مشاعر مضطربة تجاه المدينة: الحنين إلى التُراث في عيون سكان بيروت


2019-07-15    |   

مشاعر مضطربة تجاه المدينة: الحنين إلى التُراث في عيون سكان بيروت

شهد عصام ذو الـ 74 عاماً على التغير العمراني في بيروت. يقول: “كُنا نسمع أن وزارة الثقافة تمنع هدم الأبنية التراثية، وفي ليلة ما فيها ضوء قمر، تم هدم مبنى يعود إلى العام 1920 حيث كُنت أسكن في منطقة كاراكول الدروز”. وكاراكول الدروز هي إحدى مناطق العاصمة بيروت تبعد نحو كيلومترين عن الأشرفية. ويروي عصام كيف تغيرت علاقته مع المدينة. يقول: “بالزمانات كانت عمتي تصحبني معها في مشاويرها في كاراكول الدروز. ومن تلك المحلّة كُنت أنظر إلى الأشرفية وأقول لها: أُنظري إلى القرميد على بيوت الأشرفية كم يبدو جميلاً“. اليوم احتلّ الباطون المدينة برأيه، وهو “يختلف عن الحجر الرملي الذي بُنيت به الأبنية القديمة في المدينة ذات الطبقات القليلة والمساحات الواسعة والتي تتميز بجمال ورونق تُراثيين”. ويتابع، “لما كنت صغيراً، تم تشييد مبنى من 6 طبقات، كنت أنظر إليها وأقول هيدي ناطحة سحاب”. ويتكلم عصام بحسرة عن المباني الجديدة والشاهقة: “أنظري إلى ناطحة السحاب “سما بيروت”، عُذراً منها طالعة مثل الخازوق”. ثم يُشير بيده إلى المباني القديمة المتبقية من حوله ويقول: “بكرا ليهدموها كلها، وبيطلع محلها بنايات جديدة فيها شقق بأسعار خيالية ما بيشتريها إلا الأغنياء”. ويعتبر الرجل بأن هذا التحوّل في المدينة هجّر أهاليها وأجبرهم على البحث عن مساكن أقل كلفة في الضواحي.

رواية عصام هي جزء مما خلّفه التغيّر العمراني في المدينة على نظرة سكّانها إليها، وما سببه هذا التغيّر من تبدّل في علاقتهم معها. وإن كان المرور في أحد أحياء بيروت الذي يتميز بمحافظته على بعض الأبنية التُراثية، وهو شارع مونو في الأشرفية، قد يذكّرنا بجزء من تاريخ بيروت الاجتماعي والثقافي، إلا أن هذا التراث يُصارع البقاء في وجه الباطون، عدا عن أنّ أهل المنطقة ينامون ويستيقظون على صوت أعمال البناء بشكل يومي. وما أن يطرح المستثمرون الشقق السكنية الجديدة للبيع، يصطدم أهالي المنطقة بالأسعار الخيالية التي ليس بوسعهم أن يدفعوها، فينزحون بعيداً عن المنطقة التي ولدوا فيها، إلى مناطق أخرى تتوافر فيها شقق تناسب أثمانها دخلهم. لم تنتهِ حكاية العلاقات المضطربة مع المدينة هناـ ففي مونو نجد أن العديد من البيوت القديمة التي تم ترميمها، تحوّلت إلى مقاه ومطاعم تستبعد ذوي الدخل المحدود أو الفقراء بسبب غلاء أسعارها. وكُل ذلك ما هو إلا بمثابة قسط من كوابيس من تحدثوا لـ”المفكرة” عن مشاعرهم تجاه ما تغير. وما لا يُمكن إغفاله أن هذه الكوابيس تبدأ بشكل أساسي عندما يتلقى السكان الشكل الحديث للأبنية المعاصرة، على نحو يتناقض بشكل واضح مع الأبنية القديمة التي تُجاورها. نتوقف في هذا المقال عند بعض روايات سكان عاش غالبيتهم مُعظم حياتهم في بيروت، ويسكنون في أحياء مختلفة منها، مثل الأشرفية، ومونو والحمراء وكاراكول الدروز.

“تبدو مثل سفينة التايتانيك وهي تقع”

يرتفع مبنى “سما بيروت” في سماء منطقة السوديكو. أول مونو في بيروت إلى نحو 52 طبقة (فوق الأرض و6 تحتها)، وقد اختار مهندسوه اللون الأزرق كرمزية للون السماء، إلا أنه لم يكن ذاك المنظر الخلاب الذي ستتمنى آمال أن تنظر إليه كلما خرجت إلى شرفة منزلها.

“لا تذكري اسم هذا المبنى أمامي، إنه يُشبه سفينة التايتانيك وهي تقع” تقول آمال. وتُضيف: “أسكن في المبنى المقابل لـ “سما بيروت” في الطبقة السادسة، وعندما أخرج إلى الشرفة لا يمكنني النظر إلى الأعلى حيث يحتل المبنى السماء، إنه مرعب”. “الـ view كانت واسعة، ولو أنها لم تكن أجمل، إنما وجود مبنى بهذه الضخامة خرّب المنظر”.

تتابع: “في السابق كان هناك محطة وقود مكان المبنى. وبعد بدء ورشة البناء بدأ سكان الحي يجدون سياراتهم متضررة ما جعلها تحتاج إلى “حدادة وبويا” بشكل متكرر”. ولكن “هل فكرتِ يوماً في رفع شكوى بسبب تضرر سيارتك؟” تجيب آمال: “في هذا البلد؟ مرحبا شكوى”. وتضيف: “لا يوجد فيه شرفات، كيف يتنفسون داخله؟ أنا ما فتت عليه ولا بدي فوت” تقصد مبنى سما بيروت. تتابع: “لا أعرف لماذا يتم إلغاء الشرفات في المنازل. حتى أن جيراني في المبنى الذي أسكنه أغلقوا شرفاتهم بنوافذ زجاجية. أعلم أن الهواء في الخارج ملوث. ولكن لو أغلقنا الشرفات سنحتاج لفتحها وسيدخل الهواء الملوث في جميع الحالات. صحيح أن الضجيج في الخارج ما عاد يُحتمل، ولكنني ما زلت أفضل المحافظة على شرفتي. إنها متنفسي الوحيد في منزلي ومكان أشعر به بالحرية. أُحبّ جلسات القهوة على الشرفة أمام زريعاتي (النباتات). لكنني أجلس وأدير ظهري لسما بيروت. لا أريد رؤيتها وأنا أنعم بوقتي الخاص على شرفتي”.

صاحب المبنى لا يُحب الشرفات: أين أنشر ملابسي؟

جميل 36،

أعيش وزوجتي في مبنى ذي طابع تُراثي في الحمراء يعود تاريخ بنائه إلى العام 1947. المبنى حقاً جميل جداً وتم ترميمه بطريقة ممتازة. ولكن لا أعلم لمَ اختار صاحب المبنى أن يُلغي كافة الشرفات خلال عملية الترميم. حقاً، أصبح التوجه السكني الجديد يعادي كل ما هو خارجي. فكثيرون يتجهون نحو إلغاء شرفات المنازل، إذ ينظرون إلى الخارج كأنه شيء عنيف. وربما يعود ذلك إلى تلوث المحيط، أو بسبب الضجيج المزعج أو من أجل إيجاد متسع إضافي داخل الشقق. هذا الأمر يجعلني أحلل نتائج هذه التوجهات: برأيي، تم إلغاء الوظيفة الأساسية للشرفة، والتي يُسهم وجودها ببناء علاقات اجتماعية مع الجيران، فأُلغيت هذه الميزة. بالتالي، انطوينا على أنفسنا داخل المنازل.

ولكن لا يخطر في بالي إلا أمر بسيط: أين ينشرون غسيلهم؟ وقد واجهت هذا الأمر في المبنى الذي أعيش فيه، إذ لا يوجد لدينا شرفة لنشر الغسيل. فذات مرة، طلبت من العاملة المنزلية لدينا أن تغسل أغطية الأسرّة، وكان لدينا فائض من الغسيل. ولدى عودتنا من العمل، تفاجأت بأن ملابسنا والشراشف نُشرت عند الجيران في مبنى مجاور للمبنى الذي أسكنه فيه. فتيقنت أن العاملة لم تجد مكاناً لنشر الغسيل، فالشقة لا يوجد فيها شرفة تتسع لنشر الشراشف.

المباني الجديدة مرنة ولكنّي أفضل منزلي القديم

جويل 34 عاماً،

أسكن في مبنى عمره نحو 70 عاماً. أعلم أن الأبنية الجديدة تتميز بمرونة عالية، مثل وجود مصعد كهربائي على عكس الأبنية القديمة. ولكن مع ذلك، ما زلت أفضل العيش في مبنى قديم. ومع تغيّر العمران في لبنان، فقدت المدينة ميزة الجمال. مثلاً في حيّنا، تمّ هدم جميع المباني القديمة بشكل تدريجي ليتم استبدالها بمبانٍ جديدة. ومؤخراً تم هدم مبنى قديم إلى جانبنا وأتوقع أن يبنوا مكانه ناطحة سحاب. وبالتأكيد سنفقد المنظر الواسع أمامنا. كذلك أرى أن العلاقات الاجتماعية تغيرت عما كانت في السابق داخل الأحياء، وحتى الأمان بدأ ينفذ. فعندما كُنا صغاراً، كانت أمي تتركنا طوال النهار نلعب في الشارع وبالها مُرتاح. اليوم تبدل الوضع، صُرنا نخاف من السرقة والأذى على الأطفال. أيضاً، ما عادت العلاقات الاجتماعية كما كانت في السابق. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أن الهموم التي يحملها الفرد كبيرة بسبب غلاء المعيشة. فلا يصدّق أن يعود إلى منزله من العمل ليرتاح فيه. ليست المباني السبب الرئيسي لهذه التغيرات الاجتماعية، إنما ساهمت في تغيّر طبيعة السكان بسبب الاختلاط وتنوّع خلفياتهم الاجتماعية.

“أُحب بيروت في فصل الشتاء”

نلتقي بأحمد في الطريق ونسأله إن كان يُحب أن يُشاركنا رأيه عن علاقته مع المدينة التي يسكنها. يُرحب بالفكرة ويدعونا إلى زيارة منزله. نسير مع الرجل الستيني إلى الحيّ حيث يقع منزله، ويشرح بأنه من سوريا، وأتى إلى لبنان في بداية الحرب قبل ثماني سنوات تقريباً. عند مدخل الحيّ، يدل الرجل بيده نحو مبنى جديد، وإلى جانبه مبان عدّة قديمة الطراز. يبدو التناقض واضحاً بين هندسة المباني القديمة وبين هذا المبنى. يقول أحمد: “شُيد هذا المبنى قبل بضعة سنوات في هذا الحي الشعبي، ولأنه لا يتماهى مع الأبنية التي تُجاوره، تطلب من المستثمر أن يقوم ببعض الترميمات على الأبنية المجاورة. فتم طلاؤها بألوان تتماهى مع البناء الجديد، لجذب الشُراة إلى المبنى الجديد.

يعيش أحمد في منزل مؤلّف من طبقة واحدة. نصل إلى مدخله عبر بوابة مفتوحة على الشارع مباشرةً تقود إلى مدخل ضيق قبل الدخول إلى الباب الرئيسي. يقول أحمد: “لا يوجد شُرفة في المنزل وهي المتنفّس الوحيد له، حتى أنه ليس لدينا مدخل للشمس”. حالما يفتح أحمد الباب حتى يظهر منشر للملابس داخل المنزل، وتبدو آثار الرطوبة الشديدة على الجدران. يقول: “المنزل مصمّم بطريقة قديمة ومتواضعة، لا يوجد فيه شرفة سوى مدخل البيت، وهو لا يكفي حتى لنشر الملابس، فننشر في الغرفة. أعتقد أنه في السابق كان الناس ينشرون غسيلهم على السطح، لهذا لا يوجد شرفة في المنزل”.

ونفهم من رواية أحمد أن حالة صاحب المنزل الاجتماعية متواضعة لذلك لا يستطيع ترميمه فأجّره بمبلغ لا يتعدى 550 دولار أميركي، وهو مبلغ زهيد مقارنة بالإيجارات المرتفعة في هذه المنطقة. كما يلفت إلى أن كُثراً من المستثمرين حاولوا إقناع صاحب المنزل بأن يبيع عقاره، ولكنه رفض.

كان أحمد يزور لبنان لسنوات قُبل الحرب السورية. يقول: “الطبيعة العمرانية تتغير في بيروت، والتراث إلى زوال. في دمشق كنا نقول إن الغوطة هي رئة دمشق، ويعود ذلك إلى كثافة الأشجار فيها. ولكن اليوم تقلّصت هذه الرئة وانتشر الباطون”. يُضيف، “في بيروت الأمر ذاته، ما عاد فيها أشجار كافية لتنقية الهواء، ولا عادت الحياة فيها في فصل الصيف تُحتمل بخاصة بعدما احتلها الباطون والأبنية العالية وتقلصت الأشجار”. ويتابع “الحقيقة القاسية أنني أُحب بيروت في فصل الشتاء فقط، لأن صيفها ما عاد يُحتمل”.

يتحدث أحمد عن علاقته بالمدينة التي يسكنها، ويلفت إلى أسعارها المرتفعة بقوله: “لا أشعر برابط بيني وبين المدينة التي أسكن فيها، فلو أردت بناء علاقة معها سأضطر إلى دفع 100 دولار لأشرب القهوة في أحد مقاهيها. لذا، أفضل البقاء في الغرفة. أشرب قهوتي في الداخل. بعيداً عن الضجة والتلوث، وأستمع إلى أغاني فيروز”. أحمد مُرتاح في مكان سكنه، إذ يرى بأن “الحي يتميز بحسن الجوار” ومع ذلك “لست على علاقة وطيدة مع أحد لأن الناس همها تجيب قوت أولادها وتحط رأسها وتنام. فالأزمة الاقتصادية كبيرة، وهموم الناس غلبت على العلاقات الاجتماعية”.

  • نشر هذا المقال في العدد | 60 |  حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 منحة السكن ومحنته

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مجلة لبنان ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني