استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، نعم ولكن ليس الآن


2014-01-02    |   

استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، نعم ولكن ليس الآن

هي دعوة بدت طوباوية حين أطلقها حقوقيون هنا وهناك في زمن كانت فيه السلطة التنفيذية هي الجحيم بتعبير سارتر، بٌعيد الحراك المجتمعي والقضائي تبلورت الدعوة في شكل وثيقة قدمها نادي قضاة المغرب ومهرها بتوقيع مئات القضاة. وفي خضم جلسات ما سُمّي بالحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، فوجئ الجميع بأن من يدفع بهذه الدعوة التقدمية هم عتاة المحافظين داخل الجهاز القضائي وكبار رجال النيابة العامة ممن كانوا يصابون بالزكام بمجرد أن يعطس الجالس في كرسي الوزارة بزنقة المامونية بالرباط؛ حدث كل ذلك في وقت أعلن فيه وزير العدل أنه أجرى مراجعة فكرية عميقة مع نفسه أفضت إلى تخليه عن عقيدة استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية ولو مؤقتا، حتى قيل إن القضاة الواقفين الذين خالفوا رئيسهم التسلسلي على غير العادة، إنما أوحى لهم موحي أو إنهم يخدمون أجندة معينة.
يبرر دعاة الاستقلالية العضوية موقفهم بالممارسات التي كانت تحدث في السابق، والضغوط التي كان يتعرض لها قضاة النيابة العامة. فهم كانوا يتلقون التعليمات من وزارة العدل ومن جهات أخرى تتجاوز هذه الوزارة، ويزيدون أن قضاة النيابة العامة جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية، وينبغي أن يسري عليهم ما يسري على قضاة الأحكام. في المقابل، يرى دعاة التبعية العضوية لوزارة العدل أن النيابة العامة في ماهيتها جهاز تابع وفوق ذاك فهي خصم يحتكم في الأخير إلى قضاء الحكم شأنها شأن باقي الخصوم، لذا حصنت التشريعات المقارنة قضاة الحكم دون قضاة النيابة العامة ضد مبدأي النقل وتلقي التعليمات الرئاسية. ومحاججة أسانيد الطرفين لم تعد ذات أهمية عملية بعدما انتصر رأي الأغلبية وأوصت الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة بفصل ارتباط النيابة العامة بوزير العدل وجعلها تابعة للوكيل العام لدى محكمة النقض.
لكن إذا طرحنا جانبا آراء رجال القانون الخاص التي تتحرك دائما في نطاق النظرة الوضعية الضيقة، يسرّ بعض فقهاء القانون الدستوري أن هذه الخطوة لا تعبر عن تأويل ديمقراطي لدستور 1 يوليوز 2011 كما عبرت عن ذلك الإرادة الملكية نفسها. ففي الوقت الذي نحى فيه الدستور نهج تقوية صلاحيات السلطة التنفيذية في أفق بلورة حكومات قوية ومسؤولة، ينزع الإجراء الجديد من الحكومة أهم آلية لفرض تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد ألا وهي حرمانها من سلطة المتابعة. وقد يُرد على هذه المؤاخذة بأن نتائج الحوار كرست قيام وزير العدل بتبليغ السياسة الجنائية كتابة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، لكننا نخشى أن يكون هذا المقتضى قد ولد ميتا. فالسياسة الجنائية في عمقها إجراءات توجيهية عامة ترسم سياسة الدولة في مجالي التجريم والعقاب ولا تمتد إلى حالات أو ملفات بعينها، لكن أحيانا تستجد حالات تهم الرأي العام والمجتمع كله وتستلزم التعاطي الآني. ثم هب أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بٌلغ بالسياسة الجنائية ولم يتقيد بها، فما الذي يمكن لحكومة أن تفعله وهي لا تملك سلطة تعيينه ولا إقالته؟ وقبل هذا وذاك إلى أي حد تلزمه مقتضيات السياسة الجنائية المبلغة إليه من طرف الحكومة وهو يملك سلطة أخرى خطيرة تطلق يديه اسمها سلطة ملاءمة المتابعة.
سنترك كل هذه الأسئلة للممارسة لتؤكدها أو تكذبها، لكن بعد أن أصبحت الاستقلالية اختيارا مكرسا، يجدر بالجميع أن يفكر منذ الآن في كيفية تنزيلها على أرض الواقع. والتنزيل المنشود لا يعني نقل ملفات وطواقم مديرية الشؤون الجنائية والعفو من عمارتها الحالية بقصر المامونية إلى جناح النيابة العامة بمقر محكمة النقض بحي الرياض المكتظ أصلا، ولكن التنزيل الحقيقي يقتضي التفكير العميق في كيفية التجسيد الكامل للاستقلالية ليس عن السلطة التنفيذية مجسدة في الحكومة وحدها، وإنما الاستقلال الفعلي والتام نحو الدولة العميقة بكل تجلياتها.
يدور قطب الرحى في التنظيم الجديد حول شخصية محورية هي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض. وقد تباينت الآراء حول طريقة اختياره وانشطرت بين أنصار الانتخاب والتعيين. وتفرض النزاهة الفكرية الإقرار بأن المغرب لم يصل بعد إلى مستوى يسمح بمثل هذا الانتخاب. فالانتخاب الشعبي كما يجري به العمل في أمريكا الشمالية، سيكون كارثيا بكل المقاييس لأن أي انتخابات تجري في المغرب تبقى نسخة كربونية رديئة من أم المهازل التي تشهدها الانتخابات الجماعية والبرلمانية؛ والانتخاب من طرف القضاة وكما تطالب بذلك الجمعيات المهنية لا يقل سوءا؛ لأن الانتخابات المهنية للقضاة ظلت وإلى اليوم محكومة بالولاءات الأثنية والقبلية وتبادل المصالح، ولم يستطع القضاة أن يحملوا إلى مواقعهم التمثيلية نخبا قادرة على تجسيد استقلال السلطة القضائية. يبقى نظام التعيين مهضوما في هذه المرحلة، خصوصا أنه سيتم من طرف الملك الذي كرسته المادة 107 من الدستور على أنه الضامن لاستقلال السلطة القضائية.
بعدها يأتي توجس آخر؛ فكثيرون يتخوفون من أن يتغول صاحب هذا المنصب (الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض) على القضاة ويطلق يديه في الرقاب والعباد دون حسيب ورقيب خصوصا أنه يٌسمى لأمد غير محدد وليس مطالبا بتقديم الحساب لأية جهة خاضعة للمحاسبة السياسية. ولا نشاطر هذا التخوف، لأننا نعتقد أن هذا الشخص صار مع التنظيم المرتقب هو القاضي الأول المطلوبة رأسه في المغرب، وليهيئ الساحة المقابلة لمحكمة النقض التي سيتقاطر عليها آلاف المتظاهرين كل عام مؤطرين من الصحافة المستقلة ومن فعاليات المجتمع المدني للتظاهر ضد البيدوفليا والترامي على أملاك الغير وكل مظاهر الحكرة القضائية. فمهما كانت استقامته وتجرده، فكيف له أن يأمن حماقات أو تواطؤ الآخرين، إن الرأي العام صنع فعليا في المغرب ولم يعد رهين إرادة أحد وهو المحاسب الأكبر اليوم في ظل انتكاس دور رجل السياسة للأسباب المعلومة.
بقي السؤال اللغز المحير وهو عن حدود الاستقلالية المرتقبة للنيابة العامة عن السلطة التنفيذية، وهل هي استقلالية جامدة أم مرنة؟
في التنظيم الحالي الآيل للزوال، كثيرا ما يتخفى رجل القضاء (ممثل النيابة العامة) وراء تعليمات رجل السياسة (وزير العدل) الذي قد يتلقى الضربات عنه اعتبارا لمسؤوليته السياسية، لكن في التنظيم المرتقب سينكشف الغطاء عن القاضي الذي سيصبح في فوهة المدفع. عمليا، القضايا الروتينية لا تثير إشكالا في اتخاذ القرار وتنفيذه، لكن كل الخطورة تكمن في القضايا الكبرى: قضايا الرأي العام. فالمطلوب من الوكيل العام للملك وهو يعطي تعليماته أن يتميز بقوة التنبؤ la force de prévisibilitéوهي حاسة قلما يتمتع بها القضاة في العالم كله، لأن القرار قد يعطي عكس المقدر عند اتخاذه، فالذين أدرجوا مثلا اسم مغتصب الأطفال دانييل كالفان في لائحة العفو الملكي لم يقدروا فيه إلا اعتبارا واحدا هو مجاملة دولة صديقة وجارة، لذلك جاء رد فعل الرأي العام عنيفا وعكس المنتظر وهو خطأ في قوة التنبؤ وفي التقدير.
إن المهمة جسيمة، وفي خضمها يجدر بكل مهتم أن يتساءل: هل سيترك الوكيل العام للملك وحيدا في جزيرته المعزولة بمبنى محكمة النقض بحي الرياض أم أنه سيعمل على ربط جسور التشاور مع جهات معينة أو بالأحرى ستفاجئه هذه الجهات في عقر مكتبه بالتوجيه إذا وظفنا اللفظ الديبلوماسي أو بالتدخل إذا استعملنا اللفظ الفظ؟
ثمة أربع سيناريوهات محتملة:
السيناريو الأولوهو المثالي ومؤداه أن يصم الوكيل العام للملك آذانه في وجه كل التوجيهات معتبرا نفسه المسؤول الوحيد عن جهاز النيابة العامة بالمغرب، والسيناريو ممكن التحقق إذا قٌيض له أشخاصا قادرين على ذلك، وفي تجربة النائب العام بمصر في بعض مراحلها التاريخية إسوة لنا في المغرب.
السيناريوالثاني أن يتلقى الوكيل العام للملك التعليمات الهامة من خلية تنتصب بالديوان الملكي ما دام أنه يستمد سلطاته من الملك ويعتبر مسؤولا أمامه باعتباره الضامن لاستقلال السلطة القضائية، والأكيد أنه قد يصبح للرجل مخاطب ظِلّ في الديوان الملكي، لكن خلية تنسيق تبقى بعيدة الاحتمال لأنها قد تحرج المؤسسة الملكية لما تحمله من شبهة التأثير على السلطة القضائية.
السيناريو الثالثيستمد مشروعيته من أن فصل السلطات في النظم الحديثة لم يعد فصلا جامدا بل هو فصل مرن تتعاون في نطاقه السلط الثلاث في الدولة. وعليه يمكن أن تمتد جسور تعاون ناعمة بين الوكيل العام للملك والحكومة في إطار تنفيذ السياسة العامة للدولة، وهذا السيناريو مستبعد وسيعارضه بشدة كل الذين جاهدوا لإخراج السلطة التنفيذية من الباب درءا لعودتها من النافذة.
أما السيناريو الرابع فيقول به المتشائمون الذين يعتبرون أنه ما دامت لم تتبلور إرادة صريحة في ترك القضاء يشتغل بعيدا عن مختلف التأثيرات، فإن الوكيل العام للملك سيظل رهينة للدولة العميقة بكل أطيافها كما كان وزراء العدل من قبله. وتاليا، ستسعى الدولة العميقة بكل ما أوتيت من قوة ألا يحمل إلى هذه المؤسسة إلا الأشخاص القادرون على تجسيد الاستمرارية.
إن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية تظل في جوهرها فكرة رائعة، ولو لم تطرح في الظرفية الراهنة لأدركتها وفرضتها سنة التطور يوما، لكن في المرحلة الحالية من صيرورة تطور القضاء بالمغرب لا ينبغي أن نغفل حقيقتين جوهريتين:
أولهماأن قضاءنا يعيش مرحلة انتقالية شديدة الحساسية والتحول نحو العدالة المنشودة لم يقع بعد لأن الإرث ثقيل؛
والحقيقة الثانية أن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية هو إجراء جذري وراديكالي بكل المقاييس. والمعلوم أن الإجراءات الجذرية الكبيرة غالبا ما لا يحالفها النجاح عندما تأتي في المراحل الانتقالية التي تستدعي التدرج والتوافق إلى حين إعداد التربة المناسبة لاستقبال البذرة الجديدة، هي عقيدتي وقد تبدو نشازا في خضم الإجماع، لكنها تبقى رأيا لا ألزم به أحدا، ومن يدري فقد يكذب الماء الغطاس على رأي المثل المصري السائر.
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني