المفكرة تذكّر بثلاثة أحكام رائدة حول التسامح الديني في لبنان: الدين، الحساسية المفرطة وحرية التعبير والإبداع


2019-07-30    |   

المفكرة تذكّر بثلاثة أحكام رائدة حول التسامح الديني في لبنان: الدين، الحساسية المفرطة وحرية التعبير والإبداع

ليس التعرّض لفرقة مشروع ليلى في لبنان المرة الأولى التي يتّهم فيها فنان أو كاتب بالمسّ بمعتقدات الآخرين. حصل هذا الأمر مرات عديدة من قبل، وإن وصل العنف والدعوة إليه في هذه القضية إلى مستوى غير مألوف. وكما قلنا في بيان “المفكرة” المنشور بتاريخ 24 تموز، تحديد ما تشمله حرية المعتقد أو يخرج عنها ليس مسألة حسابية، ليس (1 +1) وبخاصة في القضايا الفنية، إنما غالبا ما يتأثّر هذا التحديد بدرجة التسامح أو اللاتسامح التي وصل إليها مجتمع ما. وفيما نشهد اليوم توجهات عنيفة تخويفية لإلقاء التهم وإصدار الأحكام وتنفيذها في الشارع من دون اللجوء إلى القضاء، فإن المرجع الصالح في الأنظمة الديمقراطية لتحديد ما إذا حصل تحقير الدين أم لا يبقى القضاء تبعا لمحاكمة عادلة. وبالعودة إلى أرشيف المفكرة، يهمنا في هذا الإطار، إعادة التذكير بثلاثة أحكام هامة تضمنت حيثيات مبدئية، غلبت من خلالها مبادئ التسامح والاحترام المتبادلين على التعصب والتزمت والأهم الحساسية المفرطة التي قد تعاني منها هذه العصبة أو تلك.

هذه الأحكام هي الآتية:

1- أولا، الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في المتن جوزيف تامر بتاريخ 31/1/2019. وقد تميّز هذا الحكم بحيثيات عدة، أهمها التمييز بين الحساسية الطبيعية والحساسية غير الطبيعية إزاء ما قد يتصل بالدين. فتحقير الشعائر الدينية لا يكون متوفرا إلا في حال تسبب الفعل المشكو منه بـ “جرح المشاعر الدينية للشخص العادي ذات الحساسية الدينية الطبيعية”. وعليه، نلحظ هنا تحسّب الحكم إزاء أي قراءة مبالغ بها لهذا القول أو هذا الفعل أو ذاك، وذلك من خلال اشتراط أن يتم تقييم هذا القول أو الفعل على أساس معيار موضوعي قوامه الشخص العادي ذات الحساسية الدينية الطبيعية، أي الشخص الذي يختزل التصورات الاجتماعية العامة في هذا المجال، بمنأى عن أي تضخيم أو تعصب أو تزمت. وانطلاقا من ذلك، يكون الأخذ بالتصورات المجافية لهذا المعيار بمثابة مبالغة في حماية بعض المعتقدات وعمليا بمثابة تقييد تعسفي وغير مبرر لمعتقدات الآخرين. واللافت أن الحكم استند في هذا المجال بشكل خاص إلى المادة السادسة من الإعلان الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد الصادر بتاريخ 25/11/1981، وإلى الإجتهاد المقارن، وتحديداً اجتهاد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

2- ثانيا، الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في طرابلس منير سليمان (9-5-2007) في دعوى أقامتها النيابة العامة بناءً على شكوى مجموعة طلابية إسلامية في طرابلس ضد الناشط جوزيف حداد على خلفية كتابة عدد من المقالات، منها «الإله المخطوف» والذي بدا فيه وكأنه يشكّك بوجود الله. وقد رأت المجموعة المشتكية أن المقالات المدعى بها تتهكم على المحجبات والحجاب بصورة مهينة لمشاعر المسلمين وتتطرق إلى مواضيع جنسية فاضحة. وإذ استعرض القاضي مختلف المعتقدات المعنية بالملف (معتقدات اسلامية ومعتقدات علمانية)، أعلن وجوب إخضاع تفسير عبارتي تحقير الدين وإثارة النعرات الطائفيّة (أي ما يمثّل حدوداً لحرية التعبير) لمعايير التسامح وإلّا أدّت إلى أغراض مناقضة تماماً لما ترمي إليه. فـ “ليس ما يثير النعرات الطائفية أكثر من تقويض حرية المعتقد وإبداء الرأي وتسليط الضوء على بعض العبارات ذات الدلالات الدينية وإخراجها من سياق ومضمون المفهوم العام لما كتب والقصد منه وما رمى إليه، ووضع تفسيرات ضيّقة لها وحرفية يخرجها عن المعنى المقصود منها”. وهذا ما قد يحصل مثلاً في حال سيادة التزمّت والتعصّب في تفسير أقوال الآخرين، بحيث يصبح التوسّع في تعريف الأفعال والأقوال المسيئة أو المثيرة للنعرات وتالياً في اتهام الآخرين بإثارة النعرات الطائفية أوسع باب ليس فقط الى الحدّ من حريّة الرأي والمعتقد، بل أيضاً إلى “إثارة النعرات ومضاعفة أسباب التنازع والتخاصم والفتنة”.

3- ثالثا، الحكم القضائي الصادر عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت غادة بو كروم، بتاريخ 1/12/1999 والذي أبطل التعقبات بحق الفنان مارسيل خليفة على خلفية إنشاده لآية قرآنية من قصيدة: “أنا يوسف يا أبي” لمحمود درويش”. وفيما انبنى الادعاء ضد خليفة على خلفية إنشاده هذه الآية بما يتعارض مع القواعد الفقهية، جاء في الحكم آنذاك “أن كل المجتمعات عرفت أنماطاً من السلوك طاولت مختلف نواحي الحياة ولم تراعَ فيها القواعد الدينية، وأنه لا يمكن عدّ أي فعل مخالف أو غير متوافق مع أحكام الدين فعلاً جزائياً إلا إذا كان كذلك وفق قانون العقوبات، (و) أن إنشاد القصيدة تم بوقار ورصانة ينمّان عن إحساس عميق بالمضمون الإنساني، ما ينفي أي مس بقدسية النص القرآني أو يسيء إليه أو الى مضمونه، ولا يحمل إطلاقاً تحقيراً للشعائر الدينية أو ازدراءً بها تصريحاً أو تلميحاً”.

  • مقالات ذات صلة:

قرار قضائي يوسّع مدى حرية المعتقد في لبنان: لا محلّ للحساسية الدينية غير الطبيعية

المفكرة تنشر الحكم بتوسيع مدى حرية المعتقد في لبنان


انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني