بعد ثلاث سنوات من ثورة الياسمين: الدستور التونسي الجديد، ثمرة الصراع الايجابي


2014-01-27    |   

بعد ثلاث سنوات من ثورة الياسمين: الدستور التونسي الجديد، ثمرة الصراع الايجابي

لم تنه جلسة يوم 26 جانفي 2014 خصومات نواب المجلس الوطني التأسيسي التونسي الا انها توجت عملهم بعد مصادقتهم اثناءها على دستور الجمهورية التونسية الذي انتخبهم الشعب من أجل صياغة أحكامه يوم 23 اكتوبر 2011. نقلت المصادقة على الدستور خلافات النواب وصراعاتهم السياسية الى هامش الاحداث بعدما كانت تحتل من قبل صدارة الاهتمام. استغرقت صياغة مواد الدستور ال149 سنتين كاملتين بما خالف توقعات الساسة وتعهداتهم قبل انطلاق أعمال المجلس الوطني التأسيسي والتي تضمنت التزاما سياسيا بالانتهاء من صياغة احكام الدستور في مدة اقصاها سنة واحدة. وكانت سنتا كتابة الدستور كفيلتين بزعزعة الثقة العامة في المؤسسة التأسيسية رغم ان اختيار ارساء مجلس وطني تأسيسي كان مطلبا من مطالب الثورة التونسية رفع شعاره معتصمو القصبة في استعادة رمزية لتجربة كتابة دستور الاستقلال. ورغم ان الدستور الجديد كان قبل اتمام فصوله موضع اتهام مستمر بين من يقدرون انه سيكون اداة للانقلاب على مكتسبات الحداثة ومن يقدرون انه سيستعمل للقضاء على الخصوصيات الثقافية للمجتمع التونسي الا ان احكامه اتت لتوفق بين الجميع وتؤسس للحقوق والحريات بشكل يسمح للشقين المختلفين من التعايش السلمي في ظله.

اختلف الجميع حول الدستور واستمر خلافهم طوال أعمال صياغته والى حدود يوم المصادقة عليه. وقد يستمر اختلاف الآراء بعد ذلك بين من يعتبر الدستور الثاني للجمهورية التونسية واحدا من الدساتير الراقية التي تكرس الحقوق والحريات وتضمن عدم المساس بها وبين من يعتبره دستورا لا يخلو من نقائص. الا أن نجاح تونس في صياغة دستور جديد لها رغم حداثة تجربتها مع الديموقراطية يتمثل اساسا في أسلوب صياغة الدستور باعتبار تعدد المتدخلين في كتابته وقد يكون الاسلوب اهم ما في الدستور وان لم يبرز صلبه.

انطلق المسار التأسيسي التونسي بانتخابات 23 اكتوبر 2011 لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي. وقد شكل خيار انتخاب سلطة تأسيسية أصلية التزاما بقواعد الديموقراطية في بعدها النظري وعدولا عن فكرة ترك امر كتابة الدستور لخبراء القانون ورجال النخبة من السياسيين والفاعلين في الساحة العامة. غير أن نواب المجلس الوطني التأسيسي اختاروا ان يعطوا عملهم بعدا آخر فالتزموا طوعيا بالاستئناس بآراء الخبراء في اعمالهم كما توجهوا الى ناخبيهم ليطلبوا آراءهم في مشروع دستورهم. وأدى ذلك لتطور في مفهوم ديموقراطية العمل التأسيسي. كما تمكن المجتمع المدني الذي فاجأ السياسيين باهتمامه بصياغة الدستور من فرض تعديلات على مشاريع النصوص الدستورية المتعاقبة فيما تمكنت الاقلية النيابية داخل المجلس التأسيسي من تطوير وسائل ضغط لها على الاغلبية اثرت في صياغة الدستور. وانتهى العمل التأسيسي الذي كان في منطلقه يعتمد الديموقراطية غير المباشرة الى التحول نحو ديموقراطية خصوصية يصعب توصيفها نظريا كان للشارع فيها دور وللخبراء مسؤولية ولمكونات المجتمع المدني بصمات من جهة المضمون. وباتت الاحكام الخلافية في المواد الدستورية يرتبط مآلها بنتائج الحوار الوطني الذي رعته مكونات المجتمع المدني في سياق وفاقي بين مختلف الاحزاب بما ادى لاستفتاء غير معلن على مشروع الدستور سمح لكل المتدخلين بتعديل الاحكام ومراجعة صياغاتها. أدى المسار الصعب والمستحدث لبناء آليات تشريع تميز الدستور وتجعل منه فعليا نصا ذا مكانة سامية ليس فقط لمكانته في هرم القوانين بل بالنظر لتشارك الجميع في صناعته.

النقاش حول الدستور والاستئناس للخبرة خيار تأسيسي:
فيما ترك للمجلس الوطني التأسيسي مسؤولية صياغة الدستور انطلاقا من ورقة بيضاء كما قال رئيسه الاستاذ مصطفى بن جعفر، فان تعدد مشاريع الدساتير التي تقدمت بها الاحزاب السياسية والمجتمع المدني وخبراء القانون الدستوري للمجلس مع بداية اعماله كانت حافزا لوضع مشروع الدستور في صياغاته الاولية على طاولة النقاش مع التعهد بالنظر في مجمل المقترحات.

 النقاش حول مشروع الدستور اختيار مبدئي:
تولى المجلس الوطني التأسيسي صياغة مسودته الثانية لمشروع الدستور بتاريخ 14 ديسمبر 2012 والتي تعد فعليا اول صياغة واضحة للنص الدستوري على اعتبار ان المسودة الاولى لم تحسم في المسائل الخلافية واكتفت بعرض مختلف الآراء حولها. وبادر المجلس في إطار مشروع مشترك بينه وبين برنامج الامم المتحدة الانمائي الى عرض المسودة على عموم المواطنين بمختلف جهات الجمهورية وببلدان الهجرة لإبداء ما لهم من ملاحظات حولها. وشارك في المسار الذي اختيرت له تسمية "برنامج الحوار الوطني حول المضامين الدستورية" أكثر من خمسة آلاف مشارك من التونسيين إذ انتظم في هذا الإطار 26 اجتماعا داخل الجمهورية و18 اجتماعا في خارجها.
وكشف النقاش العام حول مشروع الدستور لأعضاء السلطة التأسيسية عن مدى الاهتمام المجتمعي بالنص الدستوري. كما كانت المقترحات والملاحظات التي تم تلقيها سببا في الكشف عن سوء صياغة النصوص وتضارب بعض أحكامها بما الزم نواب بالاستعانة بخبراء القانون.

دور لخبراء القانون في صياغة احكام الدستور:
اسند النظام الداخلي للمجلس الوطني التأسيسي في صياغته الاولى التي صادق عليها أعضاؤه بتاريخ 20 جانفي 2012 للهيئة المشتركة للصياغة والتنسيق والتي تعتبر هيكلا من هياكل المجلس وتتكون من أعضاء منه مسؤولية "التنسيق بين اللجان التأسيسية واعادة صياغة النصوص الدستورية وفق ملاحظات الجلسة العامة". غير أن ما كشف عنه النقاش العام حول مشروع الدستور وملاحظات الحقوقيين والأكاديميين من اختلالات في صياغة النصوص الدستورية بمسودة الدستور الثانية ومن تناقضات في احكامها الزم السلطة التأسيسية بتنقيح نظامها الداخلي بتاريخ 15 مارس 2013 لتجد لمقترحات النقاش العام على الدستور وآراء خبراء القانون موقعا في اعمال المجلس. وباتت هيئة الصياغة والتنسيق ملزمة بالاستئناس بآراء اهل الخبرة في اعمالها واللجان التأسيسية مطالبة بالنظر في مقترحات الشارع التونسي.

حاول طيف من المتخصصين في المادة القانونية عند بدايات اعمال صياغة النص الدستوري الاستيلاء على مسؤولية كتابة الدستور بدعوى ان العملية تقنية. وقاومت السلطة التأسيسية ذلك وتمسكت بكون الشعب اوكل لها المسؤولية دون سواها وان الدستور تعبير عن اختيارات وطنية وشراح القانون ينحصر دورهم في دراسته وتحليل احكامه. وانتهى المسار الى الاقرار بحق الشعب في كتابة دستوره بواسطة نوابه دون وصاية عليهم، مع الاعتراف بأهمية دور الخبرة القانونية في توضيح المفاهيم والمصطلحات القانونية وتدقيق الصياغات والكشف عن التناقضات الداخلية للنص. وكان لوفاق الخبرة مع ممثلي الشعب أثره في تطور النص الدستوري شكلا بين مسودته الثانية ومشروعه المعلن بتاريخ 01 جوان 2013. غير أن تطور النص الدستوري بين المحطتين لم يكن ثمرة لعمل المجلس في سعيه التلقائي للانفتاح على المجتمع وفي مراجعته جزئيا لموقفه من خبراء القانون فقط وانما كان نتيجة في جانبه الأكبر لصراع سياسي وحقوقي تجاوز المفاهيم المتعارف عليها.  

صراع التصورات يؤسس للتوافقات:
كشفت تركيبة المجلس الوطني التأسيسي الحزبية كما سطرتها نتيجة الانتخابات عن عجز أي كتلة نيابية بمفردها عن توفير النصاب اللازم للمصادقة عن الدستور أي اغلبية الثلثين. وكان أن ادى ذلك لانقسام المجلس التأسيسي في عملهم حول مشروع الدستور بين أقلية فاعلة توصف بالديمقراطية تنادي بتدعيم انفتاح تونس على منظومة حقوق الانسان والمضي قدما في التأسيس لدولة مدنية وبين اغلبية ذات توجهات اسلامية تدعو الى ايلاء المكون الثقافي الديني اهمية خاصة في احكام الدستور مع التزامها المعلن لتأسيس نظام ديموقراطي. كما شهد الشارع السياسي التونسي انقساما مشابها حول تصور توجهات الدستور وان بدا أكثر حدة بفعل أثر تدخل الافكار الراديكالية سواء منها السلفية او الحداثية في تحركاته. وأفضى الاختلاف الذي وصل في عدد من محطاته الى صراع الى ايجاد آليات للتوفيق بين الفريقين، ضمنت بالنتيجة اتفاقات حول الدستور داخل قبة المجلس الوطني التأسيسي كما خارجه.

التوافقات كمنهجية عمل داخل المجلس:
اعتبر نواب المجلس الوطني التأسيسي في تركيبة اللجان التأسيسية التي عهد لها كتابة مسودات ابواب الدستور حسب الاختصاص اختلاف الاراء السياسية داخل المجلس التأسيسي فتم اعتبار التمثيل النسبي داخل المجلس في تركيبة اللجان بما سمح لجميع الكتل النيابية بان تكون ممثلة صلبها. وعملت مختلف اللجان على تحقيق أكبر قدر من التوافقات بين اعضائها في خصوص مشاريع الاحكام الدستورية وتركت المواد الخلافية ليتم الحسم فيها لاحقا بعد استعراض جميعها. وأدى الاختلاف في بعض المواد الدستورية ذات الاهمية باعتبار تعلقها بالحريات او بمكتسبات المجتمع وخصوصيته الثقافية الى صراعات بين النواب ادى الى تعطيل أعمالهم. وكان من أثر الصراع ان تم التوافق بين أعضاء السلطة التأسيسية على استحداث لجنة توافقات تعمل داخل المجلس وتكفلت بالنظر في مجمل الاحكام الخلافية ونجحت في تعديل عدد منها بما سمح بالقبول الجماعي بها. وتمكنت بالتالي الاقلية النيابية من فرض توازنات جديدة مكنتها من اداء دور الشريك الكامل في صياغة الدستور وسمح لها بممارسة دور في الدفع بأحكام الدستور نحو الالتزام بالقيم الكونية لحقوق الانسان. وتمكنت بموازاة ذلك الاغلبية من فرض تصورها لعلاقة موضوعية بين القيم الحضارية المحلية وقيم الديموقراطية. وانتهى الصراع في بعده المتعلق بشكل نظام الحكم للتأسيس لنظام سياسي يعده البعض رئاسيا معدلا ويعده الاخرون برلمانيا معدلا الا انه ضمن في نهاية المطاف توازنا بين رأسي السلطة التنفيذية. ونجحت الاقلية النيابية في الدفاع عن استقلالية القضاء ومنعت محاولة الاغلبية فرض تدخل السلطة التنفيذية في اعماله فأسس الصراع لمكتسبات حضارية كان لها أثرها في احكام الدستور وغيرت من ملامحه في اتجاه ايجابي من وجهة نظر جميع الفرقاء. غير ان الصراع داخل المجلس لم يكن وحده المحدد لملامح الدستور فالصراع خارجه اثرى الدستور و انجح المصادقة عليه خصوصا في محطاته الختامية.

التوافقات خارج المجلس تنجح الدستور:
ادى اغتيال النائب بالمجلس الوطني التأسيسي الشهيد محمد البراهمي يوم 25 جويلية 2013 الى مقاطعة عدد من نواب المعارضة لأعمال المجل الوطني التأسيسي ومطالبتهم بحله بعد تقديرهم لفشله في مهامه وتحوله لأداة للحكم. وانقسم الشارع السياسي التونسي بين مطالب بإنهاء تجربة مؤسسات الانتقال الديموقراطي والبحث عن بدائل لها وبين مدافع عن الشرعية الانتخابية ومتمسك بمؤسسات الحكم. وبدت الدلائل تشير لقرب انحدار المثال التونسي الى مستنقع التناحر الداخلي بشكل يذكر بالمثال المصري. غير ان مبادرة مؤسسات المجتمع المدني الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية تونسية) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (المنظمة الممثلة للأعراف) والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية لحقوق الانسان اعلان مبادرتها للحوار الوطني انهت فتيل الازمة ومكنت مسار التأسيس من معاودة الانطلاق. التزمت المبادرة بالحفاظ على المجلس والمساعدة في انجاح عمله التأسيسي من خلال توفير آليات دعم له تتمثل في الحوار الوطني الذي يقوم على البحث على التوافقات. ومكنت جلسات الحوار الوطني من جمع الفرقاء السياسيين ومن توفير الفرصة لهم للتوافق حول الاحكام الدستورية التي فشلوا في التوافق حولها داخل المجلس. وكانت التوافقات التي وردت على النواب حصيلة العمل وثمرته بما جعل عددا من احكام الدستور تصاغ خارج المجلس لتحظى بتأييد أعضائه. وعلاوة على الحوار الوطني والتوافقات، لعب القضاة والمدافعون عن حقوق الانسان والإعلاميون دورا في تعديل احكام الدستور بفعل التحركات النقابية الاحتجاجية التي تصدت لأحكام كان يمكن ان تؤدي لتحويل الدستور الى اداة لإعلان المبادئ دون ضمان حماية تنفيذها.
ويتبين مما سلف ان الحوار والوفاق بعد الصراع كان من صاغ فعليا أحكام دستور ينسب للمجلس الوطني التأسيسي الا انه كان في واقعه نتيجة لحراك اجتماعي دافع عن تصورات وتوصل لتوافقات حولها وهذا ما يميز فعلا دستور الجمهورية الثانية.
 
  للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني