لقاء مع محمد زبيب: السياسة الإسكانية في خدمة ثلاثية الملكية، المصارف والسياسة النقدية

،
2019-07-03    |   

لقاء مع محمد زبيب: السياسة الإسكانية في خدمة ثلاثية الملكية، المصارف والسياسة النقدية

شكّل إعلان وقف الإقراض السكني عام 2018 صدمة للشبان والشابات اللواتي إعتمدن على هذا الباب من أجل تأمين سكن لهم. إزاء هذا الواقع تصاعدت إحتجاجات تطالب بإعادة تأمين هذه القروض. وفيما بقيت المطالبة بوضع سياسة إسكانية تؤمن حقوق المواطنين في هذا المجال، خجولة بعض الشيء، عبرت المطالبة بإعادة القروض كحلّ وحيد لأزمة السكن عن أزمة أخرى متمثلة بفهم جماعي مشوّه للحق في السكن ناتج عن السياسيات المتعاقبة خلال العقود الأخيرة.

تحاور “المفكرة القانونية” في هذا السياق الصحافي محمد زبيب، محرر ملحق “رأس المال” في جريدة “الأخبار”، في حوار حول فرضية وجود سياسة سكنية في لبنان من عدمها. يجزم زبيب منذ البداية أنه “لدينا سياسة سكنية” منطلقاً من فهم السياسات العامة على أنها التعبير عن صراع وتوازن مصالح. في هذا الإتجاه، يشرح كيف وضعت السياسات المتصلة بالسكن، بشكل يخدم أولويات واضحة: قدسية الملكية الخاصة المتمثلة بالعقارات، مراكمة أرباح المصارف وحمايتها، وتثبيت سعر صرف الليرة وتنفيذ السياسة النقدية لمصرف لبنان.

المفكرة: في السنوات الأخيرة الصعوبات أمام الأفراد في تأمين سكن لهم في لبنان. وآخر علامات الأزمة كانت توقف قروض الإسكان. هناك من يعزو الأمر إلى كون الحكومة لم تضع يوماً سياسة اسكانية، ما رأيك بذلك؟

زبيب: تقوم السياسات العامة بالدرجة الأولى على توازن مصالح معينة أو تصارعها. وبالتالي، يمكن أن يكون هناك سياسات تتعلق بالسكن ولكنها ليست مبنية على أساس السكن كحق إجتماعي. برأيي لا شيء إسمه “لا يوجد سياسة”. في الواقع، هناك دائما سياسات تضعها الحكومات المتعاقبة في خدمة توازنات معينة، وفي الحالة اللبنانية، تتصل هذه السياسات بأبعاد ثلاثة رئيسة: الغموض بين مفهومي “العقار” و”الأرض”، والنظام الإقتصادي وتمركزه في بيروت، وأخيراً الهجرة.

(1) الغموض بين مفهومي العقار والأرض

إن لبنان من البلدان القليلة في العالم التي لم يقترن نشوؤها ككيان سياسي بما يسمى الإصلاح العقاري والإصلاح الزراعي. وهذا ما أثر على الغموض بين مفهومي الأرض والعقار. فالأرض هي المكان الذي نعيش عليه ونقتات منه الذي ينتج لنا الأوكسيجين والذي توجد فيه موارد مائية وطبيعية. والنظر إلى الأرض بوصفها أرض “الموءل” للجميع – وهو التعبير الذي تستخدمه الأمم المتحدة بالمناسبة – يفترض ألا نقاربها للحظة كملكية خاصة، إذ إن أي إستخدام أو استغلال لها له إنعكاسات مباشرة ليس على “المالك” إنما على المجتمع بأكمله. أما العقار فهو مساحة من الأرض فيها صك ملكية وقابلة للتداول، يمكنك بيعها أو شراءها أو البناء عليها أو تركها أرضا بور.

إنطلاقاً من هذا التمييز بين المفهومين، تؤدّي “الاصلاحات العقارية” مهمّة سياسية، تتعلق بكيفية إعادة بناء المجتمع والسلطة، وإعادة توزيع الموارد بما يضمن لهذه السلطة الإستقرار، كذا إعادة توزيع الأراضي بما يضمن إنتاج الغذاء ويسمح بنمو المدن.

إضافة إلى عدم حصول مثل هذا الإصلاح في لبنان، لم يتم مطلقاً وضع نظام لإستخدامات الأراضي. وفي المرات التي جرى فيها ذلك، لم يتم إحترامه. وهو ما جعل استخدام الأرض قابلا لكل شيء، وبصيغة عشوائية، فيمكن لمالكها أن يبني عليها أو يزرعها أو يقيم كسارة أو ينشىء مصنعاً أو مطعماً.

من وجهة نظري، إن أي بحث يتعلق بالسكن في لبنان لا بد أن ينطلق من المسألة العقارية، ذلك أن العقار اكتسب أهمية كبيرة جداً في تكويننا. فالسياسات المتعلقة بالسكن كانت محكومة بهذه النقطة، أي بكون العقار والملكية العقارية هي في مرتبة أسمى ممّا عداها، خصوصاً الأرض. بالتالي يتحكم هذا المبدأ بمن يضع السياسات وينفذها.

(2) النظام الاقتصادي وتمركزه في بيروت

قام النظام الإقتصادي اللبناني تاريخياً على ظاهرتين: التخصص بالخدمات والإعتماد على مركزية بيروت. فمن ناحية، تحوّل العقار في ظل هذا النظام إلى “سلعة” تختزن قيمة مالية تشبه الشيك أو الوديعة أو الكنز، وتتميز بأنها سلعة غير قابلة للتبادل مع الخارج، أي لا يمكن استيرادها أو تصديرها، وبالتالي تحوّلت إلى ميدان خصب للمضاربات على أسعارها. فأن يكون الإقتصاد زراعياً أو صناعياً مثلاً يحتاج أن نخصص أراض لبناء المصانع أو لاستصلاحها زراعياً. عندها، يتحوّل العقار إلى أداة يُفترض أن تراعي شروط تنمية الزراعة والصناعة. وهذا ما لم نشهده في لبنان. ففي حين تراجعت مساهمة هذين القطاعين في مجمل الناتج المحلي إلى أقل من 15%، باتت مساهمة تجارة العقارات والخدمات المرتبطة بها وأنشطة البناء تتجاوز 20%.

من ناحية أخرى، تحتم مركزية النشاط الإقتصادي في بيروت، تمركز السكن والعمل فيها. بالتالي نرتضي مرغمين بسعر عالٍ للعقار. من هنا، يبرر المطورّون العقاريّون إرتفاع أسعار العقارات بـ”ندرة الأراضي”، أي أن السكان كثر والأراضي المتوفّرة قليلة. وهذا منافٍ للواقع حيث أن مجمل الأراضي المسكونة في لبنان توازي 8% من المساحة الإجمالية للأراضي اللبنانية فقط. بالتالي، ليس صحيحاً أبداً أن لدينا ندرة في الأراضي، بل ما لدينا هو تركز في مجال مديني محدد، يمتد على الشريط الساحلي ضيق، حيث يتكدّس أكثر من 80% من السكان، وتتحكم بمستوى عيشهم مصالح سياسية وتجارية ومالية وعقارية.

(3) الهجرة

ترافقت هذه الظواهر الإقتصادية بالطبع مع ظواهر إجتماعية أخرى أثرت على مفهوم السكن وأهمها الهجرة. فاللبنانيون المهاجرون يجمعون “ثروات صغيرة” ويحفظون قيمتها في العقار في لبنان. وهذا ما أعطى العقار وظيفته كـ”مخزن للقيمة”، بما يشبه النقود. منذ تأسيس الدولة اللبنانية، ساد رفض مطلق لفرض أية ضريبة على العقارات أو الربح العقاري بإعتبار – وهنا أستحضر نظرية ميشال شيحا – أن المهاجرين وضعوا ثرواتهم التي أنتجوها في الخارج، في لبنان. وهي بهذا المعنى مكسب للبنان تأتي كالهبة ولا يجوز فرض الضرائب عليها.

أدت العوامل الثلاثة هذه، إلى إعتبار الملكية الوسيلة الفضلى وربما الوحيدة لتأمين السكن. واستطراداً، أصبحت القدرة على السكن تتمثل بالقدرة على التملك، والحق في السكن مرهون بقدرة الفرد على الإيفاء بشروط التملّك.

القول إنه لا يوجد في لبنان سياسة إسكانية هو كلام حق يراد به باطل. فنحن لدينا سياسة سكنية قائمة على أن الملكية العقارية أسمى من بقية الإعتبارات. والمعضلة في حالتنا تكمن في إجتماع اللبنانيين على “سمو” الحق في الملكية، وهو نتيجة للإيمان المطلق بكون العقار هو مخزن قيمة وأن أسعار العقارات ترتفع ولا تنخفض، وأنه يحق للشخص التصرف بملكيته الخاصة كما يشاء، بالإضافة إلى الإيمان المطلق بعدم صوابية فرض ضرائب على الملكية العقارية إنطلاقاً من أن ذلك يشكّل مقاسمةً للشخص في ملكه. بهذا المعنى، فإن السياسات السكنية في لبنان قائمة على سمو حق الملكية على اعتبارات الصالح العام.

المفكرة القانونية: قبل المؤسسة العامة للإسكان، كان هنالك وزارة الإسكان كما كان هناك مؤسسات عدة وجدت لغاية مرتبطة بالسكن. لماذا لم تكن فعالة؟

زبيب: عادةّ ما يكون نيل الإستقلال فرصة للدول من أجل إعادة تنظيم بعض الأمور التي تتعلق بنشأتها وتكوينها وبناء العقد الإجتماعي الخاص بها. وهذا ما لم يحدث في لبنان. تأسست الدولة على خصوصية جبل لبنان واستمرت كامتداد لنظام القائمقاميتين والمتصرفية. في فترة الإنتداب الفرنسي، وكأي استعمار، قام هذا الانتداب باستنساخ مجموعة مؤسسات موجودة لديه وإنشائها في لبنان. هذه المؤسسات مسقطَة، أو تحاول إنشاء مؤسسات في واقع مغاير للواقع الذي جرّبت فيه، لذا بقيت لاحقاً موجودة شكلاً فقط. في الواقع، نشوء هذه المؤسسات ليس معزولا عن تطور النظام الاقتصادي، بل إن إنشاء هذه المؤسسة أو تلك ارتبط دائما بوظيفة اقتصادية أكثر مما هي اجتماعية. أصلا، علينا أن ننتبه ونحن نقارب السكن من منظار المؤسسات، كأدوات سياسية، أن الملكية العقارية لا تزال تخضع لأحكام القوانين العثمانية والتعديلات الطفيفة التي أدخلها الانتداب الفرنسي في عام 1930، قبل الإستقلال.

بعدها، وفي مرحلة فؤاد شهاب القائمة على إرادة نقل نموذج الدولة الأوروبية، وبتأثيرات من بعثة “إرفد” الفرنسية، أنشئت مجموعة من المؤسسات كان الهدف منها تشكيل أدوات للتنمية وإعادة التأسيس (مؤسسات الدولة). وكانت من ضمن هذه المؤسسات وزارة الإسكان والتعاونيات.

في لبنان، تأسست وزارة الإسكان من أجل تنفيذ مهمتين: تشجيع التعاونيات السكنية من خلال إعفاءات ضريبية وإمكانية تمويل أو إقراض لبناء المساكن من جهة، وتدخلات موضعية جزئية من أجل معالجة أزمة السكن من جهة ثانية. وكانت نتائج الدور الثاني سيئة جداً. ونتج عنها مثلاً عشوائيات منها منطقة المنكوبين في طرابلس[1]، ومناطق الضم والفرز في صيدا على سبيل المثال.

لاحقاً ونتيجة تزايد حاجات السكن وضغط السكن في بيروت، بسبب النزوح الريفي والتمركز في المدينة، تم إنشاء مؤسسة أخرى هي “الصندوق المستقل للإسكان”، وكان لديه وظيفة واحدة وهي الإقراض. مُني هذا الصندوق بصفعة كبيرة جداً في ظل موجة التضخم المالي التي حصلت ما بين عامي 1985 و1992. في العام 1992، وجد الصندوق أن كل موجوداته لا تغطي قرضاً واحداً. لاحقاً في عام 1996 قامت حكومة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بإلغاء الصندوق وإنشاء المؤسسة العامة للإسكان.

الغاية من إنشاء المؤسسة العامة للإسكان، وفقاً لقانون إنشائها، هو “إجراء دراسات ومسوحات سكانية لجميع المناطق اللبنانية، وتسهيل إسكان المستفيدين من خلال بناء المساكن وملحقاتها مباشرة أو بواسطة الغير وفق برامج، تشجيع الإدخار والتسليف للسكن، وتقديم القروض المتوسطة والطويلة الأجل إلى: الهيئات المنتفعة لبناء المساكن وتمليكها من المستفيدين الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة؛ المستفيدين لبناء مساكن على عقارات يملكونها، أو لشراء مساكن مبنية أو قيد الإنشاء أو لتوسيع مساكنهم أو ترميمها؛ الهيئات المنتفعة لبناء المساكن من أجل تأجيرها من العاملين لديها”.

هنا نعود إلى مسألة إسقاط المؤسسات، فماذا فعلت المؤسسة العامة للإسكان من كل ما تقدّم؟ لم تقم بأي من هذه الأمور. تحوّلت عوضاً عن ذلك إلى مؤسسة يجري من خلالها استخدام المال العام لدعم أسعار الفائدة المرتفعة التي تفرضها المصارف على القروض السكنية. فالمؤسسة العامة للإسكان ليست سوى إحدى الأدوات التي يجري من خلالها تطبيق السياسات، ولذلك كان دورها مقتصرا على تحفيز الأسر المتوسطة الدخل على الإقتراض لتملك المساكن، كوسيلة شبه وحيدة لتأمين حق السكن ولا سيما مع اضمحلال سوق الايجارات وإزالة كل دعم لها. وكان عليها أيضا أن تدعم العرض في سوق العقارات لا الطلب على السكن، كحلقة من منظومة دعم أكبر بكثير استهدفت فئات الدخل الأعلى واللبنانيين المهاجرين عبر برامج صمّمها مصرف لبنان وأتاحت للكثير من الأثرياء الحصول على قروض سكنية مدعومة. قد ينظر معظمنا إلى هذا الأمر على أنه “فساد”، ولكنه فساد مقصود الهدف منه استخدام المال العام لدعم عمليات بيع العقارات بأسعار مرتفعة ومنع تراجعها، نظرا لتأثيرات ذلك على النظام الاقتصادي والمصالح الكامنة فيه.

ما أقصده، أن النظر إلى دور أي مؤسسة ونتائج عملها يجب أن ينطلق من السياسة التي من أجلها تم إنشاء هذه المؤسسة. فنشوء المؤسسة العامة للإسكان في النصف الأخير من التسعينيات كان مسكونا بهاجس الملكية العقارية للأفراد من جهة. ومن جهة أخرى، كان حاجة لتصريف السيولة المتراكمة في المصارف آنذاك، من خلال إقراض الأسر لشراء المساكن. ولأننا حكمنا بهاتين المسألتين، لم تعد وظيفة المؤسسة ايجاد مسكن لائق لعيش كريم لمواطن عادي، إنما حفظ قيمة العقار وتوظيف سيولة الودائع. وهذا ما ميّز السياسات الإسكانية في لبنان بعد الحرب.

المفكرة: أمام هذه المعادلة، ما هو سبب توقف القروض مؤخراً؟

زبيب: يتصل الأمر بأولوية تفوق ما عداها من أولويات وهي تثبيت سعر صرف الليرة، أي السياسة النقدية. فبين 1993 و2018، دخل إلى لبنان 230 مليار دولار من التدفقات النقدية من الخارج ضمنها تحويلات الأفراد، والإستثمارات وغيره. ما يهمنا هنا أن 93% من هذه التدفقات، باستثناء التحويلات إلى الأسر، كان يتم توظيفها في العقارات. أي أن العقارات شكّلت إحدى عوامل الجذب لجزء مهم من التدفقات الخارجية إلى لبنان، التي نحتاجها لتكوين الإحتياطات بالعملات الصعبة وضمان ثبات سعر الصرف.

هذه الفترة الزمنية تتجزأ إلى مرحلتين: من 1993 إلى 2010 (المرحلة الأولى)؛ ومن 2011 إلى 2018 (المرحلة الثانية). خلال المرحلة الأولى، كانت الأموال التي تدخل إلى لبنان أعلى من الأموال التي تخرج منه، وبالتالي كانت كافية لتمويل العجز التجاري[2]، أي أننا كنا نحصل على تدفقات من تحويلات وإستثمارات من الخارج ثم نعود ونرسلها إلى الخارج كي نشتري سلعا وخدمات. ولكن خلال هذه المرحلة كان لدينا فائض في ميزان المدفوعات.[3] في هذه المرحلة، كانت السياسة تقضي بتشجيع الهجرة وزيادة تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج وزيادة الديون الخارجية، بما فيها ودائع غير المقيمين التي تُصنف كديون على الإقتصاد للخارج، وكان يجري استخدام هذه التدفقات عبر توظيفها في المصارف، كودائع أو كرساميل، التي تقوم بدورها بتوظيفها في تمويل الاستهلاك، سواء عبر إقراض الدولة أو إقراض الأسر مباشرة. علينا أن نتذكر دائماً أن الودائع تمثل كلفة على المصارف في حين أن التسليفات هي مصدر الربح، لذلك لا يمكن تخيّل ارتفاع الودائع في اقتصاد ما من دون ارتفاع مواز في مديونية الإقتصاد. كلها حلقات مترابطة بعضها ببعض، ولا شك أن العقارات كانت تحتل موقعا مهمّا في هذه المرحلة، التي تم افتتاحها بمشروع “سوليدير” الذي حوّل وسط بيروت التاريخي إلى مساحة للمضاربات العقارية بغية جني الأرباح، وقام بإعادة تشكيل المدينة وإعاقة إعادة إعمارها وشكّل ما يشبه “البيان رقم واحد” لبدء عمليات الهدم وإزاحة السكان وتحويل وظائف الأحياء. وفي هذه المرحلة، حصلت فورات بناء متتالية وتضاعفت أسعار الاراضي مرات عدّة.

ما حصل في المرحلة الثانية الراهنة، أن قيمة التدفقات النقدية بلغت 118 مليار دولار. ولكن العجز التجاري بلغ 126 مليار دولار، فأصبح لدينا عجز في ميزان المدفوعات بقيمة 8.5 مليار دولار[4]. ما يعني أن الأموال التي يحصل عليها لبنان من الخارج لم تعد تكفي لتسديد فاتورة الإستيراد، وهذا يستنزف الاحتياطات بالعملات الصعبة ويزيد الضغوط على سعر الصرف.

نحن بلد 70% من معاملاته بالدولار. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين تم تكليف المصرف المركزي بتثبيت سعر صرف الليرة ضمن سياسة نقدية محددة، وهو ما يعني أنه مهما تبدلت الظروف والحاجات، يبقى سعر الصرف ثابتاً، والتضخم مضبوط، وهو ما يضمن سعر حقيقي مرتفع للفوائد.

في بداية الأزمة لجأ مصرف لبنان إلى طبع العملة ووفر الدعم لفوائد القروض السكنية لمنع انهيار الأسعار العقارية. إلا أن هذه السياسة ارتدّت سلباً، إذ ساهمت بزيادة السيولة بالليرة اللبنانية القابلة للتحوّل إلى طلب إضافي على الدولار.

على سبيل المثال، يحصل مواطن على قرض بقيمة 300 مليون ليرة ويشتري بقيمته شقة. البائع بدوره يعود ويضع هذا المبلغ في المصرف، ولكن بالعملة الأضمن والأكثر تداولاً، أي الدولار. وهذا يعني، أنه في لحظة أزمة نقص الدولار، باتت عملية دعم القروض السكنية ترتد على مصرف لبنان زيادة في الطلب على الدولار. يحصل هذا في وقت يعاني المصرف من نقص في الدولار، وتعاني الدولة من عجز في ميزان مدفوعاتها، أي عجز مع الخارج. في النهاية باتت سياسة دعم القروض السكنية تتناقض مع سياسة تثبيت سعر صرف الليرة.

وبما أن المحور الأسمى هو سعر الصرف الثابت فلا يعود من أهمية للسكن في ظل هذه السياسة. ببساطة الليرة أهم من الحق في السكن. هكذا توقف المصرف المركزي عن دعم القروض السكنية، فتوقفت. (والمقصود هنا التعميم رقم 503 الصادر عن مصرف لبنان).

المفكرة: كيف أصبحت السياسة الإسكانية أداةً لحفظ قيمة العملة ودخلت ضمن صلاحيات مصرف لبنان؟

زبيب: السياسة السكنية ليست من مهام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إنّما عمله ينحصر بالسياسة النقدية، وهو استخدم القروض السكنية كأداة من أدوات السياسة النقدية، وهذا بحد ذاته يجب أن يفسر الكثير من الأمور التي حصلت في السابق. لكن نعود هنا إلى مسألة حفظ القيمة في العقار، فعند احتمال تراجع أسعار العقارات، يتدخل سلامة في إطار السياسة النقدية لدعم العرض لا لدعم الطلب، في السوق العقاري، لماذا؟ أولاً، لأن العقارات تجتذب تدفقات مالية من الخارج، وأشرنا إلى أن 93% من التدفقات تصب في هذا القطاع. وهذا ما يعني أنه في حال بدأ سعر العقار بالتراجع تتوقف هذه التدفقات. ثانياً، لأن 90% من توظيفات المصارف وتسليفاتها للقطاع الخاص مرتبطة بشكل أو بآخر بالعقارات. فالقروض السكنية، وقروض الشركات العقارية والقروض التي تأخذها المؤسسات أو الأسر كلها مضمونة بالعقارات. فتراجع سعر العقار يؤدي إلى تراجع قيمة موجودات المصارف وبالتالي تؤثر عليها سلباً وتهدد النظام المصرفي، ويمكن أن تؤدي إلى إفلاسات في القطاع.

ولأن جزءاً من مهام مصرف لبنان ومسؤوليته هو سلامة النظام المصرفي في لبنان، فهو يعتبر أن دعم القروض السكنية يندرج، لا ضمن إطار تأمين حق السكن وإنما ضمان سلامة القطاع المصرفي.

في الخلاصة تتحدد سياسات مصرف لبنان على الشكل التالي: أولوية تثبيت سعر صرف الليرة، تقضي بحفظ قيمة العقار والأرباح المالية. اليوم، وبما أن سعر الصرف بات مهدداً، فإن المصرف المركزي لن يحارب لتقليص المخاطر على قيمة العقار، فأصبح مقبولاً أن ينخفض سعره، وأن تتعرض المصارف إلى بعض المخاطر الإضافية. فأولوية الحفاظ على سعر صرف الليرة هي الأهم للجميع. حين تم دعم قروض السكن لم يكن تهديد سعر صرف الليرة قائماً، بالتالي كانت الأولوية هي دعم العرض، أي المحافظة على أسعار العقارات كي لا تتضرر المصارف.

المفكرة: ما الفائدة من قانون دعم القروض الإسكانية الجديد إذن؟

زبيب: وقف دعم القروض الإسكانية هو إجراء فجائي: وضع الدولة في مواجهة مع الناس. وعلى أثرها بات الوضع مربكاً جداً. فالعديد من تجار البناء المتعاقدين بوعود بيع أولية مع شبان وشابات يعتزمون الزواج، على اعتبار أن القروض قائمة، لم يعرفوا ما إذا كان عليهم تسليم الشقق لهؤلاء أم لا. وهذا ما سبب أزمة فعلية في المجتمع.

في حين أن هذا الواقع يفترض على الحكومة أن تحيل مشروع سياسة إسكانية على مجلس النواب لتتم مناقشته، قادت المطالبة بإعادة القروض السكنية تحت ضغط التجار وما إلى ذلك، إلى تقديم إقتراحات قوانين إرتجالية أنتجت قانونا في 2018 مفاده أن “الدولة اللبنانية تدعم فوائد القروض السكنية بـ100 مليار”. هذا القانون أقر مع معرفة مسبقة من النواب أنه لن ينفّذ، والهدف منه فقط إمتصاص غضب الناس، كما يمكن لكل طرف أن يرضي جماعته من خلال إقراره. هذا القانون بلا آليات تنفيذ ولا إمكانية لتطبيقه. فاليوم لا علاقة لمصرف لبنان بهذا القانون، وإن كانت الأموال ستصرف من خلال وزارة المالية بالتالي يجب إنتظار صدور موازنة 2019.

المفكرة: هل تعتقد أن الإيجار التملكي يمكن أن يشكل حلاً جيداً؟

زبيب: نعود هنا إلى فكرة إسقاط أفكار من الخارج على واقع مغاير لسياقها. الإيجار التملكي هو أن تنسحب الدّولة من مسألة السكن وتقول للمستأجر والمالك أن يجدوا حلّا في ما بينهما. فبدل الأقساط الشهرية يدفع المستأجر إيجارا على فترة معينة وفي نهايتها يستطيع شراء المنزل. بالتالي ما حصل فعلياً هو تماماً كالقرض المحمّل بفوائد ولكن مع فارق مهم: ففي حالة القرض أشتري العقار بسعره الحالي مضافاً إليه فائدة القرض، أمّا في الإيجار التملكي أشتري العقار بسعر مستقبلي، فكيف من الممكن أن تكون من مصلحة المستأجر لغاية السكن القيام بهذا الأمر؟ لا مصلحة له في ذلك إلا إذا ما كان المنزل يولد دخلاً، لهذا يصلح الأمر مع التجار.

علينا أن نفكّر بطرق مختلفة، فالتملّك والإيجار والإيجار التملكي والسكن الاجتماعي وحتى العشوائيات هي أشكال يمكن اعتمادها بالمفرّق أو بالجملة، ولكن ضمن أي سياسة وفي خدمة أي مصالح؟ علينا أن نبحث دائما في الأصل: هل الأرض هي عقار خاص؟ وهل السكن هو سلعة؟ وهل علينا أن نقبل دائماً بشروط رأس المال؟

  • نشر هذا المقال في العدد | 60 |  حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 منحة السكن ومحنته

 


[1]منطقة المنكوبين، سميت كذلك نسبة لسبب بنائها وهو تأمين مأوى للنازحين إثر فيضان نهر أبو علي في خمسينيّات القرن الماضي. اليوم لا تستطيع نسبة كبيرة من سكان المنطقة الحصول على صك ملكية لبيوتهم.

[2] – قيمة العجز التجاري في لبنان 261 مليار دولار

[3] – دخل إلى لبنان 162 مليار دولار من التدفقات من الخارج وموّلنا عجز تجاري بقيمة 135 مليار دولار

[4] – لتفاصيل إضافية يمكن مراجعة: محمد زبيب، أين ذهبت كلّ هذه الرساميل؟ جريدة الأخبار، 29 تشرين الأول 2018

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني