مجلس النواب يكرّس حقّ القضاة بانتخاب من يمثّلهم: مادة لافتة في قانون مكافحة الفساد في القطاع العام


2019-06-28    |   

مجلس النواب يكرّس حقّ القضاة بانتخاب من يمثّلهم: مادة لافتة في قانون مكافحة الفساد في القطاع العام

للمرّة الأولى في تاريخ لبنان، أقرّ مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 26 حزيران 2019 حقّ القضاة بانتخاب من يمثّلهم. حصل ذلك في سياق إقرار مشروع قانون مكافحة الفساد في القطاع العامّ، وتحديدا فيما يتّصل بتشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (وهي هيئة إدارية مستقلة). ففيما دأب المُشرّع على منح مجلس القضاء الأعلى صلاحية تعيين الأعضاء من القضاة العاملين أو السابقين في الهيئات الإدارية المنشأة في كذا مجال[1]، فإن المُشرِّع ذهب في اتجاه مغاير أمس، بحيث نصّ صراحة على أن عضوين من مجموع أعضاء الهيئة المشار إليها أعلاه يُعيّنان بالانتخاب من مجموع القضاة العدليين والإداريين والماليين.

وللدلالة على أهمية هذا الحدث، يجدر التذكير أنه رغم تضمين اتفاق الطائف (1989) مبدأ انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة بما يتماشى مع المعايير الدولية، فإن النقاشات الرسميّة لتنفيذ هذا المبدأ بقيت تراوح مكانها حتى 2001، حين انتهى المُشرّع إلى تضييق مدى تطبيقه على نحو جرّده من أي مضمون ذات شأن. وقد حصل ذلك من خلال ثلاثة أمور: الأول، حصر الانتخاب بعضوين من مجموع أعضاء مجلس القضاء الأعلى والذي يبلغ 10 أعضاء؛ الثاني، حصر حقّ الترشح برؤساء غرف محكمة التمييز فقط أي بمن نجحوا في الارتقاء مهنيا ليصلوا إلى أعلى الهرم، وهو أمر يعني عموما في ظل التشكيلات الحالية الحصول مسبقا على رضى أحد المراجع السياسية؛ الثالث، حصر حقّ الانتخاب بأعضاء محكمة التمييز (وعددهم لا يتجاوز 9% من مجموع القضاة). وعليه، بقي سائر القضاة العدليين في الدرجتين الابتدائية والاستئنافية كما القضاة الإداريون والماليون مجرّدين من أي حقّ بالاشتراك في انتخاب ممثليهم في المجالس الناظمة لعملهم أو في أيّ هيئات إدارية أخرى. وقد أسند المشرّع آنذاك خياره بحصر حقّ الانتخاب بهؤلاء، باعتبار أنهم الأكثر نضجاً بفعل أقدمياتهم، وأن أي توسيع للهيئة الناخبة يزيد من مخاطر تسييس القضاء أو تطييفه.

وعلى نقيض هذا المنحى، رأت “المفكرة” مرات عدة بأن الإدلاء بمخاوف التسييس أو التطييف هو في عمقه ذريعة لإنكار حق القضاة بانتخاب ممثليهم وعمليا لإبقاء تعيين غالبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى من صلاحيات السلطة التنفيذية، وتاليا استتباع القضاة وتسييس عمل القضاء، وكل ذلك خلافا لاتفاق الطائف ومعايير استقلالية القضاء المعترف بها دوليا. وهي استدلّت على ذلك من أن تسييس القضاة، الذي وصل اليوم إلى مستويات جدّ مقلقة، إنما يحصل بفعل وضع القضاة في ظروف تدفعهم إلى استجداء الحماية السياسية، وهذه الظروف تتمثّل بتجريدهم من ضمانات أساسية للاستقلاليّة فضلا عن عزلهم وإلزامهم بالصمت ومنعهم من إنشاء أي إطار تضامني فيما بينهم. بالمقابل، يؤمل وفق المفكرة، أن يؤدي تمكينهم من حرية التعبير والتجمع واختيار ممثّليهم إلى تعزيز مشاعر الاطمئنان لديهم، مما يمهّد إلى نتيجة معاكسة.

وعليه، يستدعي إقرار هذا النص عددا من الملاحظات، أبرزها الآتية:

1- أنه يعكس قبولا، هو الأول من نوعه، من قبل المشرّع لفكرة اشتراك القضاة في مختلف درجاتهم وهيئاتهم في اختيار ممثلين عنهم. ويشكّل هذا القبول تطوُّراً بالنسبة إلى توجّه المشرّع الحاصل في 2001 المشار إليه أعلاه، وهو بمثابة تراجع عن تحفّظاته السابقة في هذا المضمار لجهة أن اشتراك القضاة في الانتخاب يؤدي إلى تسييس القضاء،

2- أنه يعكس تفضيلا من قبل المُشرّع لخيار مجموع القضاة على الخيارات التي قد تتخذها الهيئات الناظمة للقضاء، وفي مقدّمتها مجلس القضاء الأعلى. كما نستشف منه تشكيكا بمرجعية هذه الهيئات (المعيّنة من الحكومة) وتاليا مشروعية خياراتها أو قدرتها على ممارسة هذه الخيارات بحيادية. فكأنما المشرّع اعتبر أن اللجوء إلى انتخابات سريّة يشارك فيها جميع القضاة يشكل ضمانة أكبر لحيادية الأعضاء الذين يتم انتخابهم بهذه الطريقة،

3- أنه يفتح الطريق أمام تطبيق ما نصّ عليه اتفاق الطائف، من خلال إعادة النظر في كيفية تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى، بحيث تتعمم قاعدة الانتخاب لتشمل جميع الدرجات وعددا أكبر من أعضاء مجلس القضاء الأعلى. كما يؤدّي إشراك القضاة الإداريين والماليين في عملية الانتخاب لإعادة النظر في كيفية تعيين أعضاء مكتبي مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة. ويُذكّر أنّ اقتراح قانون استقلال القضاء العدلي وشفافيته الذي ينتظر بدء درسه قريبا في لجنة الإدارة والعدل، قد ذهب في هذا الاتجاه، بحيث نص على انتخاب 9 أعضاء في مجلس القضاء الأعلى، 3 على أساس كل درجة.

والسؤال الذي يطرح في هذا المضمار: هل يُشكّل هذا النص خياراً محصوراً بموضوع مكافحة الفساد، حيث يرغب المُشرّع بإظهار نيته في ضمان استقلال أعضاء الهيئة المعنية به من خلال فرض تعيينهم بالانتخاب السري من قبل القضاة كافة، أم أنه يشكل منعطفا في سياسات التشريع بحيث يكرّس حق القضاة كافة في انتخاب ممثلين عنهم في الجسم القضائي في هذا الخصوص؟ دون المضي بعيدا في التكهنات وبانتظار ما ستسفر عنه مناقشة اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته خلال الأشهر القادمة، تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يصحّ منطقيا على اختيار أعضاء هيئة مكافحة الفساد، يصحّ من باب أولى على اختيار أعضاء المجلس الذي يتولى المسارات المهنية للقضاة ويفترض به أن يشكل ضمانة أساسية لاستقلالهم. أي قول معاكس يعني أنه يجدر أن تكون ضمانات مكافحة الفساد أبدى من ضمانات استقلال القضاء، وهو قول مخادع وعبثي بقدر ما هو مخادع وعبثي أن نعلن تمسكنا بغاية معينة (مكافحة الفساد) في موازاة العمل على تقويض امكانات الوصول إليها (أي استقلال القضاء).

 


[1]  مثال على ذلك القانون الخاص بالمفقودين والمخفيين قسرا وقانون إنشاء االهيئة الوطنية لحقوق الإنسان.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، استقلال القضاء ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني