نهر الغدير يهدر بملوثاته وبعشوائية الدولة: رعب سكان النهر الذين دُفعوا لاستباحته


2019-08-28    |   

نهر الغدير يهدر بملوثاته وبعشوائية الدولة: رعب سكان النهر الذين دُفعوا لاستباحته

"هذا النهر يواصل السير بغض النظر عما يحصل في الطريق وبأي طريقة تهبّ الريح…" يكاد هذا القول للشاعر والمغني الاميركي بوب ديلن في أغنية "I’m watching the river flow" ينطبق على نهر الغدير. فهو يواصل السير مودياً بحياة الناس ونظام سكنهم منتهكاً حرمة بيوتهم. وكأنه يتحدى الملوّثين والمعتدين وينتقم من الإهمال الرسمي الذي تغيب عنه الدراسات والمعلومات والمنعكس على مياهه السوداء. "مياه كانت قبل الحرب الأهلية عذبة نقية شفافة تروي أهل المناطق التي تمرّ بها وتسقي بساتين الزيتون والبقول الشاسعة التي تغنّى بها الكّتاب" كما يقول الحاج نمر (64 سنة) الذي وُلد في كنف بساتين الشويفات – العمروسية حيث كان أبوه الفلسطيني الآتي من عكا مزارعاً يعمل بالفاعل في أراضي وقف الروم الأرثوذوكس. أما اليوم، فصارت "المياه كنزا نادرا نشتريه بالقارورات للشرب، وكل بناية أو بيت لديه بئر ارتوازي لحاجيات المنزل لكن مياه الآبار صارت مالحة وطعمها مزعج للغاية وقيل أنها ملوثة أيضاً".

 

نهر الغدير وعشوائياته

يعبر نهر الغدير المنطقة الغربية من قضاء عاليه وقسما من قضاء بعبدا وقسما من قضاء الشوف وتصب فيه أنهار فرعية عدّة تتشكل في فصل الشتاء، وهو يجتازها كلها ليصل في نهاية المطاف إلى البحر. تبلغ مساحة حوض نهر الغدير حوالي 4000 هكتارا. تحدّ النهر من الشمال مناطق برج البراجنة والمريجة والليلكي والحدث وبعبدا واليرزة والجمهور وعاريا والكحالة وعاليه؛ من الشرق مناطق عاليه وعين الرمانة والقماطية وسوق الغرب وعيتات وشملان؛ من الجنوب مناطق شملان وبشامون ودير قوبل وحارة القبة والشويفات؛ من الغرب مناطق صحراء الشويفات وحي السلم وتحويطة الغدير وبرج البراجنة.

وتاريخيا، وإلى حين بدء النشاطات العمرانية في محيطه، كان النهر محاطا بأراضٍ زراعية شاسعة، كان معظمها تابعا لوقف الروم الأرثوذكس. 

في ثمانينات القرن العشرين، شهدنا بدء تطور الحركة العمرانية في المنطقة المحيطة بالنهر وقد توسّعت خلال السنوات اللاحقة لتشكّل اليوم نسيجاً عمرانياُ عشوائياً متعديا على الأملاك العمومية والخاصة، لتكون ما بات يعرف باسم مجمع نهر الغدير، وهو المجمع الذي يحدّه معمل كنفاني للرخام شمالاً وبلدة الشويفات جنوباً وكلية العلوم شرقاً، ومعمل النفايات في العمروسية وحدود المطار غربا. وهو يتبع إدارياً لبلدية الشويفات وعقارياً للعمروسية.

أول الوافدين إلى هذا التجمع هم من قرية يونين البقاعية وعملوا في الأراضي الزراعية المحيطة بالنهر. لجأ في ما بعد إلى التجمع أهالي من قرى جنوبية (مثل مارون الراس وشبعا وميس الجبل والطيبة…) إثر الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان وعملوا في المصانع في الشويفات. ومع تضاؤل فرص الوافدين للعودة إلى قراهم، تغير النمط العمراني للمساكن، وتحولت بيوت الأكواخ المشيدة بمواد مؤقتة (خشب وإترنيت) إلى مساكن استخدمت فيها مادة الباطون الصلبة والدائمة.

أدى الزحف العمراني العشوائي الذي شهده التجمع إلى تغيير هذه المعالم الطبيعية حيث تم الإعتداء على الأراضي الزراعية الخاصة لتقوم محلها المباني المكتظة بسكانها. يبلغ عدد السكان في المجمّع حوالى 120 ألف نسمة، بحسب هشام ريشاني مسؤول لجنة الأشغال في بلدية الشويفات، ولكنه "يبقى رقماً غير رسمي بل تقديري". لكن في دراسة لمجلس الإنماء والإعمار نشرت في 2005، قُدّر عدد السكان بين 10 آلاف و15 ألف نسمة، وهو الرقم الذي يبدو الأكثر قربا للحقيقة في ظل القول بأن عدد الوحدات السكنية يبلغ في 3000 وحدة سكنية. بينما أكد رئيس اتحاد بلديات الضاحية محمد درغام لـ "المفكرة" أن عدد سكان مجمّع الغدير والليلكي وحي السلم مجتمعة مئة ألف نسمة.

 وينقسم التجمع إلى ثلاثة أحياء أساسية: حي كنعان أو بعلبكي، حي الزهراء، حي العرب أو الأرامل.

نتيجة كل هذه العوامل، يعتبر تجمع نهر الغدير اليوم منطقة منكوبة بيئياً وإجتماعياً وإقتصادياً.

سادت في هذا التجمع منذ نشأته وحتى ثمانينات القرن العشرين المساكن المبنية من الإترنيت ثم تحولت غالبيتها، مع مرور الزمن، إلى مساكن من الباطون. ويمكن التمييز بين نمطين من المساكن بحسب دراسة مجلس الانماء والاعمار:

النمط الأول: وحدات سكنية مستقلة تتواجد غالبيتها على ضفاف نهر الغدير. هذا النمط من المنازل هو مشابه إلى حد كبير للنمط الريفي، حيث يلاحظ عند مدخل المنزل وجود ساحة كناية عن "سطيحة" إضافة إلى ساحة  "شبه خضراء" في الخلف تربى فيها الدواجن. يتألف هذا النوع من غرفتين إلى 3 غرف.

النمط الثاني: مبانٍ تضم مجموعة من الوحدات السكنية. وهذا النمط هو أقرب إلى الطابع العمراني المديني ويتواجد في محيط النهر. تتضمن المباني ثلاثة إلى أربعة طوابق ومتوسط عدد الشقق السكنية فيها هو حوالي ثماني شقق في كل مبنى. لا يتعدى عدد الغرف في كل شقة الغرفتين دون توابعها. تتفاوت خصائص المباني والمساكن بين أحياء التجمع الثلاثة وهي تباعا حي كنعان والذي يضم 55% من الوحدات السكنية الكائنة في المجمع، وحي الزهراء والذي يضم 30% منها وحي الأرامل والعرب الذي يضم 15% منها.

ويتراوح عدد المباني في التجمع بين 250 و300 مبنى، تطغو عليها وجهة الاستخدام السكنية  (90%)، ويقدر عدد المساكن فيها ب 3000 وحدة سكنية، بحسب دراسة مجلس الإنماء والإعمار. بينما يؤكد الريشاني أن عدد الوحدات السكنية المخالفة على ضفاف النهر مباشرة هي 117 وحدة يتراوح معدل السكن فيها بين 7 و8 أشخاص.

 

ويسيل النهر عابقا بملوثاته

في حوض نهر الغدير، ، تجد نفايات صلبة وسموم المصانع والمعامل ونفايات المنازل والمجارير. لكنه رغم كل هذه "الحمولة الثقيلة التي حوّلت لون مياهه الشفافة إلى داكنة سوداء تنبعث منها روائح كريهة تخنقنا صيفاً وتغرقنا شتاءً" كما يقول علي (48 سنة) أحد القاطنين على ضفة النهر، يواصل الغدير السير. ويضيف علي "غالباً ما ينتقم منا ويفيض علينا مقتحما بيوتنا ومدمّرها أحيانا، في فصل الشتاء، مكبّداً أهالي الحي الفقراء خسائر مالية وجسدية (جراء الأمراض التي يسببها الطوفان الملوّث) وأحياناً أرواح الأطفال كما حصل في 2013 يوم شهد الغدير طوفانه الأعظم وقبل أن تتنشط بلدية الشويفات وتلتفت إلينا قليلاً". (نعم في احد الفياضانات توفي طفل جرفته المياه بحسب الارشيف)

في الطريق نفسها التي تعبر وادي شحرور وكفرشيما والشويفات والعمروسية – حي السلم إلى البحر الأبيض المتوسط، "تزيّن" مياه النهر أكياس البلاستيك المزركشة الممتلئة بالنفايات المنزلية وقوارير المشروبات الغازية وبعض الأقمشة والأخشاب وبقايا الأثاث… و"تعطّر" هواءه روائح نتنة لا مثيل لها تتصاعد من قساطل المجارير التي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ممتدة من الوحدات السكنية مباشرة إلى مياه النهر. لا تنكر أم محمد صوان أن بيتها مبني في حرم الأملاك النهرية، ضاربة كفاً بكف وهي تقول: "نقر بالخطأ لكن ليس لدينا بدائل، الإيجارات خارج تجمع الغدير نار وشاعلة، ثم أننا هنا محاطون بأهلنا ولا نشعر بالغربة". لكن جارتها أم حسين التي تعترف بكبّ نفاياتها في النهر تؤكد أنها تنتظر أي مكافأة مالية لتخرج من "هذا السجن النتن"، مضيفة "أولادي كلهم مرضى بالحساسية كلما تبدّل الطقس تسوء حالتهم، فهل هذا بسببنا أم بسبب المعامل أم بسبب الدولة التي لا تقوم بهامها". وتردف: "الدولة تدفع ملايين الدولارات لتمويل مهرجان بعلبك وتزيين وسط بيروت ولا تدفع فلساً لتنقذنا من هذه المساكن وتعيدنا إلى قرانا في بعلبك". ويشرح محسن الذي يعيش مع زوجته وأمه وأخته وأربعة أطفال في غرفتين أشبه بقنّ دجاج: "نحن ننتظر منذ سنوات تعويضات تُخرجنا من هنا، إنما مشروعنا معلّق. لم تعد الحالة تحتمل، غالبية الناس تموت بالسرطان ولا ننعم حتى بنور الكهرباء، والمجارير تطمّنا، حتى النفايات ليس لها مستوعبات كي نضع الأكياس فيها والطرقات ضيقة لا يمكن لسيارة البلدية أن تمر بين البيوت للمّ النفايات".

 في الطريق تتغيّر ألوان "الغدير" وتتنوع جراثيمه وسمومه بحسب المنطقة التي يمرّ بها و"سطوة" دباغاتها ومصانعها (حولى 250 معملا ومصنعاً من منبعه إلى المصب). وهو يضيق ويتّسع بحسب نسبة التعديات العمرانية على حرمه (أملاك نهرية). ففي سبعينيات القرن العشرين، كان عرض النهر 14 متراً ثم تقلّص ليصل إلى 3 أمتار تقريباً، مع ازدياد حركة البناء العشوائية من دون أي تخطيط مدني حتى اكتظت ضفّتا النهر بالوحدات السكنية.

إذاً، النهر يواصل السير منتقماً ممّن حوله ، "مُلوِّثاً معه الأرض والبيوت والمزروعات والبحر"، بحسب تقرير لمصلحة البحوث العلمية الزراعية صدر في العام 2018. وقد أظهر مسح علمي لمياه الغدير تحدث عنه رئيس المصلحة ميشال إفرام  لـ "المفكرة" عن وجود 3 أنواع من التلوث في نهر الغدير: جرثومي، كيميائي، ومعادن ثقيلة، نتيجة المجاير والنفايات الصناعية. وأفاد إفرام أن نسبة التلوث وصلت إلى 100% في العينات وتضمنت الأنواع الثلاثة. ويقول إفرام إن تفاقم المشكلة يعود إلى شحّ المياه، حفر الآبار العشوائية (التي أصبحت مالحة اليوم كما يقرّ الحاج نمر)، تغيّر المناخ، أزمة النفايات العامة في البلد، إضافة إلى النفايات المنزلية والصلبة. ويردف إفرام أن المناطق الأكثر تلوثاً في لبنان عامة هي ذات الكثافة السكانية والصناعية ونهر الغدير نموذج لذلك، إذ تصب فيه المياه المبتذلة (المجارير) من عاليه إلى بيروت. ويحيلنا كلام إفرام، إلى الخطر الذي باتت تشكّله مياه الغدير على كل ما تلمسه بما فيهم البشر والبيوت والأرض والزراعة والصحة، خصوصاً عندما تفيض وتدخل المنازل. وهو ما يجعل الأهالي "يصلّون مع كل نقطة مطر كي لا تجرف المياه بيوتهم أو تُغرق أطفالهم"، كما تفيد سكينة التي تضرّر بيتها في حي الأرامل مع الفيضانات السنوية التي تجددت في كانون الثاني 2019، رغم حملات تنظيف البلدية لمجرى النهر التي تحدث عنها الريشاني رافضاً الاعتراف بأي فيضان هذا العام.

لكن إفرام راح أبعد من ذلك، مطلقاً صرخة عبر "المفكرة": "يجب إعلان حالة طوارئ مائية وبيئية بأسرع وقت ممكن"، شارحاً أن "وضع التلوث في جميع الأنهار في لبنان ازداد سوءاً بعد مسح 2017- 2018، والخطورة أن نسب التلوث العالية وصلت إلى الآبار والينابيع.

 

… من النهر إلى البحر

يواصل نهر الغدير سيره ليصبّ في النهاية في البحر ناقلاً معه كلّ هذه الملوثات من الجبال إلى الساحل ، مُلحقاً الشاطئ اللبناني بمستويات عالية جداً من التلوّث بما فيها من معادن ثقيلة ومركبات سامة وديوكسينات ونيترات، بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومصلحة البحوث العلمية الزراعية و"محامون متحدون ضد الفساد – (متحدون)" الذين تقدموا بدعوى وشكوى قضائيتين في هذا الشأن في آذار 2019. الأولى أمام قاضي الأمور المستعجلة في عاليه رولا شمعون، والثانية أمام النائبة العامة البيئية في جبل لبنان غادة عون، وذلك على خلفية تلوث نهر الغدير أحد مسببي تلوث بحر بيروت وبيئتها وأحد مصدري الروائح الكريهة في محيط مطار رفيق الحريري الدولي، إضافة إلى مطمر الكوستابرافا.

طلب محامو "متحدون" في كلا المراجعتين "اتخاذ التدابير اللازمة والفورية لمنع تلويث البيئة ومجرى نهر الغدير بالنفايات والمياه المبتذلة سندا إلى أحكام قانون حماية البيئة رقم 444 تاريخ 29/6/2002، وإنزال العقوبات بالمرتكبين، باعتبار أن ما يعرف بنهر الغدير قد تحوّل إلى نهر من النفايات والقاذورات التي تجتاح الأحياء الآهلة بالسكان بكل ما تحويه من أوساخ وردم ومواد كيمائية وعضوية ترميها المصانع والمسالخ المنتشرة من الشويفات وصولا إلى حي البركات جنوبا، مرورا بعدد من الأحياء كحي كنعان وحي الصحراء وحي بعلبكي وغيرها، ما يجعل من النهر أكثر الأنهار تلوثا في لبنان.

 

سكان العشوائية من دون حماية ولا خدمات؟

 يواصل النهر السير ناشراً الأمراض مثل السرطانات والحساسية والربو والطفح الجلدي بحسب السكان الذين يدفعون ثمن تعدياتهم العمرانية وإهمال الدولة لهم وعدم معالجة الأسباب التي "قذفتهم" إلى هنا، أثماناً مضاعفة انعكست على حقّهم بالخدمات الأساسية (مياه، كهرباء، اتصالات، بنى تحتية، صرف صحي، تعليم، استشفاء) وعلى صحّتهم.

وفيما اشتكى عديد من السكان عن إهمال بلدية الشويفات لهم (والتي ليسوا من ناخبيها) يؤكد الريشاني أن ملف نهر الغدير يؤرق البلدية التي تسعى جاهدة مع أحزاب المنطقة (حزب الله وحركة أمل والحزب القومي) إلى محاولة إيجاد حلول بديلة على الأقل على صعيد الخدمات الخدمات العامة (تنظيف الطرقات والنفايات والصيانة). وحين نسأله عن آخر زيارة قامت بها البلدية لأي من الأحياء هناك   للمجمّع[JM1] ، يردّ الريشاني: "نحن نتولى التنظيف يومياً، لكن أحياناً لا يمكن لسيارة البلدية أن تدخل الأحياء الضيقة للمّ النفايات، فنضع مكبات خارجية على رأس الأحياء، والأهالي يتفقون مع موتوسيكلات كي يلمونها من أمام المنازل ثم يرمونها في المستوعبات الكبيرة في حيّ السلم ومجمع نهر الغدير، لكن معظم الناس لا تدفع بدلات البلدية".

 ويشير الريشاني أن التعديات على ضفاف نهر الغدير هي أصل المشكلة، وتبدأ من وادي شحرور (دباغات أوقفت بعضها وزارة الاقتصاد وبعضها الآخر مستمر في التلويث) ثم كفرشيما (مصانع ومعامل صخر وحجر) ثم الشويفات (تعديات سكن ومصانع). وقد "بدأت في الثمانينات مع الحرب في الجنوب، وغلاء الإيجارات في بيروت، وكل حرب تشهدها البلد يزيد القاطنون بيوتاً وطوابق ومباني"، كما يقول. أما ذروة "التعديات فهي في حيّ السلم – العمروسية – حي الأرامل، حيث نجد على ضفاف النهر جدرانا ومباني تصل إلى أربعة طوابق". أما "التعدي الأكبر فهو على أملاك وزارة الطاقة – أملاك نهرية".

وحول صلاحية هذه المباني، يفيد الريشاني أنها غير صالحة للسكن، "البلدية أعدّت كشوفات كثيرة عن عدم صلاحية المباني المتعدية على الأملاك النهرية وغيرها في مجمع نهر الغدير، فهي بنيت على أنها طابق ولا أساسات جيدة لها والمياه تغزو أساساتها". ولكن هل يُنتقص حق السكان في البنى التحتية والخدمات نتيجة التعديات؟" يجيب الريشاني: "التعديات تعيق عمل البلدية، لكن السكان يحصلون على الخدمات كلها رغم أنهم غير قانونيين، هناك أملاك خاصة لا يمكنني أن أتخطاها وهناك قوانين تحد من حصولهم مثلا على مياه الشفة والكهرباء والهاتف". من جهة أخرى، يوضح الريشاني أن البلدية تعمل على تفعيل البنى التحتية وإيصال المجارير إلى الشبكة الرسمية الداخلية التي تذهب بدورها إلى محطة تكرير الغدير الشهيرة، خلال أشهر. أما الآن "فالكل يدير مجاريره الى النهر ولا وجود لجور صحية في الحي". ويشرح "إذا كنا نريد تنفيذ هه الشبكة بحسب الخرائط، علينا هدم البيوت لا محالة، لكننا ننفذه بحسب أرض الواقع وليس بحسب خرائط وزارة الاشغال ومجلس الإنماء والإعمار". ويؤكد الريشاني أن البلدية باشرت الآن تنفيذ خطة مع وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار لفصل مياه الأمطار عن مياه الصرف الصحي من خلال شبكة تصل إلى محطات تكرير.

كلام الريشاني متفائل وهو ليس ظاهراً حتى الآن لمن يزور الحي ولا يُقنع السكان الذين يحلمون بتوسيع محطة التكرير الخيالية منذ 24 سنة، وجلّ طموحهم إيصال مياه الشفة إلى بيوتهم. لكن الريشاني يقول إن "مشروع البنى التحتية في الغدير ضخم ولا يزال قيد التنفيذ وهو يكلف أكثر من 200 مليون دولار من دون أي خطة شاملة رسمية".

تفاؤل ريشاني يوازي تفاؤل المهندس عاصم فيداوي مسؤول التخطيط القطاعي للمياه والصرف الصحي في مجلس الإنماء والإعمار، الذي أبشر خيراً بقرض أقرّه مجلس النواب في 2018 من البنك الأوروبي لإستكمال شبكات مياه الصرف الصحي في حوض الغدير. فيداوي الذي لا يعرف قناية حي الأرامل، يعوّل أيضاً على مشروع توسيع محطة الغدير وتطويرها الذي أقر أيضاً بتمويل من البنك الإسلامي. ويزيد المشروع سعة المحطة من 50 مليون متر مكعّب إلى 140 مليون متر مكعب، وهو ما يزيد قدرة المعالجة من مبدئية إلى معالجة أولية لتصبح المياه صالحة للاستخدام الزراعي. أما مشروع معالجة فيضانات نهر الغدير، فهو بدوره ينتظر تمويل "سيدر". هذه تبقى "مشاريع يُعوّل عليها، لكن لا تحل مشكلة السكن في تجمع الغدير والكل متفق على أن الحل يحتاج إلى قرار سياسي وتمويل ضخم"، كما يؤكد فيداوي.

 

أي مشاريع لمستقبل سكان النهر؟  

هنا على هذه الضفاف الرطبة التي يحظر قانونا البناء عليها، وجد الهاربون من الفقر والحرب مأمناً لهم منذ حوالي أربعين عاماً، وهم يزرعون الأرض وينامون في أكواخها. لكن هذا المأمن يشكل اليوم خطراً على الجميع. هو سكن غير لائق بل مُذلّ لأي إنسان ضمنت له شرعة حقوق الانسان حياة كريمة وسكناً مريحاً يؤمن له المياه النظيفة والهواء العذب وبنى تحتية ومساحات خضراء ويضمن له علاقات اجتماعية بمحيطه من الحي إلى المدينة إلى البحر.

تقول الباحثة والدكتورة في التخطيط العمراني في الجامعة الاميركية في بيروت منى فواز، أن "مشكلة السكن في تجمّع نهر الغدير ليست استثنائية، فالسكان القادمون من الريف هم جزء من أزمة يعاني منها لبنان من ستينيات القرن العشرين تقوم على أن الدولة لا تحمي قيمة الأرض الاجتماعية وأدوارها المتعددة، بل تتعامل معها كسلعة اقتصادية (عقار يُباع ويُشترى) نافية عنها جوهرها الأساسي كمادة لا يمكن للحياة أن تستمرّ من دونها". وتشرح أن "غياب سياسات الإسكان الرسمية في لبنان عامة، والتعاطي مع الأراضي من مُنطلق اقتصادي ونسيان وظيفتها الاجتماعية، عاملان ساهما في زيادة ظواهر التعدي على الأملاك الخاصة والأملاك النهرية والأوقاف وزيادة نسبة الاستثمار في العقارات المبنية من دون سند قانوني".

وبالنسبة لتردي العيش في تجمع نهر الغدير الكثيف سكانياً ولا إحصاء رسمي لتعداد سكانه الذين يرتفع عددهم سنة بعد سنة مع توسّع حزام البؤس في ضواحي بيروت، تشير فواز إلى أن الدولة اللبنانية بسياساتها العشوائية سلخت هؤلاء السكان وغالبيتهم من الطبقة الفقيرة عن مناطقهم بطريقة أو بأخرى ونفتهم إلى بقعة واحدة، تتعامل معهم كخارجين عن القانون ليس لديهم أدنى حقوق العيش. وكلما حلت حرب أو أزمة اقتصادية أو سكنية، كانت تزيد هذه المنطقة كثافة، فمن يحمل الفقير إلا الفقير الذي يشبهه؟ وما فاقم المشكلة، بحسب فواز، أن "الدولة صارت تُجرّم الفقر وتحاربه وبالتالي تحثّه بطريقة غير مباشرة على التبعية للأحزاب والاستزلام والزبائنية السياسية، إذ يبحث الفقراء عن الحماية". وتاريخياً، تؤكد فواز أن هذا الحي كانت تحميه قوانين العشائر والعائلات الأكثر نفوذاً خصوصاً من منطقة بعلبك، لكن بعد السبعينات انتقل النفوذ إلى الأحزاب السياسية التي تتبع قانون مصلحتها الخاصة". ويبقى الحلّ الأمثل كما ترى فواز، بتوطين سكان الحي وإعادة تموضعهم بشكل قانوني مع المحافظة على علاقاتهم وحياتهم الاجتماعية كي لا ينتقلوا إلى أماكن أخرى وينسلخوا عن يومياتهم وذكرياتهم ومجتمعهم، أو ايجاد خطة سكنية لتمليكهم في المنطقة في إطار قانوني. وذلك كما حصل في البرازيل حيث نحجت الدولة في إيجاد نظام وقوانين للمناطق العشوائية بعد منتصف سبعينات القرن العشرين وفقاً لتوصيات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN – Habitat 1). وقد  اعتبرت هذه المناطق حلاً لمشكلات السكن التي على الدول تحسينها.

 

أرقام عشوائية حول عدد السكان، لا داتا رسمية حول الصحة وحول تلوّث المياه ونسبة السرطانات، وعلى الوعد يا كمّون

ليس سهلاً أن تحصلي على "داتا" أو معلومات رسمية دقيقة بخصوص هذا التجمّع السكاني الكثيف، لا بشأن عدد السكان كما تبينا أعلاه ولا بيئية (نسبة التلوث في الهواء أو في المياه) ولا صحية ولا سكانية ولا معمارية، ولا حتى على صعيد البنى التحتية وشبكة المياه والطاقة. باختصار هذا ما خلص اليه من طرقت "المفكرة" بابهم في مؤسسات رسمية ومؤسسات خاصة مثل وزارة البيئة وبلدية الشويفات ومجلس الإنماء والإعمار ومديرة مركز حماية الطبيعة الدكتورة نجاة صليبا ومدير برنامج تغيّر المناخ والبيئة د. نديم فرج الله. فليس هناك بحسب صليبا أي دراسة أو بحث علمي عن مدى تلوث الهواء الذي يشغل الأهالي في تجمّع الغدير وأثره على صحتهم. ولا هناك أي فححوصات مخبرية دقيقة بحسب فرج الله، تقيس أنواع التلوث في المياه، معتبراً أن ما وصلت إليه مصلحة البحوث العلمية فيه شيء من التهويل وغير دقيق. ويؤكد فرج الله أن "قضية تجمع نهر الغدير بيئية سكنية، وهي عالقة ولا تُحلّ بسبب تعدّد الصلاحيات والمسؤولية ليست بيد مرجعية واحدة بل هي متداخلة بين التنظيم المدني، وزارة الداخلية والبلديات، وزارة البيئة، وزارة الأشغال، وزارة الطاقة والمياه، ووزارة الاقتصاد". و"القانون ليس واضحاً في مسألة إزالة التعديات مثلاً خصوصاً لناحية المسالخ والمعامل والوحدات السكنية، ما لا يسمح بطرح حلّ جذري"، كما يقول. ومنذ التسعينات يُحكى عن خطط لحلّ أزمة نهر الغدير وإزالة التعديات والحال لا يزال كما هو بل يزداد سوءاً كما يقول عاصم فيداوي. والجميع يتقاذف المسؤوليات. وبحسب النائب حسين الحاج حسن الذي يحمل ملف الغدير كأولوية وقدم مشروعا لإصلاحه منذ 17 سنة، "الدولة هي التي قصّرت مع هؤلاء السكان في مناطقهم الريفية أولاً وفي تهجيرهم في الحرب، وهي المسؤولة عن تأمين بديل لهم ودفع تعويضات أو عليها أن ترضى بسقف النهر كي يستوعب أكثر". أما النائب علي عمّار، فيرى أن "مسألة الإشغالات والإخلاءات في الحي متعلقة بالحكومة، ولدى حزب الله خطة مدروسة بكل الاتجاهات لتحرير حرم النهر ولمنع التعديات من قبل المصانع والمعامل والمسالخ الملوثة عبر وزارتي الصناعة والإشغال، وبخصوص محطة الغدير ووضعها الشائن، توسيع النهر وتنظيفه، والتعدي على أملاك النهر لتدارك المخاطر الآنية. لكن النهر يحتاج إلى حلّ جذري وقرار سياسي حاسم".

وصرفت أموال طائلة منذ انتهاء الحرب على الدراسات والخطط، لكن لا يزال سكان الحي في انتظار غودو ووعود عرقوب.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني