بجملة من الاجراءات اذ نص الفصل 65 منه على ان قوانين الاحوال الشخصية تتخذ صبغة القوانين الاساسية. وتتميز القوانين الاساسية بكونها قوانين تستوجب اجراءات خاصة في تداولها بالمجلس التشريعي ولا تتم المصادقة عليها الا بأغلبية مدعمة تتمثل في الاغلبية المطلقة لأعضاء المجلس النيابي بما يضمن صعوبة المساس بها.

كما نص الفصل 49 من الدستور على عدم جواز اي تنقيح يمس من مكتسبات حقوق الانسان وحمل القضاء مسؤولية حماية تلك الحقوق من كل انتهاك. وتكون المحكمة الدستورية والحال ما ذكر جهة الرقابة التي يقوم عليها واجب حراسة حقوق المرأة المكتسبة.
وفيما تبدو حماية الحقوق المكتسبة في هذا المجال ميسرة باعتبار الوعي العام بمفهومها ودلالاتها، فان ما ارساه نص الدستور من مبادئ تدعم تلك الحقوق يحتاج الى تدقيق يتجاوز ظاهر الاعلان.

تدعيم الدستور لحقوق المرأة: مفاهيم رائدة وحاجة لتوضيح المقاصد
نجحت كتلة المعارضة داخل المجلس الوطني التأسيسي في فرض فكرة المساواة بين الجنسين على كتلة الاغلبية التي تراجعت في سياق التوافقات عن اعتراضاتها الأولية على المصطلح. وكرس الفصل 21 من الدستور التونسي المساواة بين الجنسين بشكل صريح لا لبس فيه كما سب بيانه. كما نجحت ذات الكتلة في فرض فكرة الكوتا للمرأة في تحمل المسؤوليات في الهيئات المنتخبة وفي دسترة واجب الدولة في اتخاذ التدابير التي تكفل القضاء على العنف ضد المرأة.

وتبدو أحكام الدستور بهذا المنظور خطوة عملاقة في اتجاه تدعيم حقوق المرأة خصوصا وأن مبدأ المساواة الذي تم اقراره أردف بتمييز ايجابي للمرأة وحرص على مواصلة حمايتها. ويبرر التوجه التأسيسي في بعده الحمائي بالواقع الاجتماعي الذي لا زال يفرض واقع انتماء المرأة للفئات الهشة التي تعاني التمييز فعليا. كما استجاب واضعو الدستور في تعاطيهم مع حقوق المرأة بشكل غير خفي لتخوفات شق من المجتمع التونسي تربط بين فكرة حرية المرأة والتحلل من الضوابط الاجتماعية، فنص الفصل "السابع من الدستور على أن الاسرة الخلية الاساسية للمجتمع وعلى الدولة حمايتها"، فيما بدا حرصا على ان لا يؤدي الاقرار بحقوق المرأة للمس بالأسرة كما يروج لذلك المعترضون على الاتفاقات الدولية التي تحمي المرأة وخصوصا منها اتفاقية سيداو التي صادقت عليها الدولة التونسية سنة 1985 وباتت احكامها بمقتضى الدستور مكتسبات لا يجوز التراجع عنها.

التزم نص الدستور بالمساواة التي اقرها: فمكن المرأة صراحة من حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية ورفع بالتالي الاعتراض الذي كان يكرسه دستور غرة جوان 1959 على حقها في تقلد أحد مناصب الدولة. وفي موازاة ذلك، أكد الدستور التونسي على التمسك بتعاليم الاسلام ومقاصده في ديباجته، ليؤسس بذلك لاستثناء هام على مبدأ المساواة يتعلق بمادة المواريث. فالقانون التونسي الذي كرس في نصوصه الاحكام الشرعية في المواريث يبدو وكأنه ترك موضوعا لنزاع مستقبلي في تحديد مفاعيل المساواة وحدودها.

وذات الغموض في المقاصد عاود البروز بمناسبة تطرق نصوص الدستور لتمثيلية المرأة بالمجالس المنتخبة. فقد نص الفصل 34 منه على ان الدولة تضمن تمثيلية للمرأة في المجالس المنتخبة "دون ان يربط تلك التمثيلية بنسب معينة، فيما نص الفصل 46 "على ان الدولة تسعى لتحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة". ويبدو التضارب بين الفصلين المتعلقين بذات الموضوع جليا ومن شأنه أن يؤدي الى التباس في تحديد مسؤوليات الدولة في هذا المجال. ومرد هذا التضارب يعود الى أن فكرة التناصف بين الجنسين التي تمسكت بها المعارضة واعتبرتها خصوصية ميزت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ويجب المحافظة عليها، لم تقبل بها الاغلبية الا لاحقا وبعد صياغة مشروع الدستور فأقحمت بنصه دون التفات للأحكام السابقة.

كشفت أحكام دستور الجمهورية التونسية الثانية عن عمق الوعي الجماعي بحقوق المرأة ومكانتها في تحقيق البناء الديموقراطي. وقد بيّن تحوّل نصوص قانونية تم سنها من قبل السلطة السياسية خلال الجمهورية الاولى الى ثوابت وطنية أهميّة القانون كوسيلة لصناعة الشخصية الوطنية وكأداة لتثقيف المجتمع وتطويره. وفيما بدا توجه الدستور الجديد نحو تطوير تلك الحقوق مع تتويجها بمبدأ المساواة الكاملة مضطربا في بعض أحكامه، فانه ينتظر أن تتولى المجالس التشريعية والمحكمة الدستورية تدقيق مفهوم المساواة بشكل يؤدي للقبول العام بها دون أن يفرغها من مضامينها العميقة.
 
  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني