نكره الفساد الذي يكبر فينا


2019-09-09    |   

نكره الفساد الذي يكبر فينا

بدت تونس غداة ثورتها، كما لو أنها ساحة لمحاكمة الفساد الذي كان سائدا فيها من قبل. شبابها في الساحات العامة يصرخ عاليا ضد الفاسدين، منابرها الإعلامية تحدث الناس عن الفساد الذي دفعهم للحسم في النظام السابق. مؤسساتها تتنافس في إعلان نجاحها في التخلص من الفاسدين وفي كشف ملفات فسادهم التي ستكون سندا للمحاسبة. سياسيوها يحدثون الناس عن الأموال التي نُهبت وهُرّبت خارج تونس ويبشرونهم بقرب استعادتها وتوظيفها في تنمية تقضي على البطالة وتحقق الرفاهة. ثماني سنوات بعد ذلك، كشفت استطلاعات رأي متعددة عن قناعة عامة بكون الفساد استشرى أكثر رغم حديث اجتثاثه[1].

لم تستعد تونس أموالها المنهوبة رغم أنها بذلت كثيرا من الجهد في سبيل ذلك. ويعود فشلها هذا في جانب هام منه لكون الدول الغربية التي صفّقت لتونس في انتصارها المبدئي على حكم الفساد، لم تشأ أن تتنازل بسهولة عن مال فاسد وردها من تونس وغير تونس وضُخّ في اقتصادها، فتشددت في اشتراطاتها. ولكن من أسباب الفشل أيضا أنّ من تولوا العمل على الملف لم يحترموا عن قصد أو غير قصد مقتضيات المحاكمات العادلة التي كانت شرطا لقبول الآخرين بخلاصة عملهم. لم يحاسب فاسدو ما قبل الثورة وباتوا بفعل نفوذهم المالي شخصيات نافذة يتبارى السياسيون في خطب ودهم وفي تبرير ما صدر عنهم من خطايا سابقا. ووجد بعض هؤلاء في نفسه الجرأة لإعلان نفسه شخصية سياسية تملك برنامج إصلاح لما يقول أنه رفاه كان موجودا وأفسدته الثورة.

أفل نجم بن علي وأسرته وأصهاره ومن كانوا مقربين منه في عالم الفساد، فغاب ما كان ينسب لهم من ضغط على أصحاب الأعمال لتحصيل شراكات في المشاريع الناجحة ولم يعد من أثر لما كان معروفا عنهم من فرض لعمولات على كل صفقة عمومية يدفعها من يروم الفوز بها. لم يؤثّر هذا الغياب في سماء الفساد حيث حضرت نجومٌ جديدة تناثرت هنا وهناك مؤكّدةً عزمها على وأد حلم الإصلاح. أدّى فرار أصهار بن علي، ونزع السلطة عمن بقي من آله في تونس لأن أضحى المالكون الواجهة لشركاتهم مالكين لها بحكم القانون والواقع. ودفع هؤلاء خوفهم من مصادرة ما غنموا في صورة السؤال عن مصدره لأن انخرطوا في الحياة العامة تمويلا ونشاطا بما حوّلهم لأشخاص ذوي نفوذ. كما آلت حملات التطهير التي شهدتها المؤسسات التونسية غداة الثورة وكان سلاحها كلمة “إرحل” لفراغ في مواقع القرار لم يكن للقوى الصاعدة كوادر مؤهلة لسدّه. وقد انتهز هذه الفرصة أشخاص اعتادوا التكيف مع التغييرات ليعتلوا مواقع القيادة رغم نقص الكفاءة الضرورية لديهم. اختزل هؤلاء المسؤولية في السفريات الخالصة التي باتت موضوع الخصومة بينهم، والأمر الذي يتبارون في تجميع ما أمكنهم منه ووجاهة اجتماعية تدرّ منافع عينية وربما مالية. وكان شرط استدامة النعيم الذي باتوا فيه اتخاذ قرارات تخدم مصالح أصدقائهم ومن أنعموا عليهم بتوصية التعيين من دون دراسة أو معرفة بالآثار التي تترتب عنها. فتفشّت أكثر فأكثر ظاهرة المحسوبية لتكون من أوجه الفساد الأكثر شيوعا.

انتهز في الجانب الآخر من الصورة المتحركة طيف من صغار الموظفين والإطارات الميدانية حالة التسيب وضعف أجهزة الدولة ليجنوا بدورهم عمولات باتت شرطا لكل عمل يطلب منهم إنجازه. كانوا يطالبون بالرشوة من دون حرج أو خوف، لثقتهم الكاملة في كون زملاؤهم في العمل سيتصدون لكل محاولة هدفها منعهم من تحصيل ما بات حقا لقطاعهم. استحال الفساد الصغير عنوانا للمرحلة يبدّد لوحده سنويا ما يقارب 450 مليون دينار من أموال الأفراد والمؤسسات ويعطّل كل تصورات الإصلاح الإداري والمؤسساتي. وهنا، وجب التنبّه لكون التفشي السرطاني للفساد الصغير لم يكن يعني بحال من الأحوال أنه احتلّ مكان الفساد الكبير. كان قد ساد اعتقاد غداة الثورة أن أصهار بن علي المصطلح على تسميتهم” الطرابلسية” هم الفساد وبذهابهم ذهب. وطبعا، لم يكن ذلك صحيحا لكون فساد ما قبل الثورة كان أكثر تعقيدا من اختزاله في مجموعة أفراد ولما تبين بعد الثورة من بروز سريع لفاسدين جدد راكموا الثروة بفضل السلطة.

شقّت الخلافات أول لجنة استحدثت في تونس الثورة لمكافحة الفساد. وكان أن تصارع أعضاؤها فتبادلوا التهم بابتزاز أصحاب الأعمال المورطين في فساد ما قبل الثورة. كما شقت خلافات مماثلة مجموعة ال 25 والتي كانت أول ائتلاف مدني غايته محاسبة الفاسدين. وكان أن كشفت هذه الخلافات عن اتهامات مماثلة بالابتزاز. بعد أشهر من هذه التطورات المؤسفة، دُعي الشعب التونسي لانتخاب أعضاء مجلس وطني تأسيسي يؤسس لجمهورية الثورة. رافقت حينها العملية الانتخابية شبهات فساد، منها شراء أصوات الناخبين وسوء إدارة هيئة الانتخابات. وأسفرت عن تشكيل نيابيّ شقه سريعا حديث عن سوق داخله يباع فيها الانتماء الحزبي للنواب بمقابل مالي محدد سلفا. ويغيب فيه النائب عن المجلس لانشغاله بالتنقل الخالص الأجر بين الإدارات بصفة واسطة خير لفائدة صديق. بعيدا عن السياسة والساسة، علقت آمال على العدالة الانتقالية التي كان يظن أن تكون معولا يفتك بمنظومة الفساد. ولكن مرة أخرى، كشفت خصومات أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة عن شبهات فساد ومحسوبية حكمت على المسار بالفشل.

عصف ساسة البلاد ونخبها دون طول انتظار بنقاء قيم الثورة وفرضوا لهم حقا في أن يكونوا ورثة للطرابلسية في فسادهم. ولم يكن توالي الانتخابات وتغيّر الفائزين فيها في لونهم وشعاراتهم سببا لتخفيف حدة الرغبة في الإثراء الفاسد. وأنسى فساد ما بعد الثورة والحديث عن تطور ثروات الساسة الفلكي وبروز المهربين والمتهربين من دفع الجباية في ساحة القرار فساد من قبلهم، وفرض أن يكون حديث مكافحة الفساد شعارا بل خطابا، تتنافس المعارضة والسلطة في استعماله في حملاتها الانتخابية المبكرة طلبا لإغراء البسطاء ممن حلموا يوما بتونس من دون فساد. هذا دون الحديث عن الجهد التقني لوضع تشريعات متآلفة مع الممارسات الدولية لمكافحة الفساد، وهي تشريعات قلما تجد طريقها إلى النفاذ.

تتهم اليوم الأحزاب الحاكمة المعارضة التي لا تفوّت مناسبة دون طرح ملف الفساد بالشعبوية وهي تعتبر حديثها عن مسؤولين بعينهم وعن معاملات محددة من قبيل التشهير الذي ينم عن غياب ضوابط أخلاقية تنظم الممارسة السياسية. بالمقابل، تعتبر المعارضة حرب الحكومة على الفساد وما نجحت الأغلبية النيابية في تمريره من قوانين تحت عنوان تخليق العمل السياسي وتحصينه من الفاسدين، معارك فاسدة غايتها تصفية الخصوم السياسيين.

تظهر تونس هنا كما لو أنها هُزمت في معركة الفساد قديمه وجديده. ويظهر الفساد الذي كان طلب دحره أول الثورة ثابتا ومشتركا، قد تحول إلى مشترك قيمي. قد تكون هذه الصورة صحيحة في جانب هام من تفاصيلها لكنها حتما لا تختزل المشهد. فذات تونس التي يستفحل فيها الفساد تبدي مقاومة له عنوانها الأساسي شبابها الذي اختار أن تكون مكافحة الفساد معركة مستقبله.

أدّى المجتمع المدني التونسي دورا رئيسيا في صياغة وفرض تمرير قوانين تحارب الفساد، لعل من أهمها قانون النفاذ للمعلومة. واستعمل ذات المجتمع تلك القوانين ومناخ الحريات ليطور الوعي العام بحيوية الحرب ضد الفساد ويعمل على فرض محاسبة الفاسدين. ويحسب لهذا المجتمع قيادته المثالية لحملة “مانيش مسامح” التي كانت من أبرز التحركات الشعبية في تونس بعد الثورة والتي كان هدفها منع كل محاولات التطبيع مع الفساد ونجحت في ذلك إلى حدّ بعيد.

قبل ثماني سنوات، أسقط شباب تونس بثورتهم نظاما فاسدا كان يظن أنه لن يسقط أبدا وبعدها يعود ذات الشباب لصناعة أمل جديد في انتصار جديد وحاسم لتونس في مواجهة الفساد بما يكون معه النجاح في الحرب على الفساد حلما ممكنا لا يحققه جميل خطاب الساسة بقدر ما يبنى بفعل مثابر حالم لا يقدر عليه إلا من اعتقد بعدالة المعركة ضد الفساد.

  • نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:

نكره الفساد الذي يكبر فينا


[1] أظهرت نتائج استطلاع الأفرو باروميتر لمدركات الفساد التي قدمتها مؤسسة  one to one بتاريخ 1 أكتوبر 2018 أن 67%  من التونسيين صرّحوا أن مستوى الفساد قد ازداد خلال سنة 2018 عما كان عليه سنة 2017. شمل سبر الآراء عينة مكونة من 1200 شخص.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني