الكورة المسكونة منذ 12 ألف سنة قبل الميلاد تقفز إلى خارطة آثار لبنان


2019-05-22    |   

الكورة المسكونة منذ 12 ألف سنة قبل الميلاد تقفز إلى خارطة آثار لبنان

“ليس فقط البناء، الزيتون والطبيعة، الثروة الرئيسية في الكورة تكمن في أهلها” خطت هذه الجملة المشرفة على المشروع الأثري في شمال لبنان (NoLeP) الأستاذة في الجامعة اللبنانية (كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، الفرع الثالث-طرابلس) مي حيدر، فوق لوحة (بانو) تجمع نحو عشر صور عن حياة ناس الكورة. عرضت اللوحة في معرض الصور الفوتوغرافية لنتائج حملتي الإستكشاف الأثري في منطقة الكورة، الذي استضافته قلعة طرابلس الجمعة في 17 أيار 2019، لمناسبة اليوم العالمي للتراث.

مع توصيف أهالي الكورة وأهميتهم كثروة رئيسية في منطقتهم، كشفت بعثة الآثار عن اكتشاف ستين موقعاُ أثريا وتراثياً في الكورة حتى الآن، يعود بعضها إلى 12 ألف سنة قبل الميلاد. اكتشافات تكرس أهمية المنطقة كأحد الموائل (الأمكنة) الرئيسية والمستمرة لعيش الإنسان.

أجريت وتجري الحملتان بالتعاون بين المديرية العامة للآثار في وزارة الثقافة والبعثة الإيطالية اللبنانية المسوؤلة عن المشروع الأثري في شمال لبنان (NoLeP)، خلال عامي 2017-2018.

يقول الدكتور ماركو ياموني من جامعة أوديني الإيطالية، الذي يتشارك الإشراف على البعثة مع حيدر، ل”المفكرة”، أن البعثة تمكنت من إيجاد آثارات من العصر الحجري القديم أي 12 ألف سنة قبل الميلاد في الكورة”، مستندة في استنتاجها إلى مجموعة من “حجارة الصوان والأدوات المصنوعة منها كالسكاكين وغيرها”.

ويتوافق حيدر وياموني على أن هذه المعطيات الأثرية والتراثية المكتشفة في الكورة تدلّ على “تتابع الحياة في المنطقة منذ ما قبل التاريخ ولغاية اليوم”. وذلك يدل على “غنى المنطقة بالموارد الطبيعية والبيئة المناسبة لاستمرار عيش الإنسان. وهنا تكمن أهميتها”.

هذا العمل يتوافق مع نظرية وفكرة مؤرخ البعثة د. لويجي توري من جامعة فيرونا الإيطالية الذي ربط بين مدينة أَميّة القديمة المذكورة في النصوص التاريخية من الألفية الثالثة ما قبل الميلاد ومنطقة أميون، عاصمة الكورة حالياً. “فبعد تحليل المصادر التاريخية، أصبح واضحًا أنّ العلاقة المحتملة بين أميون وأميّة القديمة كانت على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن أميّة القديمة تبرز باعتبارها واحدة من أهم المراكز في المنطقة في إثنين ولربّما ثلاثة مصادر تاريخية مختلفة”، وفق ما يؤكد توري ل”المفكرة”.

تأتي أهمية العمل الأثري في الكورة الداخلية واكتشافات البعثة “كونه لا يوجد مشروع سابق عن المنطقة يحدد آثاراتها، ورغبة في التحقيق ضمن قطاع من المناطق الساحلية الداخلية اللبنانية، وهي منطقة كانت منسيّة حتى الآن من معظم مشاريع التنقيب عن الآثار”، وفق ياموني. يضاف إلى ذلك ثلاثة أسباب رئيسية تكمن في الخصائص الجيولوجية -المورفولوجية (علم شكل المنطقة وتضاريسها) المتغيرة للمنطقة، ممّا يجعلها حالةً دراسيّة فريدة من نوعها للقيام بالتنقيب عن الآثار في المنطقة. وتُظهر الكورة أربعة أقسام مختلفة هي الساحل والهضبة والسهول والجبال. كما وأن هناك مجريا مياه رئيسيان هما نهر أبو علي ووادي الهاب، اللذين يَعبُرَانها، وبخاصّة الأول الذي يُعتَبَر نهرَ المنطقة الرئيسي الذي يَقْسِم السهل بين منطقتي الكورة وزغرتا.

وتشجع النسبة المحدودة للتوسع العمراني في الكورة على المسح ألأثري، وفق حيدر، فهي، “على عكس الساحل، لا تغطّي المباني الحديثة معظمها، بل إنّها توفِّر ظروفًا مثالية لمسح أثري مناطقي ناجح”.

ولذا “هدف المسح إلى تحديد المواقع الأثرية وتعدادها، وتم مسح أثري وتراثي شامل لمنطقة وسط الكورة (أميون ومحيطها) للتعرف إلى تاريخ المنطقة. وتبيّن لنا وجود آثار تعود إلى ما قبل التاريخ أي قبل اكتشاف الحرف وإلى العصر البرونزي فالفينيقي إلى العثماني”.

وعليه، تضمن المعرض 21 لوحة تتناول “جغرافية وتاريخ منطقة الكورة، وتظهر الفترات التاريخية المتعددة لسكن الإنسان المكتشفة أثناء المسح الأثري، بدءاً من عصور ما قبل التاريخ أي قبل اكتشاف الحرف، وإلى الفترة العثمانية مروراً بعصر البرونز، والفترة الفينيقية والهلنستية والرومانية والبيزنطية حتى العصور الوسطى”، وفق حيدر.

وكان مهماً بالنسبة لمشرفيّ البعثة، ياموني وحيدر، ردة فعل أهل الكورة الذين فرحوا بالإكتشفات الأثرية وغنى منطقتهم، وكانوا متعاونين مع المسح الميداني الذي جرى بين بيوتهم في غالبية الأحيان. “كنا نقفز حرفياً من حديقة هذا المنزل إلى حديقة منزل آخر، فغالبية الآثارات موجودة في الأملاك الخاصة العائدة لأهل الكورة، وذلك على مدى عامين هي فترة استمرار المسح الأثري”.

وجاء مفاجئاً لأهل الكورة تحديد البعثة ل 60 موقعاً أثرياً، من بينها ثلاثين موقعاً في أميون وحدها. وشمل البحث قرى وبلدات جبل قلحات وددة وبترومين وفيع وبطرام وبشمزين وكوسبا، حتى الآن. على أن يستكمل العمل مع أهل المنطقة، بعد نقل المعرض من طرابلس إلى الكورة، وعقد مؤتمر يشرح النتائج المفصلة لعمل البعثة واكتشافاتها”. وبعد الكورة، سيحمل دكتور ياموني صور الآثارات واكتشافات الكورة ليعرضها في جامعة أوديني الإيطالية أيضاً.

ونظراً إلى النقص في المعرفة حول آثارات الكورة، رصدت البعثة تدخلاً بشرياً في مواقع اكتشفتها لمقابر قديمة “حيث يتم سحب بعض حجارة المقابر الأثرية، كما يتم اقتطاع أجزاء من المنطقة الأثرية في أميون، والتي تأتي على شكل تل، لبناء عمارات فيها”. وعليه، تمّ إنجاز خريطة بالمواقع لحمايتها، ولوضع استراتيجية تتعلق بآثارات المنطقة ككل، وهو الهدف الذي سعت إليه المديرية العامة للآثار من وراء التعاون بالإضافة إلى تحديد موقع المنطقة على الخريطة الأثرية في لبنان.

ووجدت البعثة أن 60% من الآثارات المكتشفة تشير إلى وجود مستوطنات لعيش الإنسان في الكورة. ويعود 50% منها إلى العصر البرونزي والفينيقي، مع تكملة سكنية، مما يدل على أن الإنسان لم يترك الكورة طوال الحقبات الزمينة منذ ما قبل التاريخ ولغاية اليوم. وتصل نسبة المكتشفات المستكملة لسكن الإنسان من كنائس أثرية وأديرة ومدافن قديمة، وجسور وآبار لتجميع المياه إلى 40% من مجموع المكتشفات.

ركّز العمل في العام 2017 على المسح المكثّف في مناطق عبر وادي هبّ وأبو علي وعلى التحقّق الميدانيّ الذي تمّ تحديده في صُوَر الأقمار الصناعية. كانت العملية الأولى “ناجحةً جدًا”، وفق تقدير البعثة، نظرًا لأن عمليات المسح “كانت مفيدة للغاية للكشف عن آثار الوجود البشري بخاصةٍ تلك ذات الأبعاد الصغيرة أو حتى ذات طابع موسميّ”. وهذه لم تكن مرئية في صور الأقمار الصناعية ولا في المناظر الطبيعية. ومن بين هذه الاكتشافات وجود “خمسة كهوف أو ملاجئ صخرية تقع على المنحدرات الشديدة لضفاف الوادي. وقد لوحظ وجود بعضها بالفعل على طول الوادي من قبل الفريق الياباني العامل في لبنان (واتانابي، 1970) ويعود تاريخها إلى العصر الحجري القديم والإيباليوليتي “(Epipaleolithic). وعلى الرغم من عدم إجراء دراسة نهائية، يعتبر مشرفا البعثة “أن جمعَ عددٍ كبيرٍ من الأدوات والقطع الحجرية (débitage) على طول المنطقة المحدّدة يشهد على تواتر وجود إنساني في الوادي في مرحلة ما قبل التاريخ”. ويعتبران في توثيق نتائج المسح أنه “من المهمّ أيضًا أنّ يتركّز المسح على الجانب الغربي من الوادي: وقد لا يكون هناك أي صلة مع ظهور السلسلة الصخرية من الحجر الجيري المحلّي. وفيما ننتظر تحليلًا أكثر دقة لليثيات المُكتشفة، فإننا نفترض فقط التاريخ المبكر وفقًا للأعمال المنجزة في كهف كيِويه (Keoue) (Watanabe, 1970). وبشكلٍ عام، تمّ تأكيد وجود مهمّ لمجموعات العصر الحجري القديم/والإيباليوليتي (Epipaleolithic) في المنطقة وقد تمّ تأكيد اكتشاف اثنين من المواقع الأخرى التي تتميز بمجموعة واسعة من الأدوات الحجرية، والتي سوف تسمح دراستنا بفهم طبيعة هذه المواقع الأثرية بشكل أفضل”.

والاكتشاف الآخر “الجدير بالذكر”، وفق حيدر وماكوني، هو “حقل المدافن التلّية (وهي 9 في مجموعها) ويقع في الأقسام الثانية. وهذا الاكتشاف كان “غير مُتوقَّع” بحيثُ أنَّ المدافن التليّة “توجَدُ عادة في مناطق جنوب شرق لبنان (كما في الأردن مثلًا) أو شمالًا كما في حمص-سوريا (Philip and Bradbury ، 2010 ؛ Bradbury and Philip ، 2011) أو في سهل البقاع (Tallon، 1959). ويعتبر مشرفا البعثة أن هذا الاكتشاف في منطقة الكورة “يعتبر حدثًا مطلقًا، الأمر الذي سيتطلب المزيد من التحقيق، كون هذا النوع من دفن الأموات متّصلا بوجود مجموعات رعوية/بدوية من العصر البرونزي المبكر (Kepinski ، 2006)”. وحاليًا، توثق البعثة “عدم وجود دليل لاقتراح تسلسل زمني دقيق للمدافن التلّية، ذلك أنّه لم يتم العثور على أي أدوات على مقربة منها. وقد يشير هذا بالتالي، إلى احتمال أن تكون هذه المدافن قد وُجِدَت في وقت أبكر بكثير مما كان يُعتقد عادة. وسيتم فتح مسارات وأقسام مستقبلية بهدف التحقق من وجود أدلّة أخرى مماثلة، وذلك من أجل بناء قاعدة بيانات أوسع وأشمل تسمح بتوضيحٍ أفضل لدور هذه التلال الصغيرة في منطقة الكورة (المدافن البسيطة أو علامات الطرق البدوية أيضًا)”. كما ستركز الأعمال المقبلة على المناطق التي لم يتم مسحها في الكورة.

ونتيجة للتحقّق الميداني، سمحت أعمال 2017 بتحديد ثلاثة أشكال مختلفة على الأقلّ من مجموعات المواقع لم تتمكن البعثة بعد من تقديم تعريفٍ دقيق لطبيعتها. “فبشكل عام، تبدو صغيرة إلى حدٍّ ما وقد تكون ذات طابع ريفي. ومع ذلك، يبقى هذا مجرّد تقديرٍ بسيط يحتاج إلى إثبات من خلال دراسة تفصيليّة للأدلة المستخرجة” وفق المشرفين على البعثة. ويتعلق الجانب الأكثر أهميةً بالقطع التي تمّ جمعها بأنه “على الرغم من أنّ هذه الأنواع من القطع تعود عادةً إلى الحقبة الكلاسيكية/القديمة المتأخرة/القرون الوسطى/الإسلامية – مما يعززّ أهمّيّة تعاقب الحضارات الذي تميزت به المنطقة خلال الحقبات اللاحقة – إلّا أنّ جميعها تقريبًا تُظهِرُ بشكل عام – وعلى الرغم من أنها ضعيفة – وجود قطع أثرية من العصر البرونزي وعصر الحديد التي تشير إلى أصل الكثير من هذه المواقع (وربما المستوطنات) خلال العصرين الثالث والثاني قبل الميلاد مع تعاقبٍ لها خلال القرن الأوّل قبل الميلاد”.

يختم الدكتور ماركو ياموني بالقول “موقع منطقة الكورة مهم جداً كصلة وصل للتبادل التجاري من مصر إلى سوريا والعراق، حيث يوجد لبنان في المنتصف، وشكلت الكورة واحدة من الطرقات من حيث الموقع الإستراتيجي”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني