على بعد شهر كامل من الاعتكاف القضائي الذي بدأه عدد كبير من القضاة في تاريخ 6 أيار 2019، وبصورة مستقلة عن مجلس القضاء الأعلى، وقف القضاة ليشرحوا للرأي العام الأزمات التي يعاني منها الجسم القضائي، والتي شكلت الأسباب الرئيسية وراء اعتكافهم.

أراد القضاة إشراك الرأي العام في حراكهم، ممارسين حقهم بالتعبير، وذلك في الندوة التي عقدوها بتاريخ 31 أيار 2019 في نقابة الصحافة. وما يميزها أمران: أن الدعوة هي باسم “نادي قضاة لبنان“، الذي تأسس في نيسان 2018 (وهو الأول من نوعه منذ وقف جمعية حلقة الدراسات القضائية في أوائل السبعينيات) ويواجه منذ ذلك محاولات عدة لكبحه أو سحب العلم والخبر منه، والميزة الثانية أنها المرة الأولى التي يدعو فيها قضاة لندوة أمام الإعلام بصورة مستقلة. وrقد هدفت هذه الندوة وفق الداعين إليها إلى “كسر اللامبالاة لدى الناس وإشراكهم في معركة الاستقلالية، فالْيَوْم الرأي العام هو شريك أساسي معنا (القضاة) لذا نطلب منكم جميعاً أن تمدوا لنا يد العون وتساعدوننا لتحقيق قضيتي استقلال القضاء ومكافحة الفساد” بحسب ما ورد في كلمة مقدمة الندوة الصحافية صبحية نجار.

الندوة تخللها كلمات وبيانات وقفت عند أهم المحطات التاريخية للحراكات القضائية وهي الحراكات القضائية التي ساهمت بإحداث أهم التغييرات في الجسم القضائي. بدءاً من إنشاء “حلقة الدراسات القضائية” عام 1969 وتحويل أحد أركانها الى المجلس التأديبي بسبب محاضرة عن “التشكيلات القضائية”، مروراً باعتكاف عام 1982 والذي أدى إلى إنشاء صندوق تعاضد القضاة، وصولاً إلى توقيع 352 قاض وقاضية على عريضة تُطالب بوضع قانون لاستقلالية القضاء عام 2017، والذي أدى إلى إنشاء نادي قضاة لبنان. ولعل أبرز ما قيل في هذه الندوة هو الاعتذار الذي تقدم به نادي قضاة لبنان من الشعب اللبناني عما ارتكبه ويرتكبه بعض القضاة.

وقد حصلت الندوة بمشاركة المفكرة القانونية لتمثل الائتلاف المدني لاستقلالية القضاء وشفافيته بحضور الرئيس التنفيذي للمفكرة المحامي نزار صاغية، وإلى جانبه، شاركت جمعية “كلنا إرادة”. كما حضر الندوة القاضي السابق المحامي منيف حمدان الذي أعلن تأييده التام لحراك القضاة. كذا وتمثل نقيب المحامين الأسبق عصام كرم بالمحامي جاد طعمة الذي شدد على أهمية مطالب القضاة المعتكفين. والواقع أن الكلمات والبيانات في الندوة تُليت على مسمع من ذوي السياسة والمناصب العليا القضائية والمنظمات الدولية. إذ حضر الندوة نواب في البرلمان اللبناني، وهم جورج عقيص (الجمهورية القوية)، بلال عبد الله (اللقاء الديمقراطي)، إبراهيم الموسوي (حزب الله)، وشامل روكز (لبنان القوي). كما حضر رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي سهيل عبود وهو من أبرز المرشحين لتولي رئاسة مجلس القضاء الأعلى، فضلا عن زهاء ثلاثين قاضيا غالبيتهم من أعضاء النادي. كما لوحظ حضور ثلاثة أعضاء من مجلس نقابة محامي بيروت (إيلي حشاش وإيلي بازرلي وفادي بركات) الذين فسر وجودهم على أنه دعم لللحراك القضائي، بما يناقض بيان مجلس نقابة محامي بيروت الصادر قبل يوم واحد من الندوة والذي تضمن عبارات جاز وصفها بالتهديدية للقضاة. وحشد من المحامين والإعلاميين والناشطين في الجمعيات الحقوقية. وأُلقيت في الندوة كلمة لمنظمة هيومن رايتس ووتش (آية مجذوب) وتم توزيع كلمة مكتوبة باسم المفوضية السامية لحقوق الانسان في الأمم المتحدة. كما حضرت ممثلة عن منظمة العفو الدولية لين معلوف.

نعتذر لنتوقف عن الاعتذار:

ونعتكف لأن القضاء ليس بخير

بداية، وقفت رئيسة نادي قضاة لبنان القاضية أماني سلامة، أعلنت باسم القضاة المعتكفين الاعتذار من الشعب اللبناني قائلةً: “نعتذر من الشعب اللبناني الذي نحكم باسمه، لأن بعضنا لم يقم بملاحقة فاسدي هذا الوطن”. أرادت القاضية سلامة وضع الأمور في نصابها، عبر التوضيح للرأي العام بأن هناك قضاة نزيهون لا يد لهم فيما يحصل من فساد وهدر في لبنان، وبأن أي تعميم في محاسبة القضاة ليس في محله. أضافت سلامة: نعتذر “لأن بعضنا لم يقطع دابر الهدر الفاضح في الدولة، نعتذر لأن بعضنا استقوى بالغير ولم يستقوِ إلا على الضعيف، نعتذر لأن لبعضنا حسابات شخصية ومساومات تعيق ارتقاء القضاء إلى حيث يجب، نعتذر لأننا لم نستطع العمل على استرداد بعض من حقوقنا إلا بالاعتكافات، نعتذر لأننا لم نحاسب أنفسنا كفاية، نعتذر لأننا لم ننتزع بعد استقلاليتنا الكاملة، نعتذر لكل ذلك ونعتذر بعد وأكثر”. سلامة عرضت كافة الأسباب التي دفعت القضاة للانتفاض بوجه مجلس القضاء الأعلى والسلطات السياسية وإعلان الاعتكاف. ولعل أبرز هذه الأسباب هي ثقافة التدخل بالقضاء، التي وصلت إلى حدّ لا يُمكن تحمله، فلا بد من “إقرار قانون لاستقلالية القضاء”. وكان من اللافت أن القاضية سلامة استعادت عبارة تشرشل الشهيرة لترسل إنذارا شديد الدلالة: “القضاء ليس بخير” ويفهم إذا أنه لهذا السبب الوطن ليس بخير.

وفي ختام البيان تمنت سلامة “أن تمسي قصور العدل يوما” كأكاديمية أثينا القديمة، عصية على دخول السياسيين إليها، فيستوي الملك ويتوقف القضاء عن الاعتذار. لقراءة البيان كاملاً.

كلام القاضية سلامة يأتي بعد مرور 4 أسابيع من اعتكاف وصفه بعض القضاة الحاضرين في الندوة أنه أشبه بالاعتكاف الشامل، بيد أن “كلمة السر” التي تُهمس في آذانهم من جوانب عدة، هي “أوقفوا الاعتكاف”. وتجلت آخر محاولات إيقاف الاعتكاف، بإرسال مجلس القضاء الأعلى إلى رؤساء المحاكم في كافة المحافظات أن ينظموا لائحة بأسماء القضاة المعتكفين وغير المعتكفين، وذلك بعدما أصدر بياناً بدعوة القضاة الرجوع عن اعتكافهم. البيان الذي صدر كان أشبه بالعصا المرفوعة على من يقرر المضي بالاعتكاف، إذ طلب المجلس من “القضاة الذين ما زالوا معتكفين إلى متابعة عملهم كالمعتاد اعتبارا من (الجمعة الفائت) على أن يتحمل كل منهم مسؤوليته عن موقفه”. وهنا نُذكر أن الاعتكاف لا يزال مستمرا رغم هذا الوعيد بانتظار النظر في استمراره أو وقفه يوم الإثنين المقبل (10 حزيران).

سلامة وقفت عند اعتكافين سبقا الاعتكاف الحالي، في 2017 و2018. وشرحت بأن أهم ما رشح عنهما أولاً، “هو عريضة الاستقلالية الموقعة من 352 قاض مالي واداري وعدلي طالبوا فيها السلطة السياسية بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية بمهلة معقولة يقضي بانتخاب القضاة مجالسهم وحصر التشكيلات القضائية بهذه المجالس”. وثانيا”، “نشوء نادي قضاة لبنان من رحم الحراك والقناعة والاحلام”. وأما ثالثا”، توقفت سلامة عند كتاب رئيس مجلس القضاء الأعلى رقم 54/2018 تاريخ 20/3/2018 المرسل إلى وزير العدل السابق (سليم جريصاتي) إثر تحميل هذا الأخير الأول مسؤولية عدم ضبطه الوضع القضائي. حينها تضمن الكتاب صراحة أن “لا رئيس مباشر أو غير مباشر للقاضي كي يخضع له أو كي ينفذ تعليماته أو أوامره وليس هنالك قيادة وريادة في القضاء لا قانونا” ولا واقعا” وليس هنالك فصل بين مجلس القضاء الأعلى والقضاة”. وعند هذه النقطة الفارقة، شرحت سلامة أننا “نستغرب صدور تعميم، أطاح بمسلمات هذا الكتاب التاريخي الذي ضاعف وقتها العنفوان في نبض القضاة الأحرار، يهدد القضاة بتحمل مسؤولية اعتكافهم ويطالبهم بالتوقيع على لائحة يحددون فيها موقفهم”. كانت سلامة تقصد هنا تعميم مجلس القضاء الداعي إلى وقف الاعتكاف وأن يتحمل كل قاض مسؤولية موقفه.

حين يطلب القضاة دعم الشعب في معركة استقلالهم، على الشعب أن يستجيب

اختار المدير التنفيذي للمفكرة القانونية ممثلاً الائتلاف المدني لاستقلالية القضاء وشفافيته التركيز على أهمية مؤازرة الشعب اللبناني القضاة في حرب استقلالهم. وذلك يعود لسببين رئيسين بحسب صاغية. الأول “أنها دعوة تنم عن التحول الحاصل والهام جدا على مستوى الحراك القضائي، وهي بمثابة إشارة تحوّل في أدوات دفاع القضاة عن أنفسهم وعن القضاء”. وأضاف، “فمن هذه الدعوة، نفهم بوضوح أن القضاة اختاروا بعد تجارب عدة الخروج من حال الصمت والعزلة للتوجه للشعب والرأي العام، لمصارحته والاحتكام إليه، طالما أنهم يحكمون باسمه، وطالما أنه هو مصدر كل السلطات”. والسبب الثاني أن أهمية الدعوة، “تكمن في كونها تقوم على وضع جميع القوى الاجتماعية أمام مسؤولياتها، محامين ونقابات محامين فضلا عن المنظمات غير الحكومية والقوى الاجتماعية والسياسية على اختلافها، لملاقاة القضاة في منتصف الطريق. فالقضاء ليس شأنا للقضاة وحدهم، بل هو شأن عامّ”. كذا واعتبر صاغية أن “استقلال القضاء ليس حقا للقضاة أو امتياز لهم، بل هو أولا حق للمواطن بالتقاضي أمام مرجع محايد ومستقل وقادر”.

وشرح صاغية بأن المفكرة والائتلاف، يفهمون هذه الدعوة على أنها “دعوة عامة ومستمرة” وهي “خارطة طريق، يؤمل منها أن ترسي نمطا جديدا في الحراك داخل القضاء وحوله وأن تؤسس لعلاقة جديدة بين القضاء والقوى الاجتماعية، نرجو أن تترسخ وتتطور”. وشرح صاغية بأنها “دعوة نرددها مع القضاة بمثابة سؤال كبير لنا جميعا، إيمانا منا بواجبنا في الدفاع عن المجتمع وعن مصالحه”. وأضاف، “نحن خسرنا الكثير من حقوقنا وأماننا الاجتماعي خلال العقود الماضية، حين تم الافتئات على استقلال القضاء، تحت جنح الصمت واللاحركة. فهل نترك القضاة الآن وقد قرروا المواجهة وحدهم، أم نلبي الدعوة تعزيزا لحظوظ نجاحنا في صد هيمنة السلطة الحاكمة وتحكمها بكل شيء؟”. لقراءة الكلمة كاملة

سلوك السلطة تجاه القضاة: قضم معنوي ومالي مستمر

استخدم القضاة لافتات عُلقت في القاعة تضمنت مواقفهم. إحدى هذه اللافتات عرضت واقع سلوك السلطة اللبنانية تجاه القضاء، التي تتصل بالقضم المستمر المعنوي والمالي. وهذا القضم تجلى بـ “إعداد مشاريع قوانين تطال السلطة القضائية، دون أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى كما تفرض المادة 5 من قانون القضاء العدلي. أيضاً، “تجاهل صندوق تعاضد القضاء، وإصدار قانون للسير في العام 2012 جفف مصدر رئيسي لتمويل الصندوق”، ثم في العام 2017 إصدار قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي جعل راتب القاضي أقل من راتب كثير من الموظفين، بالإضافة إلى إعداد مشروع موازنة 2019 الذي يُنهي واقعياً الضمانات المالية للقضاة من خلال تخفيض نسبة مساهمة الدولة في صندوق التعاضد، وتخفيض حصة الصندوق من غرامات السير وحضر تحصيلها بالخزينة العامة، وإلغاء جميع الإعفاءات الممنوحة للقضاة”.

كما دُوّن على إحداها أن لاستقلال القضاء متطلبات، أهمها: “استقلالية القضاء وظيفياً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، الاستقلالين المالي والإداري، الاستقلالية في المؤسسة القضائية، انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى، استقلالية القاضي الشخصية، النزاهة والكفاءة في اختيار القضاة، والمحاسبة الذاتية المستمرة البعيدة عن التأثيرات غير القضائية، والمبنية على مبدأ الثواب والعقاب بشكل صارم، ضمانات القضاة في التعيينات والمناقلات والملاحقات الجزائية والتأديبية”.

بالنسبة للمطالب، شدد القضاة على أولاً “وضع مهلة زمنية معقولة من قبل السلطة التشريعية لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وثانياً الشروع بمكافحة الفساد فعلا” لا قولا” وإطلاق يد القضاء في ملاحقة الفاسدين من خلال إلغاء النصوص المكرسة للحصانات ورفع السرية المصرفية وتولية من هم أهل للملاحقة وتوفير ضمانات عدم نقلهم، ثالثاً، استثناء القضاة من مشروع الموازنة الراهن بموجب نص صريح فيها ولجميع الجهات وإبقاء الحال على ما هو عليه، تفعيلا” لنص المادة 20 من الدستور”.

حراكات تاريخية أرادت الاستقلالية

القاضي السابق المحامي منيف حمدان، قالها بالصوت العالي “يشرفني أن أقف أمامكم لأعلن تأييدي الكامل للحركة التي قام بها نادي قضاة لبنان، لأن فيها الدواء الشافي لكل العلل التي يمر بها لبنان”. واستحضر حمدان قصة المحاضرة التي ألقاها أحد أركان “حلقة الدراسات القضائية” القاضي نسيب طربيه (أحد مؤسسي حلقة الدراسات القضائية ورئيسها الأول) عن التشكيلات القضائية. يقول حمدان، آنذاك “صفق لطربيه جميع الحضور من القضاة الكبار، كما نحن يوم كنا متخرجين جددا من معهد القضاء. وعندما وصل الأمر إلى أولي الشأن، تغير الموقف وأحيل نسيب طربيه إلى المجلس التأديبي”. يُضيف: “قال (المحامي) نصري المعلوف وكيله حينها، إنكم جميعا تحسدون هذا البطل على العقوبة التي ستنزل به لأنها أشرف وسام يعلق على صدره وعلى صدر القضاة الأحرار والمحامين”.

وأما نقيب المحامين السابق المحامي عصام كرم، فلفت إلى أهمية احترام حقوق القضاة، من خلال كلمة قرأها باسمه المحامي جاد طعمة لتعذر حضوره عن الندوة بسبب حادث ألمّ به: “ما يجري، اليوم، في القضاء دليلٌ على شيء أساس: الافتقار إلى سياسة قضائية تقوم على ركيزتين: نطلب للقاضي لنستطيع أن نطلب من القاضي”. وسأل كرم “كيف يستطيع قاضٍ أن يربع بالقوس، وفي باله هاجس القسط المدرسي، وفي باله أعباء الصحّة والاستشفاء”. إذن، بحسب كرم فإن الأمور تستقيم بأن “أطلب له، وأطلب منه، أي لأطلب منه عدلاً في الناس”.

بدورها، أكدت الأستاذة ديانا كلاس باسم مجموعة “كلنا إرادة”، على الدعم الكامل لاقتراح “القانون حول استقلال القضاء العدلي وشفافيته، وهو من الشروط الأساسية لقيام دولة القانون ومكافحة الفساد وتأمين المناخ الاستثماري السليم لتحقيق شروط التمويل المنصوص عنها بمؤتمر سيدر”.

من جهتها، لفتت الباحثة في شؤون لبنان والبحرين في منظمة هيومن رايتس ووتش آية مجذوب، إلى أن “دور القضاء أساسي في جهودنا لحماية حقوق جميع سكان لبنان على قدم المساواة ودون تحيز، وبدون استقلال السلطة القضائية لن تلاقي جهودنا أي نجاح”. لذلك، دعت باسم المنظمة، “جميع الأطراف المعنية إلى ضمان استقلال السلطة القضائية اللبنانية والدفاع عن قضاء خال من أي تدخل خارجي”.

  • مقالات ذات صلة:

نعتذر من الشعب اللبناني… لكن القضاء ليس بخير…

حين يطلب القضاة دعم الشعب في معركة استقلالهم، على الشعب أن يستجيب