هل الاقدمية حقا من التقاليد القضائية الراسخة؟


2011-10-19    |   

هل الاقدمية حقا من التقاليد القضائية الراسخة؟

ألقيت هذه الكلمة خلال جلسات المؤتمر الإقليمي "القضاء العربي في ظلال الثورة (1): قضاة يتمسكون باستقلاليتهم: اي تدخلات؟ اي مقاومات؟ اي مساحة للتضامن" والذي عقدته المفكرة القانونية بالتعاون مع مؤسسة هاينرش بل – مكتب الشرق الاوسط في بيروت يومي 14 و15 تشرين الأول/اكتوبر 2011.

على هامش مناقشة مسودة القانون التعديلي لقانون السلطة القضائية، برز مفهوم الأقدمية. فكيف يتم اختيار قضاة في مناصب معينة (رئاسة محكمة، عضو في مجلس القضاء الأعلى..)؟ بانتخابهم من قبل زملائهم، بتعيينهم من السلطة ام بموجب الأقدمية التي تصطفي هؤلاء بشكل شبه آلي وفق سنوات عملهم في المحكمة او في القضاء؟ وفي هذا المقال، يحاول الكاتب الذي كان عضوا في لجنة وضع المسودة ان ينقض مفهوم الاقدمية، الذي للقضاة ان يأخذوا به، اذا شاؤوا، عند ممارسة حقهم بالانتخاب، ولكن لماذا يكون المعيار ملزما بالنسبة اليهم؟ ومن الواضح ان رأي الكاتب يلقى معارضة كبيرة في اوساط القضاة، مما يفسر ابقاء المفهوم في محلات عدة في مسودة القانون التعديلي. والواقع ان هذا المفهوم يشكل بحد ذاته مسا بمبدأ المساواة بين القضاة، واحد انعكاسات الهرمية التي تبقى احد المعوقات الرئيسة امام استقلال القضاءن امام استقلال كل قاض في محكمته (المحرر).   
يردد البعض ان الاقدمية كانت دائما هي معيار الاختيار للمناصب القضائية، حتى بالغ البعض في ذلك القول الى حد وصفها بانها من التقاليد القضائية الراسخة التي توارثها القضاة.   والحقيقة انني كلما تأملت هذا القول لا اجد له اي سند من الواقع.. فلا الاقدمية كانت معيارا لتولي المناصب القضائية، و لا هي من التقاليد القضائية الراسخة؛  بل هي لا وجود لها تقريبا سواء في ممارسة القضاة لعملهم، او عند اختيارهم لتولي الوظائف.
 فالاقدمية لا تعدو ان تكون وسيلة للترجيح بين من تساوت كفايتهم، فالكفاءة تأتي دائما في المقام الاول ثم تأتي الاقدمية كمرجح عند تزاحم الكفاءات ففي ممارسة القضاة لاعمالهم،  نجد ان رئيس الدائرة – رغم اقدميته –  لا يستطيع ان يفرض رأيا لا يوافقه عليه باقي اعضاء الدائرة ولو كانوا احدث منه بعشرات السنين. بل ان القاضي الاحدث قد يكون في المحكمة الاعلى و يلغي بموجب اختصاصه احكاما صادرة من قضاة اقدم منه في المحكمة الادنى،  كما اذا الغى قضاة  محكمة النقض احكاما صادرة من قضاة اقدم منهم في محكمة الاستئناف، او ما اذا الغى قضاة محكمة ابتدائية بهيئة استئنافية او محكمة جنح مستأنفة احكاما صادرة من قاض اقدم منهم بالمحاكم الجزئية، حتى في النيابة العامة نجد وكيل النيابة الكلية يراجع  – بموجب اختصاصه – تصرفات زملائه الاقدم منه بالنيابات الجزئية في القضايا و يقترح الغاءها. فاين الاقدمية اذن!! ومتى كان لها دور في ممارسة العمل القضائي؟؟
حقيقة ان العكس هو الصحيح ، فاكثر ما يميز السلطة القضائية عن غيرها ان القاضي فيها لا رئيس له، فالاقدمية لا معنى لها في ممارسة هذه السلطة، فكل قاض لا سلطان لاحد عليه الا الله و ضميره و القانون، و هذا ما يميز هذه السلطة عن المؤسسات التي تلتزم بنظام التسلسل الرئاسي .
وكما ان الاقدمية ليس لها اي دور في ممارسة القاضي لمهنته؛ فانها  ليس لها دور ايضا في توليه وظيفته، فلا يوجد منصب في السلطة القضائية يتولاه شخص بموجب اقدميته سوى منصبي رئيس محكمة الاستئناف العامل وعضو مجلس القضاء الاعلى. اما الغالبية العظمى من المناصب فجميعها بالاختيار ومثالها: منصب رئيس محكمة النقض، ومنصب النائب العام، ونواب رئيس محكمة النقض، وقضاة محكمة النقض، ومساعدي وزير العدل، ومدير التفتيش القضائي، واعضاء التفتيش القضائي، واعضاء تفتيش النيابات، ورؤساء المحاكم الابتدائية، والنواب العامين المساعدين، والمحامين العامين الاول،  والمحامين العامين، ورؤساء النيابة العامة، ورئيس المكتب الفني بمحكمة النقض، ورئيس نيابة النقض، واعضاء المكتب الفني بمحكمة النقض، واعضاء نيابة النقض، والمعارين بالخارج، والمنتدبين للعمل داخل السلطة القضائية وخارجها، كل اولئك يتولون مناصبهم بالاختيار من بين اقرانهم و ليس بالاقدمية، فاين ذلك التقليد الراسخ الذي يدعيه البعض!!!  فحتى الترقي لا يكون بناء على الاقدمية و انما تشترط فيه الكفاءة؛ فمن لم يسمح تقرير كفايته بالترقي لا تشفع له اقدميته ويسبقه زملاؤه الاحدث منه . كما ان الدوائر بالمحاكم لا تشكل بالاقدمية وانما يختار القاضي  من يعمل معه، و لا يوزع العمل على القضاة بالاقدمية، فعلى سبيل المثال عندما تكون هناك دائرة بالمحكمة يتزاحم عليها قاضيان فهل نختار لرئاستها القاضي الاقدم (و لو كان قد قضى عمره كله بعيدا عن منصة القضاء) ام نختار لرئاستها القادر على ادارتها؟؟ كذلك فان صوت اقدم قاض في الجمعيات العمومية يتساوى وصوت احدث قضاتها. بل ان اندية القضاة ذاتها ليس الممثلون فيها لكل فئة هم الاقدم من هذه الفئة، و انما من يقع عليهم اختيار زملائهم، والامثلة على ذلك لا تنتهي.
ان لكل منصب قضائي اشتراطات فلا يجب ان يسند المنصب الى من ينوء بحمله؛ و انما يكلف به القادر عليه، و كل ما علينا هو ان نضع ضوابط لحسن الاختيار بحيث يكون الشخص مؤهلا لشغل هذا المنصب، و ان نحيطه بضمانات تؤكد نزاهته وحيدته وتباعد بينه وبين كل وسائل التأثير. و هذا هو ما انتهجته لجنة مراجعة قانون السلطة القضائية برئاسة القاضي الجليل احمد مكي، فاللجنة لم تهدر الاقدمية في شغل اي منصب كما يدعي البعض؛ فالاقدمية في الاصل لم تكن تحكم الاختيار في الغالبية العظمى من المناصب القضائية. وانما ما قامت به اللجنة هو انها نزعت من السلطة التنفيذية اختصاصها باختيار بعض شاغلي المناصب العليا (كوظيفة النائب العام و مدير التفتيش القضائي ورؤساء المحاكم الابتدائية) واسندته الى جماعة القضاة؛ حتى تكون جميع شؤون القضاة بايديهم. بل ان اللجنة ضيقت من دائرة الاختيار التي كانت متاحة للسلطة التنفيذية وحددت في القانون القضاة الذين يتم الاختيار من بينهم؛ حتى تتفادى تنافس القضاة على الترشح لمنصب معين كما يحدث عادة في الانتخابات، وتتفادى ايضا عيوب الاقدمية والتي قد تأتي بغير القادر على تولي المسؤولية المسندة اليه. وجعلت القاعدة في التصويت هي السرية حتى لا يكون هناك حرج في الاختيار.
و لا شك في ان ما سلكته اللجنة لا يحول بين القضاة المؤمنين بمبدأ الاقدمية وبين اختيار الاقدم ان شاؤوا؛ فكل ما هنالك انهم  لم يحرموا من الحق في استبعاد من يرونه غير قادر على تولي المنصب .. و لن يكون ذلك بالطبع الا لاسباب وجيهة يقدرها القضاة.. اي ان الاقدمية صارت اختيارا متاحا للقاضي، ولا اعرف سببا يجعل المؤمنين بها يسقطون حقهم في اختيارها و يأبون الا ان تفرض عليهم.
انه من اللافت للنظر ان قضاة لم يعترضوا يوما على ان يختار احد ممثلي السلطة التنفيذية  من يتولى المناصب العليا في سلطتهم القضائية نراهم اليوم منزعجين من منح القضاة حق الاختيار. و كأنهم الفوا حكم الفرد واستسلموا له، او كأن ثقتهم في قدرة السلطة التنفيذية على الاختيار اكبر من ثقتهم بانفسهم، و هم يشككون في قدرة القضاة على الاختيار رغم ان التقدير هو اساس عمل القاضي. فهل المداولة سوى تقدير لوجهات النظر المختلفة ثم اختيار لما تراه الاغلبية اصوب!!!.
ان الاختيار لتولي اي منصب لا بد ان يكون للاكفأ، لا للاقدم و لو كان غير كفء، والا ضاعت الامانة. فلقد روي ان رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فقال له صلى الله عليه وسلم "اذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة ، قال وكيف اضاعتها؟ قال اذا وسد الامر لغير اهله فانتظر الساعة"، ولا اعتقد ان هناك ما هو افضل من ان يسند الى قضاة اختيار زملائهم، فمن احرص منهم على هيئتهم!! وذلك بالطبع اعلاء لقيمة الشورى التي يرفضها البعض. فهل لنا ان نعيد النظر في ترديد عبارة " الاقدمية مبدأ قضائي"؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، مصر ، بلدان عربية أخرى



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني