مساهمات علم النفس في فتح ورش قانونية وقضائية في 2013


2014-02-04    |   

مساهمات علم النفس في فتح ورش قانونية وقضائية في 2013

خلال سنة 2013، تقاطع عدد منالأحداث التي شهدتها الساحتان الاجتماعية والقانونية، مع علم النفس، على نحو أبرز دوراً ممكناً لهذا العلم في تكوين القرارات العامة في الشؤون القانونية والاجتماعية أو تصويبها. وسأناقش في هذا المحل أربعة ملفات كانت قد أثارت أنواعاً مختلفة من الجدل.

البيانات بعدم جواز اعتبار المثلية الجنسية مرضاً:
صدرت هذه البيانات في تموز 2013 عن الجمعية اللبنانية للطب النفسي (LPS) والجمعية اللبنانية لعلم النفس (LPA) والجمعية الطبية اللبنانية للصحة الجنسية (LebMash).

وبذلك، أعلن اختصاصيون في الصحة النفسية للمرة الأولى في العالم العربي موقفهم الرسمي بشأن هذه المسألة، مجمعين على أن المثلية الجنسية هي توجه جنسي ولا يمكن اعتبارها مرضاً، وذلك وفقاً للعديد من الدراسات التجريبية التي أجريت حول هذا الموضوع(جمعية علم النفس الأميركية، 1987). بالإضافة إلى ذلك، لم يُعثر على سبب محددللمثلية الجنسية، سواء كان بيولوجياً أو جينياً أو عائلياً أو نفسياً. فالاضطرابات النفسية التي قد يعاني منها الأشخاص ذوو التوجه المثلي إنما تنتج من الوصم والاستبعاد والتهميش الذي قد يتعرّضون له و”العار” الذي قد يلحق بهم، ما يؤدي إلى ارتفاع خطر إصابتهم بالاكتئاب والقلق (ماير، 2003).

ويأتي هذا التوضيح الصادر عن الاختصاصيين اللبنانيين أمام الرأي العام في غضون أقل من عام من إصدار نقابة الأطباء بياناً رسمياً بتاريخ 7/8/2012 يحظر على أي طبيب إجراء الفحوصات الشرجية التي عُرفت بفحوصات العار تحت طائلة الملاحقة التأديبية، وذلك في إثر اتساع التداول الإعلامي والحقوقي في هذه المسألة[1]. وقد بررت النقابة موقفها بأنه “من الثابت علمياً أن هذا الإجراء لا يتصف حتى بالفحص التجريبي، لا يعطي النتيجة المطلوبة ويشكل انتهاكاً جسيماً لحقوق الأشخاص الذين يخضعون له من دون موافقتهم، وممارسة مهينة وتحط من قدرهم وتعذيباً بمفهوم معاهدة مناهضة التعذيب”. وقد طالب بيان النقابة وزير العدل بالإيعاز لمن يلزم وقف أي إجراء من هذا النوع فوراً.
بالإضافة إلى ذلك، كان بعض العاملين في مجال الصحة النفسية قد ادعوا عبر وسائل الإعلام أنهم قادرون على “علاج” المثلية الجنسية من خلال العلاجات التحويلية. فقد جاءت هذه البيانات لتوضح أنه ما من أساس علمي لهذه العلاجات، لا بل ربما يكون لها أثر ضار على الشخص المعني.
لكن هل التأكيد على طبيعية المثلية الجنسية من قبل العاملين في المجال الطبي كاف لـ”تطبيعها” في نظر القانون؟ في الواقع، تعاقب المادة 534 من قانون العقوبات “كل مجامعة على خلاف الطبيعة” من دون تحديد ما الذي يُقصد بـ”خلاف الطبيعة”. ومن وجهة نظر طبية أو بيولوجية بحتة، مفهوم “مخالفة الطبيعة” مرفوض وغير موجود في اللغة العلمية. لا بل إن الدراسات في علم النفس تميل كلها إلى تبيان كيف أن الطبيعة تفضّل التعدد والتنوع، لا التوحيد القياسي/التجانس في الميول الجنسية وفي النشاط الجنسي عامة.

آثار سوء المعاملة والاستغلال على الصحة العقلية لدى عاملات المنازل الأجنبيات:
شهد لبنان للمرة الأولى في 2013 تقديم شكوى جزائية من قبل عاملة إثيوبية ضد صاحبة عمل على خلفية دفعها الى الانتحار، وذلك من خلال سوء المعاملة المستمرة والاستغلال المتمادي[2]. أما الملفات السابقة المتعلقة بمحاولات انتحار/انتحار عاملات المنازل الأجنبيات، فكانت تُقفل تلقائياً من دون التحقيق فيها.

ولعلم النفس دور هام لمعرفة فيما إذا كان من شأن استغلال العاملات وسوء معاملتهن أن يؤدي الى الانتحار. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة الى الدراسات العلمية التي صنفت هذه التصرفات ضمن العوامل الرئيسية التي من شأنها أن تزيد من خطر ظهور أعراض نفسية خطيرة وحالات من الاضطراب العاطفي (طومسون ومجموعة من المؤلفين، 2012). وقد ثبت ذلك سواء من خلال الدراسات في العلوم العصبية (مفهوم ديناميكية الدماغ) أو علم التخلق التي تدل على وجود تفاعل مستمر بين الإمكانات الوراثية للفرد والبيئة.
كما بيّنت هذه الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون في الأصل من اضطرابات نفسية يتأثرون أكثر جرّاء سوء المعاملة والاعتداء اللذين يشكلان عاملين أساسيين من عوامل الانتكاس. وبالتالي، إن الفرضية المتمثلة بأن للعاملة سلوكاً انتحارياً منذ الأصل، لا يخفف بأي شكل من الأشكال من مسؤولية صاحب العمل في حال تعريضها لسوء المعاملة والاستغلال. ومن هنا تأتي أهمية فتح التحقيق في أي محاولة انتحار إذا ثبت وجود تاريخ من سوء المعاملة وإشراك اختصاصيي علم النفس فيه.

فضلاً عن ذلك، تجدر الإشارة الىأنالسلوك الانتحاري قد يكون موجوداً في بعض الأحيان حتى في ظل غياب أي اعتداء/سوء معاملة. فظروف العمل نفسها التي تجعل من العاملة “خادمة لتنفيذ سائر المهام” والقيود المفروضة على حريتها ومنعها من الوصول إلى بعض الأماكن العامة هي كلها أشكال عنيفة ومهينة من التمييز الاجتماعي والعنصري، وتشكّل في حد ذاتها عوامل خطر تزيد من نسبة الانتحار لدى الأشخاص المهاجرينوإن كانت المسؤولية هنا اجتماعية أكثر مما هي فردية محصورة بصاحب العمل(بورسزتاين ليبسيكاس، س. ومجموعة من المؤلفين، 2012).

أما الملاحظة الأخيرة، فتتعلق بظروف الاستشفاء للعلاج النفسي لعاملات المنازل الأجنبيات التي تتم بمعزل عن أي تنظيم قانوني. فالأطباء النفسيون يصفون العلاج بالصدمات الكهربائية بوتيرة أعلى وجرعات أكبر من الأدوية لمرضاهم من عاملات المنازل الأجنبيات بالمقارنة مع مرضاهم من اللبنانيات (زهر الدين ومجموعة من المؤلفين، 2013). ويتم بعد ذلك إعادة المريضة على الفور إلى بلدها الأصلي بناءً على تقرير من الطبيب النفسي، فيساهم النظام الاستشفائي والطبي في الترحيل السريع للعاملة وعدم إجراء أي تحقيقات مع صاحب العمل.

بدء تطبيق مبدأ العلاج بدلاً من الملاحقة القضائية في قضايا الإدمان: 
يستند إلغاء التجريم إلى دراسات بيولوجية عصبية ونفسية واجتماعية تشير إلى أن الإدمان على المواد المخدّرة هو في الحقيقة اضطراب ذو أسس عصبية بيولوجية، تتعزز وتستمر من خلال آثار هذه المواد على الدماغ والعوامل النفسية والاجتماعية.
هنالك أبضاً علاجات تمّ التحقق من صحتها وفعاليتها، مثل العلاج النفسي السلوكي والمعرفي والعلاج البديل للمواد الأفيونية في حالة الإدمان على الهيروين. ويسمح هذا العلاج بإعادة دمج المدمنين بالكامل في المجتمع، فضلاً عن انخفاض معدلات الانتكاس(فاجيانون ومجموعة من المؤلفين، 2003).

من خلال إلغاء تجريم الإدمان على المخدرات ومنح متعاطي المخدرات أخيراً الحق في تلقي العلاج، يصبح القانون متسقاً مع البيانات العلمية، ويمنع الوصم الثقيل الذي قد ينجم عن دخول السجن.إنما يبقى على علم النفس أن يحدد هنا برامج وبروتوكولات العلاج المتاحة والممكنة، فضلاً عن تحديده معنى الشفاء من الارتهان من المادة المخدرة.

خطورة فصل الأطفال عن بيئتهم العائلية في مؤسسات الرعاية:
فتحت المفكرة القانونية هذا الملف في ندوتها في 27/11/2013 في أعقاب قضية منصور لبكي التي أثارت مسألة شيوع الاعتداء الجنسي في دور الرعاية. وهنا يبين أيضاً علم النفس بأن وضع الأطفال في دور الأيتام كبديل لمنزل الوالدين إنما له آثار خطيرة على نموّهم، بما في ذلك.
– تزايد خطر الإصابة بالأمراض المعدية،
– النقص في التغذية والتأخر في النمو،
– التأخر في النمو المعرفي والحركي،
– اضطرابات في التعلق والنمو الاجتماعي والعاطفي،
– تزايد خطر التعرض للاعتداء الجسدي والجنسي (الاختلاط، انعدام الإشراف، الهشاشة العاطفية لدى الأطفال).

حتى عندما لا يتعرض الطفل للاعتداء/سوء المعاملة داخل المؤسسة، فمن الصعب جداً أن يحصل على الرعاية والاهتمام اللذين يتناسبان مع احتياجاته الخاصة. فالطفل بحاجة إلى محفزات بيئية وتواصل مخصص مع رموز التعلق المتاحين والأشخاص المرتبطين به عاطفياً لكي ينمو جسدياً وعاطفياً ومعرفياً واجتماعياً.

وتثبت نتائج هذه الدراسات أن مصلحة الطفل تقضي بالعمل على إبقائه في بيئته الأسرية، مع برامج تدخل محددة تستند إلى التوجيه الأبوي، من أجل تعزيز مهارات الأبوة والأمومة، والمساعدة الاجتماعية الطويلة الأجل للأسرة الأصلية.

في الختام، ثمة العديد من المواقف الاجتماعية والوقائع التشريعية والقانونية التي لا تتوافق مع بيانات الدراسات الطبية والعلمية الدولية. فيمكن إذاً للطب النفسي تسليط الضوء على بعض القضايا وتوجيه القرارات القانونية. يتطلب ذلك تعاوناً بين مختلف القطاعات، يبدأ بتوعية العاملين في مجال التشريع على الجوانب الإنسانية المتعلقة بالملفات المذكورة وتوعية الأطباء على المفاعيل القانونية المترتبة على الإجراءات التي يتخذونها، فضلاً عن واجباتهم القانونية.

 نُشر في ملحق العدد الثالث عشر من مجلة المفكرة القانونية

للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا

المراجع الأجنبية:
American Psychological Association. (1987). Policy Statements on Lesbian and Gay Issues. Washington, DC: Author.
Bursztein Lipsicas, C. et al. (2012). Attempted suicide among immigrants in European countries: an international perspective. Social Psychiatry and Psychiatric Epidemiology, 47(2):241-51

Faggiano F et al (2003). Methadone maintenance at different dosages for opioid dependance. Cochrane Database Systematic Review, 3:CD002208

Johnson, R. et al. (2006). Young children in institutional care at risk of harm. Trauma Violence Abuse, 7(1):34-60

Thompson Ret al (2012). Suicidal ideation in adolescence: examining the role of recent adverse experiences. Journal of Adolescence, 35(1):175-86

Zahreddine, N. et al. (July, 2013). Psychiatric morbidity, phenomenology and management in hospitalized female foreign domestic workers in Lebanon. Poster session presented at the 21st World Congress of Social Psychiatry, Lisbon, Portugal.


[1] “قضية فحوص العار تصل الى خواتيمها: استعادة لأبرز محطات التخاطب العام بهذا الشأن”، منشور على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 31/8/2012.
[2]هلا كرباج، أثر الاستغلال على الصحة النفسية لعاملات المنازل الأجنبيات في لبنان وظروف علاجهن النفسي، المفكرة القانونية، عدد 12، تشرين الثاني 2013.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني