القاضية الخطيب وحزب التحرير والمادة 9 من الدستور: لمن اراد ان يؤمن بالخلافة او ان لا يؤمن


2012-01-24    |   

القاضية الخطيب وحزب التحرير والمادة 9 من الدستور: لمن اراد ان يؤمن بالخلافة او ان لا يؤمن

أين نجح القضاء في صيانة وتكريس الحقوق الاساسية والحريات العامة في 2011 ؟ هذا ما سوف تسلّط عليه الضوء المفكرة القانونية في ندوتها التي سوف تعقدها يوم الخميس المقبل الموافق فيه 26 كانون الثاني 2012 الساعة السادسة مساءً تحت عنوان “اين نجح القضاء في صون الحقوق الاساسية والحريات العامة، او تكريسها في 2011؟
كما يسر المفكرة ان تنشر تعليقا على حكم صدر حديثا في 2012 بتكريس حريتي المعتقد والتعبير.
(المحرر)

“وحيث أن حرية المعتقد تعني في الأساس أن يكون للشخص الحرية الكاملة في التفكير، أي أن يكون له الحرية الكاملة في اعتماد العقيدة التي يراها مناسبة لافكاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، أو حتى ان يكون له الحرية بعدم اعتماد أي عقيدة، وهو يمكنه ان يعتمد أفكارا تختلف مع الأفكار المعتنقة من قبل غالبية أفراد المجتمع أو افكارا متناسبة معها. ويتفرّع عن حرية المعتقد ان يكون الشخص حرا في اعتناق العقيدة الدينية التي تناسبه وحرا ايضا في عدم اعتناق اي دين”.
هذه الحيثية وردت حرفيا في الحكم الصادر في 19-1-2012 عن القاضية نازك الخطيب (قاضية منفردة جزائية في طرابلس) في سياق النظر في الادعاء الذي قدمته النيابة العامة الاستئنافية في الشمال ضد شخصين على خلفية انتمائهما الى حزب التحرير وقيامهما بنشر افكاره ومبادئه وعقيدته من خلال التعاطي مع الأشخاص المؤمنين، في المساجد وفي الامكنة الفسيحة في اسواق طرابلس، وذلك على اساس المواد المتصلة بالقيام باعمال تنفيذية في جمعية سرية. والمعلوم ان عقيدة هذا الحزب تتمثل بتحقيق الخلافة الإسلامية في كل العالم من خلال الغاء التقسيمات التي قامت بها دول الغرب لا سيما للقطر العربي، والدعوة الى استئناف حياة اسلامية واقامة دولة الخلافة الاسلامية التي توحد الشعوب تحت خليفة واحد يحكم بشرع الله.
فبعدما تثبتت القاضية من ضلوع المدعى عليهما في نشاطات (بعضها سري) في هذا الحزب (وهو بالمناسبة حائز على علم وخبر من وزارة الداخلية)، رأت ان مآل الادعاء يحسم بمعرفة ما اذا كانت معتقدات الحزب المذكورة والعمل على نشرها، من شأنها أن تشكل اغراضا منافية للقانون ام انها تدخل ضمن اطار حرية المعتقد. وقد توصلت بالنتيجة الى اعلان براءة المدعى عليهما عملا بهذه الحرية وبابعادها. وابرز ما تميز به الحكم لهذه الجهة، امور عدة:
اولا، انه اعطى تعريفا واسعا وصريحا لحرية المعتقد وفق ما جاء في الحيثية المشار اليها اعلاه، ليشمل المسائل الاكثر قابلية للجدل كالحرية في عدم اعتناق اي دين. وهذا التعريف الذي جاء في سياق تفسير المادة 9 من الدستور، انما يشكل رغم بداهته علامة فارقة في العمل القضائي الذي يتحاشى الخوض في مسألة الانتماء او اللاانتماء الى دين او طائفة. فبذلك، بدت الحيثية وكأنها تقطع من هذه الجهة مع الباطنية الاجتماعية التي تتمسك ظاهريا بحرية المعتقد من دون الاعتراف بمضامينها او بانعكاساتها. ويكفي لهذه الغاية مقارنتها بالموقف الصادر عن مجلس شورى الدولة في 15 تموز 2009 والذي رأى على نقيض ذلك بأن المادة 9 تسمح بتقييد حرية المعتقد، التي تبقى “مرتبطة بالنظام الطائفي الذي يفرض على كل لبناني ان ينتمي الى طائفة من طوائفه الرسمية فلا يبقى طليقا في حياته الاجتماعية والسياسية خارج الاطار الطائفي الذي ولد فيه او انتسب اليه باعتبار ان حرية المعتقد تستتبع اعتراف القانون اللبناني بحق الفرد في تغيير دينه ومذهبه ومعتقداته (مع الاشارة الى ان أنظمة الأحوال الشخصية عند المسلمين لا تجيز للمسلم تغيير دينه)[1]“.
وهكذا، قدم الحكم قراءة صريحة (تجديدية) للمادة 9 من الدستور، تضمن باحترام حرية الاديان والانتساب الى الطوائف من دون ان تجعل منها اطرا يؤسر الفرد فيها. وهذا ما اعاد الحكم التأكيد عليه في حيثية اخرى، بقوله ان“حرية التفكير هي حرية طبيعية مرتبطة بالعقل البشري لا يمكن حدّها بأي وسيلة كانت”، على نحو ينسف لعبة المحرمات في هذا المجال. واللافتان الحكم لم يجد انطلاقا من ذلك اي اشكال في اعلان حرية الانعتاق من الاديان كافة الى جانب اعلان حرية الاعتقاد بالخلافة الاسلامية، اي الى اعلان حرية الالحاد الى جانب حرية التشدد الديني.
ثانيا، انه ابدى حرصا ليس فقط على اعلان حرية المعتقد انما ايضا على ضمان احترامها، وذلك من خلال ربطها بحريتي التعبير والتجمع. وهذا ما نقرؤه بوضوح كلي من خلال قوله بانه “لا يمكن أن يتم إحترام حرية المعتقد عمليا إلا اذا تم احترام حريات اساسية مرتبطة بها أو منبثقة مباشرة عنها، الا وهي حرية التعبير عن هذا المعتقد، وحرية التجمّع والإجتماع، وحرية التظاهر سلميا دعما لهذا المعتقد”. وبذلك، يكون الحكم قد اخرج حرية المعتقد من طابعها الفردي من خلال التأكيد على وجوب ضمان ممارستها جماعيا وبأية حال في المساحة العامة، وبكلام آخر اخرجها من اطار “الاعتراف بحرية الفرد في شؤونه الخاصة” الى اطار التسامح المتبادل بل ايضا الى اطار التفاعل بين مختلف المعتقدات في المساحة العامة. وهكذا، ليس هنالك ما يمنع تكوين مجموعات تؤمن بما يخالف النظام اللبناني السائد او تسعى الى تغيير هذا النظام او جانب معين منه. فـ “نشر الأفكار التي يؤمن بها المنتسبون الى حزب التحرير لجهة إلغاء الحدود بين الدول والسعي الى تغيير النظام السياسي في لبنان وإعتماد الخلافة الإسلامية كنظام سياسي أمثل بنظرهم، من خلال المناشير والبيانات الخطية واللقاءات الشفهية، لا يمكن تصنيفه ضمن إطار “الغرض المنافي للقانون”، ذلك لأنه، وإن كان يعارض إعتماد النظام السياسي الراهن المعمول به في لبنان، ولا يؤمن به ويسعى الى نشر الأفكار لتغييره وإعتماد نظام الخلافة الإسلامية، إلا أنه يشكل عملاً يدخل ضمن إطار حرية المعتقد والتعبير عن هذا المعتقد بطريقة سلمية”. وبالطبع، يشكل هذا الموقف هنا ايضا انعطافة بارزة في المنظومة القانونية اللبنانية التي غالبا ما تخلط بين “معتقدات الجمعية” التي يبقى التعبير عنها حرا ومضمونا قانونا و”الافعال التي قد تسمح بها او تحظرها هذه المعتقدات” والتي للقانون مبدئيا ان يحدد مدى قانونيتها. وهذا ما نقرؤه مثلا في الاستشارة الصادرة عن هيئة التشريع والاستشارات في قضية العلم والخبر لجمعية “حلم” والتي رأت ان مساندة المثليين والمثليات ورفع مستوى الوعي لديهم على مستوى الصحة والحقوق والعمل على الغاء التمييز ضدهم يشكل قبولا وتشجيعا لسلوكياتهم ومخالفة للآداب العامة، فيما ان موضوع الجمعية يتضمن مساندة اشخاص يتعرضون للتمييز والتهميش وفق معتقدها وليس مساندة سلوكيات معينة[2].
ولكن، اي حدود لممارسة حرية المعتقد والتعبير عنها؟ هنا ايضا تضمن الحكم بعض الاجوبة، ومحورهاان الحدود المفروضة في هذا الصدد لا تتصل قط بمضمون المعتقد، او بمدى قابليته اجتماعيا، او بطابعه الغالب او الاقلوي، انما فقط بالحدود المفروضة على حريتي التعبير والتجمع بشكل عام. وتبعا لذلك، من اللافت ان يذكر الحكم اولا وجوب حصول الممارسة بطريقة “سلمية”، فهذا التعبير مستمد من التخاطب العام ومن دون ان يكون له اي سند قانوني وان لتكريسه في حكم قضائي تاليا دلالات عميقة على التحول في طبيعة التوجسات ازاء التعبير عن حرية المعتقد، والتي باتت تتمحور حول الاساليب العنفية اكثر من اي امر آخر كالمحافظة على قيم اجتماعية او ما شابه. وفيما استعاد الحكم من جهة اخرى بعض المفاهيم المطاطة التي تستخدم ككوابح لممارسة حريتي التعبير والتجمع، كصيانة الأمن الوطني والنظام العام والسلامة العامة والصحة العامة والآداب العامة وصيانة وحماية حقوق الغير وحرياتهم، فانه ابدى بالمقابل حرصا شديدا عند تطبيق هذه المفاهيم. وهكذا، اهمل الحكم بشكل واضح كل ما اثير في التحقيقات من ادلاءات ضد مخابرات الجيش واساليب التحقيق والتعذيب التي عزاها الحزب اليها وتوجس ازاء المس بهيبة الاجهزة الامنية، او ايضا من بيانات توزع على المؤمنين لاقناعهم بمبادئ الحزب وقيمه، ليستخلص بانه “لم ينهض أي دليل في الملف من شأنه أن يثبت أو أن يكوّن قناعة المحكمة بأن نشر هذه الأفكار يتم بصورة من شأنها أن تؤدي الى المس” باي من الاعتبارات المشار اليها اعلاه. فعلى فرض ان هذه البيانات تخالف احد اوجه القانون، فعلى النيابة العامة ان تدعي بها على هذا الاساس من دون ان تستخدمها كذريعة لضرب الحزب برمته، ومعه حريتي المعتقد والتجمع.

 

نشر في العدد الرابع من مجلة المفكرة القانونية


[1]عن تعليق على الحكم المذكور، الاخبار، 21 آب 2009 المنشور ايضا على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 13-1-2012 تحت عنوان: “للذكرى”. ويبين المرجع كيف ان احد اعضاء المحكمة (شكري صادر) اتخذ في القرار المذكور موقفا مناقضا لآراء استشارية سابقة صادرة عنه بصفته رئيسا لهيئة الاستشارات والتشريع.
[2]الاستشارة الصادرة بناء على طلب وزير الداخلية والبلديات زياد بارود عن هيئة التشريع والاستشارات بتاريخ 8-12-2009.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني