نخرج من مسرحية “وما طلت كوليت[1]” بمزيج من المشاعر: مشاعر غضب ضد نظام ما يزال قاصرا عن ضمان عدالة المحاكمة العادلة، وفي الآن نفسه مشاعر إعجاب بمبادرة إحدى أبرز ضحايا هذا النظام إلى تحويل معاناتها إلى عمل فني متميز بأناقته، عمل يؤمل أن يعزز الوعي بأهمية المحاكمة العادلة. وكان بطل المسرحية زياد عيتاني قد تعرّض لملاحقة بتهمة العمالة لإسرائيل، مما أدى إلى توقيفه لأكثر من ثلاثة أشهر (قضى قسما كبيرا منها من دون أي اتصال بالخارج) وتعذيبه وتسريب التحقيقات السرية معه بما فيها من معطيات مسيئة إلى وسائل الإعلام، ليتبيّن من ثم أن المعلومات التي شكلت سنداً لملاحقته قد تم تلفيقها، من باب الانتقام الشخصي من قبل ضابطة رفيعة المستوى في قوى الأمن الداخلي.

وقد شكّلت هذه القضية في تفاصيلها من دون ريب مثالاً فاضحاً لانهيار المهنية في الإعلام والأمن والقضاء. ويأتي هذا التقرير الذي أردناه شاملا[2]، ليوثق المخالفات التي شابت ملاحقة الممثل زياد عيتاني على اختلافها: ويُراد منه ليس فقط أن يوثّق المخالفات الحاصلة في قضية واحدة، إنما أيضا أن يظهّر من خلال هذه المخالفات جوانب الخلل العميقة (وبعضها متأصلة) في المنظومة اللبنانية والتي ليس من الممكن أن نفهم ما وصلت إليه قضية عيتاني من دونها. ويرتدي استنباط هذه الجوانب وتظهيرها أهمية أساسية لاستشراف الخطوات الإصلاحية الضرورية لمنع تكرار ما حصل.

ونسارع هنا إلى القول بأن فجاجة قضية عيتاني لا تجعل منها قضية معزولة، إنما على الأصح رسما كاريكاتوريا لنظام ما لبث بفعل عيوبه، يسبب مظالم كثيرة مشابهة في هذا الجانب أو ذاك للمظالم المرتكبة بحق عيتاني، مظالم يعجز ضحاياها في الغالب عن مقاومتها أو حتى الكشف عنها على غرار ما تسنى لهذا الأخير أن يفعله.

1- البداية: محاكمة شعبية واسعة… غيابيا

الرواية بلسان عيتاني

إذ أنهى عيتاني التمرين على مسرحية جديدة، فوجئ بشابين هجما عليه وسحباه بالقوة إلى داخل سيارة رباعية الدفع “رانج أسود فيميه” وفق ما أخبرنا إياه عيتاني في مقابلة خاصة معه. قال عيتاني أن أحدهما “ضربه على وجهه وصدره وعصب عينيه”. اقتيد عيتاني إلى ما وصفه بـ “غرفة مجهزة للتعذيب”، مدهونة بكاملها بالأسود وتتدلى من جدرانها خطّافات معدنية. وسيثبت خلال محاكمة تلفيق التهمة له لاحقا وجود هذه الغرفة التي تمت تسميتها بالغرفة السوداء[3]. كما قال عيتاني أن 6 رجال بملابس مدنية كانوا موجودين، اتهمه أحدهم “بالتعامل مع إسرائيل” ولكمه على وجهه.

يعتبر عيتاني أن الدقائق الخمس الأولى بعد وصوله إلى المبنى كانت كفيلة بإثارة الرعب في نفسه. “دغري قالولي يا عميل يا أخو الش…. حطوني بأوضة ما عرفت شو هيي…” هددوه بإلحاق الأذية بإبنته وزوجته. ونقلت منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن عيتاني بأن المحققين قالوا له “عليك أن تتكلم لأنه يجب أن تفهم أن التعذيب موجود في جميع البلدان[4]“.

وكانوا قد طبعوا على أوراق A4 محادثاته عبر الإنبوكس على “فايسبوك” مع “نيلي جايمسيون” التي أصبحت لاحقاً “كوليت فيانفي”. وكان هناك سرير وملف وضع تحته، كتب عليه “أمن الدولة”. حينها أدرك عيتاني أن الجهاز الذي “خطفه” كان أمن الدولة. “ثم وضعوني على كرسي ثابت وفي يداي الكلبشة. عندها أيقنت أنني في ورطة كبيرة”.

قال عيتاني أن الرجال، الذين كان معهم ملف مكتوب عليه “أمن الدولة”، حققوا معه نحو ساعتين أو ثلاث حول علاقته مع إسرائيل. ثم قال له أحدهم أن يتصل بزوجته ليخبرها بأنه سيغيب لمدة 10 أيام. وانهالوا عليه بعدها بالأسئلة. سألوه عن محمد بركات، مستشار وزير الداخلية محمد المشنوق ثم عن حسن مراد، إبن النائب عبد الرحيم مراد، بصفتهم أقرب أصدقائه. وقد قرر عيتاني حماية لنفسه أن يدلي بمعطيات لا تصدق، على نحو يجنبه التعذيب ويمكنه في الوقت نفسه من إثبات عدم صدقية هذه المعطيات. وعليه، اخترع قصة الفيديوهات الجنسية، وأعطى المحققين عنوان سفارة لبنان في إسطنبول كعنوان التقى فيه المدعوة كوليت.

“يوم الجمعة استعانوا بورقة ضغط جديدة. أرادوا أن يظهروا لي أن الجميع تخلّى عني بعدما علموا بالتهمة الموجهة إلي. أروني الستايتس الذي كان كتبه صديقي يحيى جابر وهو يعبر عن سخطه ضدي (تفو)، ثم ما كتبه بعض الأصدقاء والناشطين على “فايسبوك”. وقد أرادوا من خلال ذلك إحباطي وإعلامي بأنه لن يدافع عني أحد. كما أنهم حاولوا ابتزازي. قالوا لي “إذا ما بتمشي معنا، رح توّرط ماجدولين (زوجته السابقة)”. حتى أن أحد المحققين هدده بحرق منزل أهله.

قابل عيتاني مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس يوم السبت 25 تشرين الثاني في مكتب الملازم أول فراس عويدات في السوديكو، حيث كان محتجزاً. لم يعرّف جرمانوس عن نفسه ولم يعلم عيتاني من يكون. كان الضابط يمسك بكتفه طوال وقت المقابلة ولم يطلب القاضي منه تركه. طلب منه إعادة إفادته. فقرر عيتاني إعطاءه رواية مختلفة عن الأولى. “قلت له أن ما دفعني “للتعامل” مع كوليت هو “غروري كمثقف”. كما أنه لم يوقع على محضر بعد انتهاء التحقيق مع جرمانوس.

وبعد عودته إلى غرفة التحقيق، قرر المحقق الثاني جبران ميسي (المعروف بـ “غابي”) أن يثير موضوع السكرين شوت. وكان عيتاني أخذ في 2017 سكرين شوت عن علامة لايك (إعجاب) أبدتها المقدّمة الحاج على تعليق للمخرج شربل خليل اعتبر مسيئا للمرأة السعودية. وفيما عادت الحاج وحذفت علامة الإعجاب هذه، أعاد موقع “أيوب نيوز” الإخباري نشرها، مما أدى إلى إقالة الحاج من منصبها كرئيسة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية. ويخبرنا عيتاني أن المحقق “غابي” طلب منه أن يعترف “بأن كوليت طلبت منه القضاء على سوزان الحاج لأنها نجحت بمكافحة الشبكات الإسرائيلية”.

“الأحد كان نهارا جهنميا”. دخل صحافيون غرفة التحقيق وتابعوا الجلسة، “هذا طبعاً قبل أن يبدأوا بتعذيبي”. بعد خروجهم، حصلت مشادة بين عيتاني والمحقق الثاني وقال له أنه يرفض التوقيع على محضر التحقيق. “عندها قرروا الانتقال إلى التعذيب. “استمروا في تعذيبي حوالي 22 ساعة؛ “تعليق، كرباج، ربطوني بجنازير ما عدا راسي وصاروا يلبطوني. كسرولي 3 أضراس”. الملازم أول توّلى المهمة بشكل رئيسي. “فرجاني صور عيد لين (إبنته) وقللي “مبسوط عم تعيّد بلاك الش…”. بكيت وصرخت وفقدت وعيي لبعض الوقت. “حتى أنهم حاولوا اغتصابي من خلال إدخال عصا في مؤخرتي”. وأضاف عيتاني لبرنامج “أنا هيك” على قناة “الجديد”: “بعد الضرب تم تقييدي من قدماي إلى رقبتي. بالتالي إذا ما أردت أن أسير أفقد توازني لأنه بات هنالك ثقل على جسدي، وكلما أقع يضربني أحدهم كي أعود وأقف[5]“.

أراد المحققون إجبار عيتاني على التوقيع على المحضر وأن يقرّ بأنه تلقى الأموال من كوليت. وقع يوم الإثنين فتوقفوا عن تعذيبه. وأُبقي عيتاني قيد الاحتجاز في مركز مديرية أمن الدولة 6 أيام.

رواج التسريبات الاعلامية

طوال هذه التحقيقات الأولية ومنذ اليوم الذي تلا توقيف عيتاني، كان تسريب الأخبار لوسائل إعلام متفرقة ونشرها قائما على قدم وساق. وبتاريخ 24 تشرين الثاني، صدر البيان الأول[6] للمديرية العامة لأمن الدولة حول القضية، بعد ساعات من نشر الصحافي رضوان مرتضى أول مقال له عن القضية في جريدة “الأخبار”. وصف البيان العملية “الإنجاز” بأنها “نوعية إستباقية في مجال التجسس المضاد” وبأنها أتت نتيجة “الرصد والمتابعة والاستقصاءات على مدار شهور” وأنها استطاعت “تثبيت الجرم فعلياً على المشتبه به زياد عيتاني”. حسم إذاً البيان الأول أن عيتاني عميل وأن التحقيقات هدفها فقط كشف المؤامرة التي كان يتمّ التحضير لها من خلال تزويده “معلومات موسعة عن شخصيتين سياستين بارزتين” تنوي المخابرات الإسرائيلية اغتيالهما. وسرعان ما تبيّن أن هاتين الشخصيتين هما وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق والنائب عبد الرحيم مراد. أكد هذان الشخصان الخبر وتلقيا اتصالات مهنئة بسلامتهما من الرؤساء الثلاثة الذين هنأوا اللبنانيين أيضاً بنجاتهم من مخطط خطير كان يستهدف البلاد. وإلى جانب التلميح إلى تحضير عيتاني لمحاولات اغتيال، أشار البيان إلى أن هذا الأخير كان يعمل “على تأسيس نواة لبنانية تمهّد لتمرير مبدأ التطبيع مع إسرائيل، والترويج للفكر الصهيوني بين المثقفين”.

وأعدّ تلفزيون “المستقبل” تقريرا عن “محاولة اغتيال المشنوق” فهنأه على نجاته واعتبر أنها كانت “تحضر في أروقة العدو الإسرائيلي لإشعال فتنة لبنانية داخلية، كلف بها الفنان المسرحي زياد عيتاني[7]“.

عندها بدأ السباق بين التلفزيونات المحلية، خاصة بين ما يسمّى بـ “برامج الإثنين” في 27 تشرين الثاني 2017. خصصت الإعلامية ريما كركي جزءاً من حلقة برنامجها “للنشر[8]” على قناة “الجديد” للكشف عن تفاصيل التحقيق في قضية عيتاني. وبموازاة عرض “للنشر”، كان الإعلامي جو معلوف عبر “هوا الحرية[9]” على شاشة “ال.بي.سي” يقرأ مباشرة على الهواء ولحوالي 20 دقيقة محاضر التحقيق مع عيتاني. وضع تسلسلا زمنيا واضحا للعلاقة التي جمعت عيتاني بالضابطة الإسرائيلية كوليت فيانفي منذ العام 2015 وكانت هذه الأخيرة قد حظيت أيضاً برسم تشبيهي عرضته كل من “ال.بي.سي.” و”الجديد”.

ويشير عيتاني في مقابلته مع “المفكرة” إلى أن جو معلوف وريما كركي قرأوا المحاضر مباشرة على الهواء، فيما كان التحقيق مستمرا معه، وهو لم يوقع على المحضر إلا في اليوم التالي. “كان المحققون يقومون بتحضير حلقتي البرنامج أثناء التحقيق معي”.

اعتبر جميع الذين نقلوا المعلومات المسرّبة أن هذا واجبهم أو على الأقل بأن الأمر طبيعي. المحامي جوزيف أبو فاضل رأى في مقابلته مع برنامج “العين بالعين[10]” عبر “الجديد” أن من حقه نقل ما ورده من معلومات بحجة أن الملف أصبح في عهدة القضاء، علما أنه كان ما يزال عالقا أمام قاضي التحقيق العسكري، الذي تخضع أعماله للسرية.

تفاعل الرأي العام بشكل كبير مع المعلومات الهائلة التي كانت ترده من كل حدب وصوب. وقد اضطر أمن الدولة تبعا لذلك إلى إصدار بيانا ثانيا[11] لاسيما أن عيتاني كان قد غيّر كلّ ما أدلى به في إفادته الأولى. صدر البيان في 28 تشرين الثاني 2017، في اليوم الذي تمّ تحويل عيتاني فيه إلى القضاء العسكري. كشف أن الجهاز داهم منزل عيتاني و”ضبط في غرفة نومه كميّة من المخدّرات، بالإضافة إلى أربعة حواسيب إلكترونيّة، وخمسة أجهزة خلويّة، تبيّن في التحقيقات أنّه يخزّن فيها الداتا السرّية. وتمنى البيان في الختام على وسائل الإعلام أن تحصل على معلوماتها “مباشرة من قسم الاعلام والتوجيه في المديرية العامة، حفاظاً على الدقة والصدقية، وحرصاً على عدم استباق نتائج التحقيقات وعلى سمعة جميع الذين وردت أسماؤهم في التحقيق”.

ختاما، نشير في هذا الصدد إلى أنه لم يصدر أي موقف عن النيابة العامة التمييزية أو مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس حول القضية.

لكن وعلى الرغم من تبني معظم المعنيين ومعهم الرأي العام للرواية التي نقلها الإعلام، إلا أن السلوك التطبيعي لهذا الأخير مع التسريبات الأمنية لم يسلم من الإنتقادات، وإن بقيت هذه الإنتقادات محدودة. ومن أبرز هذه الانتقادات، مقالين للصحافي منير الربيع في جريدة “المدن”[12]“والخبير القانوني عمر نشابة في جريدة الأخبار[13] فضلا عن  برنامج “بلا طول سيرة” على شاشة “المستقبل”[14].

وعليه، وإذا وضعنا جانبا هذه الانتقادات التي بقيت محدودة، لا نبالغ إذا قلنا أن الرجل تعرض لمحاكمة شعبية واسعة غيابيا in abstentia.

2- كيف انتهى قاضي التحقيق إلى منع محاكمة عيتاني؟

وبالعودة إلى مجريات القضية، تمّ نقل عيتاني بتاريخ 28 تشرين الثاني إلى المحكمة العسكرية تمهيدا لمثوله أمام قاضي التحقيق العسكري. إلا أنه تعين عليه أن ينتظر ثلاثة أيام للمثول للمرة الأولى أمام هذا الأخير، قضاها في الحبس الانفرادي.

مثل عيتاني للمرة الأولى أمام قاضي التحقيق يوم الجمعة الواقع في 1 كانون الأول، أي بعد ثلاثة أيام من نقله إلى المحكمة العسكرية. “فور دخولي إلى مكتبه، بدأت بالصراخ وقلت له “كيف بتعذبوني هيك؟” وأريته يداي لأن آثار التعذيب كانت لا تزال واضحة عليهما. قلت له: “أنا بريء، مظلوم وقد ضربوني”. سجّل القاضي الادعاءات وطلب وفق عيتاني فحصا طبيا له، لكن الطبيب لم يحقق في إدعاء التعذيب إنما فحصه فقط من الناحية الصحية. خلال هذه الجلسة، حضر محامي عيتاني معه، وقد استمهل للاطلاع على الملف ومقابلة موكله. فلم يحصل أي تحقيق في خصوص القضية بحد ذاتها.

بعد الجلسة، يروي عيتاني أنه بقي في زنزانة المحكمة العسكرية 27 يوما لم يتمكن خلالها من لقاء أيا من معارفه أو محاميه، ولم يحصل ذلك إلا بعد انتهاء جلسة استجوابه أمام قاضي التحقيق (وهي الجلسة الثانية) والتي حصلت بتاريخ 18 كانون الأول.

خلال الجلسة الثانية التي استمرت حوالي 3 ساعات بحضور محاميه صليبا الحاج، يروي عيتاني أنه أخبر القاضي أنه “اخترع شخصية كوليت وأنها ليست موجودة تحت وطأة التهديد والتعذيب”. عندها طلب مني القاضي سرد ما حصل معي منذ لحظة “خطفي”. “أخبرته بكل شيء بما فيه التعذيب. منعني من التعرض لجهاز أمن الدولة عندما وصفته بـ”Beau Rivage 2“.

بعد هذه الجلسة، سمح لعيتاني بمقابلة شقيقته وزوجته للمرة الأولى في 25 كانون الأول، أي بعد شهر ويومين على توقيفه. قال لهما أن سوزان الحاج هي التي لفقت القضية وطلب منهم التواصل مع أحد الاعلاميين (فداء عيتاني). “تمّ ذلك فقط عبر فتحة في الباب وبحضور عسكريين وقال إنه لم يتمكن ولا مرة من مقابلة محاميه أو أسرته على انفراد[15]“، حسب ما صرّح عيتاني لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”. بعدئذ، نقل عيتاني إلى سجن روميه وبقي هناك حوالي 31 يوما. وضع في مبنى “المحكومين” الذي يضم جميع المتهمين والمحكومين بالجرائم الخطرة. ويكشف عيتاني أنه بقي خائفا طوال مدة وجوده في روميه من أي محاولة اعتداء قد تكون مدبرة.

وفيما نسي الإعلام عموما[16] عيتاني بعدما كانوا صنفوه ضمن العملاء، نشر الصحافي ف. عيتاني في 3 مقالات (حلقات) متتالية على مدونته في كانون الثاني وشباط 2018 ما كان حصل عليه من معطيات من زوجة عيتاني ومفادها أنه أدلى باعترافاته تحت وطأة التعذيب، وأن التهمة لفقت له من قبل المقدمة الحاج انتقاما منه. وعلى الرغم من خطورة تلك المعلومات التي نشرها ف. عيتاني، لم يتفاعل الرأي العام معها بداية. فالقضية سريالية في كل جوانبها والضخ الإعلامي الذي رافقها ساهم في إضعاف فرضية عيتاني.

بتاريخ 6 شباط 2018، مثل عيتاني للمرة الثالثة أمام قاضي التحقيق العسكري، الذي قرر التوسيع في التحقيق وإحالة الملف إلى فرع المعلومات.

وقد نقل عيتاني فعليا إلى مقر شعبة المعلومات في 26 شباط وبقي هناك حوالي أسبوعين. وتأكد هؤلاء من صحة أقواله بعدما اكتشفوا حصول قرصنة على حسابه من قبل المدعو إيلي غبش، بناء على طلب المقدمة سوزان الحاج. تم توقيف هذين الأخيرين ليتم الادعاء عليهما لاحقا بتهمة تلفيق العمالة. بالمقابل، أطلق سراح عيتاني في 13 آذار 2018 وأقفل أبو غيدا القضية ضده في 29 أيار 2018 بعدما أصدر قرارا بمنع المحاكمة عنه واتهم غبش والحاج بتلفيق التهمة له.

3- قضية تلفيق التهمة في الفضاء العام

بقدر ما أثار اتهام عيتاني بالعمالة ضجيجا كبيرا في الفضاء العام، كذلك حصل عند ظهور الرواية المناقضة. وفيما سعت بعض الجهات إلى استثمار القضية سياسيا وبخاصة انتخابيا، خرجت أصوات قليلة في الإعلام ولكن كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد وجود مؤامرة (أو على الأقل شبهة على وجود مؤامرة) أدت إلى تبرئة عيتاني لاستمالة أبناء هذه العائلة الذين يشكلون نسبة هامة من ناخبي الدائرة الثانية في بيروت. وقد أدى هذا البازار إلى التشويش على الجوانب الحقوقية من القضية بشكل كبير.

الاستثمار السياسي

استهلّ الاستثمار السياسي الشخص المركزي في هذا الخصوص وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي غرّد على صفحته على “تويتر” مهنئاً عيتاني ببراءته مستبقاً بالتالي نتائج التحقيقات لدى فرع المعلومات. لا بل أن المشنوق ذهب على سبيل المزايدة إلى حدّ مطالبة اللبنانيين بالإعتذار من عيتاني. “كل اللبنانيين يعتذرون من زياد عيتاني. البراءة ليست كافية، الفخر به وبوطنيته هو الحقيقة الثابتة الوحيدة”. ووصف عيتاني بأنه “البيروتي الأصيل العربي الذي لم يتخلّ عن عروبته وبيروتيته يوماً واحداً[17]“.

وقد بدا الابتذال واضحا في كلا التغريدتين. وهذا ما أشارت إليه العديد من التعليقات عليهما، أبرزها التعليقات التي ذكرت بأن المشنوق كان أول من تبنى رواية أمن الدولة وتقبل التهاني لنجاته من محاولة الإغتيال.

وقد بلغ هذا الاستثمار أوجّه في يوم الإفراج عن عيتاني. نقلت التلفزيونات مباشرة لحظة ظهور عيتاني لأول مرة خارج مقر فرع المعلومات ولحقته إلى السرايا الحكومي حيث قام بزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري قبل التوجه إلى منزله في طريق الجديدة الذي غصّ بالسياسيين الذين سعوا لاستثمار القضية لتحقيق مكاسب إنتخابية. وكما كان الوزير المشنوق أول الوافدين إلى منزله.

استغلال الاستثمار السياسي لحجب المسؤوليات والجوانب الحقوقية من قضية عيتاني

بمراجعة الخطاب العام، نتبين أن وقاحة هذا الاستثمار السياسي شكلت مادة خصبة للتشكيك بما وصل إليه التحقيق، بحيث صورت تبرئة عيتاني على أنها عمل سياسي يراد منه تحقيق مكاسب انتخابية. وفيما أدى هذا الخطاب عموما إلى التخفيف من تعاطف الرأي العام مع عيتاني، فإن البعض ذهبوا إلى حد التأكيد على وجود مؤامرة قوامها اختلاق رواية التلفيق بهدف تبييض ملف عيتاني. وقد تماهى هذا الخطاب عموما مع المساعي إلى الحفاظ على هيبة جهاز أمن الدولة بشكل خاص.

ولعل أبرز المواقف في هذا الخصوص، موقف النائب زياد أسود في سياق رده على وزير الداخلية: “رح نعتذر منك لأنك عميل بغطاء وحماية … يا سلام على العملاء الكلاس… دخلكم العميل بلا حماية شو منقلو sorry بدك تاكلها…بلا حماية بس هك[18]“. لكن ما لبث أن محا أسود تغريدته ليعود مجددا إلى هذه النغمة الاتهامية لعيتاني حين تهيأ هذا الأخير لإطلاق عمله المسرحي في تشرين الثاني 2018.

وبتاريخ 3 آذار، حلّ جوزيف أبو فاضل مجدداً كضيف على الإعلامية نانسي السبع في برنامج “الحدث اليوم”. حاول أبو فاضل تسخيف خطورة القضية بحيث وضعها في إطار الصراع الطائفي والسياسي. رأى أن وزير الداخلية، مدعي عام التمييز، مدير عام قوى الأمن الداخلي ورئيس فرع المعلومات أرادوا استلام التحقيق لأنهم من الطائفة السنية والمتهم سني ولأنهم أرادوا استباق الانتخابات النيابية. وأصرّ أبو فاضل على أنه على الرغم من اتهام الحاج بفبركة الملف، فإن هناك معلومات ودلائل لدى أمن الدولة تؤكد تورط عيتاني. “الأساس هناك تعامل، هناك اتصال، هناك كل شيء…لا أدري كيف فجأة أصبح بريئا. لو كان بريئا، كان اتصل الرئيس الحريري برياض أبو غيدا وخرج. لا تحتاج إلى كل هذه “البرمة[19]“.

وقد اكتسب هذا التشكيك منحًى جديدا من خلال إلقاء ضباب كثيف حول أعمال قاضي التحقيق العسكري. وقد كان الخطاب الأكثر وضوحا في هذا الخصوص هو خطاب رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب الذي دخل فيما يمكن وصفه بمهاترة شخصية مع القاضي المذكور، وذلك خلال برنامج “الأسبوع في ساعة” في 4 آذار 2018. وقد اعتبر وهاب أنه إذا صح أن الرجل بريء يجب أن يدخل مكانه رياض أبو غيدا[20]“.

الخطاب الرسمي: تبرئة عيتاني من دون المسّ بهيبة أمن الدولة

إلى جانب الخطابين السابقين، برز خطاب سياسي ثالث، قوامه الحفاظ على هيبة أمن الدولة، في موازاة التأكيد على براءة عيتاني. وسرعان ما بدا هذا الخطاب بمثابة الخطاب الرسمي، الذي اتفق عليه رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. وهو خطاب يؤدي عمليا إلى حجب اعتبارات المسؤولية، وبالأخص مسؤولية أمن الدولة.

ومن أبرز المواقف في هذا الإطار، الدعوة التي وجهها الحريري في 3 آذار “إلى سحب القضية من التجاذب السياسي والإعلامي، والتوقف عن استغلالها لأغراض تسيئ إلى دور القضاء والأجهزة الأمنية المختصة[21]“. كما رفض الحريري تحميل مسؤولية ما جرى لأمن الدولة. ورأى عند استقباله عيتاني ووالدته أنه “بآخر المطاف، القضاء حقق العدالة، ولا شك في أن بعض الأخطاء ارتكبت، ولكن الدولة وأجهزتها قامت بواجباتها وكانت معلومات خاطئة قد وردت إلى جهاز، وهذا الجهاز قام بعمله ولكن تمّ التلاعب بالمعلومات التي وردت إليه[22]“، لاغيا بالتالي أي إمكانية لمحاسبة جهاز أمن الدولة.

فضلا عن ذلك، أصدر المكتب الإعلامي للقصر الجمهوري بياناً انتقد فيه أداء وسائل الإعلام بعدما كان التزم الصمت تجاه التسريبات التي رافقت توقيف عيتاني. وشدد البيان على “ضرورة إبقاء الملفات التي وضع القضاء يده عليها، بعيدة من أي استغلال لأي هدف كان[23]“.

الخطاب الإعلامي

من انتظر مراجعة ذاتية من قبل الإعلاميين المشتركين في إدانة عيتاني سرعان ما خاب أمله. على العكس من ذلك، لم يجد هؤلاء أي حرج في الظهور مجددا في وسائل الإعلام، لتحميل سواهم (القضاء بشكل خاص) المسؤولية والتأكيد على أن ما قاموا به بديهي ويندرج في إطار العمل الصحافي المهني، بل أن بعضهم ذهب حتى إلى إبقاء عيتاني في دائرة الاتهام. وحده رئيس تحرير “الأخبار” إبراهيم الأمين اعترف أن القضية شكلت درسا مهما للإعلام داعياً إياه للتخلي عن الهوس بالسبق الصحافي بشكل كليّ. ورأى أنه يجب أن “نتحفّظ كثيراً، وأن ندقق في كل معلومة بمعزل عن مصدرها، ومدى دقته أو صدقه أو حِرَفِيّته. وهو درس، قاسٍ، له تبعاته المهنية وأكثر[24]“.

الخطاب الحقوقي

رغم ما تحتمله القضية من أبعاد حقوقية، فإن هذه الأبعاد بقيت هامشية بفعل السياسة الرسمية في حجب مسؤولية الأجهزة الأمنية، فضلا عن التجاذبات السياسية والمجاملات الإعلامية. وما فاقم من ذلك هو لحظة الإفراج نفسها والتي طغا عليها الاستثمار السياسي. وبمعاينة التطور الحاصل، أمكن القول أن تطور هذا الخطاب ارتبط بشكل ما بجهوزية الضحية لمواجهة المظالم التي تعرضت لها وتراجع الاستغلال السياسي ونظرية المؤامرة، بحيث بدا هذا الخطاب وكأنه ينضج بشكل تدريجي، على نحو يؤمل معه أن تصبح عناوينه هي العناوين الأساسية لهذه القضية.

ولعل الخطوة الأهم في هذا الصدد، هي الخطوة التي قام بها عيتاني نفسه وتمثلت بالعرض المسرحي “وما طلت كوليت”، والذي تم إطلاقه تزامنا مع الذكرى السنوية الأولى لتوقيف عيتاني في 23 تشرين الأول 2018. وقد تمكّنت المسرحية من تسليط الضوء على أهمية المحاكمة العادلة من خلال إبراز حجم الانتهاكات الفاضحة التي تعرض لها بطل المسرحية، سواء من القوى الأمنية أو من الإعلام.

واللافت أن الرقيب الأمني على عرض المسرحيات (وهو المديرية العامة للأمن العام) أعطى الترخيص بعرضها من دون أي إشكال، رغم ما تحمله من تشكيك بجهاز أمني آخر هو أمن الدولة واتهامات مباشرة له بارتكاب أعمال تعذيب. وهذا الموقف الذي يتعارض مع العديد من أعمال الرقابة السابقة حيث شكلت هيبة هذه الأجهزة أحد أهم مجالات الحماية[25]، إنما يعكس تعاطفا واضحا مع المعاناة التي تكبدتها الضحية[26] ومساهمة في ترميم هذا الضرر.

“أخيرا، يسجل أن عيتاني تقدّم للنيابة العامة التمييزية في بيروت بتاريخ 20 كانون الأول 2018 بشكوى ضد كلّ من المقدمة الحاج وإيلي غبش والمحققين جبران ميس وإيلي برقاشي وضباط وعناصر ومحققين في جهاز أمن الدولة الذين كانوا موجودين في التحقيق وكلّ من يظهره التحقيق متورطاً. وقد عرض فيها الجرائم التي أدلى بتعرّضه لها وهي تباعا الافتراء الجنائي وتأليف جمعيات الأشرار للنيل من الناس ومخالفة المادة 47 وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائية وتعذيب داخل السجن والتعدي على الحرية وجرم التهديد والتحقير وإساءة استعمال السلطة وإفشاء سرية المعلومات والتحقيقات والإهمال المتعمد من الضباط.

وقد شهدت هذه الشكوى تطورين سلبيين:

الأول، أن النائب العام التمييزي اكتفى بإحالتها كما هي إلى مفوض الحكومة العسكري بيتر جرمانوس، من دون أي تحقيق خلافا للمادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجعل المحاكم العدلية صاحبة الاختصاص للنظر في مخالفات الضابطة العدلية في سياق التحقيقات الأولية.

الثاني، أن جرمانوس لم يجرِ أي تحقيق إنما اكتفى بإحالة الشكوى إلى المحكمة العسكرية الدائمة، لتضم إلى دعوى تلفيق التهمة المقامة ضد غبش والحاج. وقد أعاد رئيس المحكمة العسكرية الشكوى إليه لاحقا.

4- ماذا تخبرنا قضية زياد عيتاني؟

كما سبق بيانه، تبدو هذه القضية بمثابة كاريكاتور شديد الدلالة عن أوضاع الملاحقات الجزائية. ومن أبرز الدروس التي يجدر تسجيلها، الآتية:

تراجع القيم المهنية في الإعلام والقضاء والأمن

من أهمّ الشواهد على تراجع هذه القيم، الآتية:

أوّلا، أن بعض وسائل الإعلام ارتكبت خطأ مريعا حين سارعت إلى نشر تفاصيل التحقيقات الأولية مع زياد عيتاني، من دون إبداء أي تحفظ لجهة كونها تحقيقات أولية قد تكون بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وفي انتهاك جسيم لقرينة البراءة. وما يزيد الأمر جسامة هو غياب أي مصلحة عامة من شأنها أن تبرر هذا النشر بما رافقه من تشهير وفضح للخصوصيات،

ثانيا، أن جهاز أمن الدولة يرجح أن يكون ارتكب أخطاء جسيمة، ابتداء من التعذيب وتسريب التحقيقات والتهديد والاحتجاز لآماد تجاوزت الفترة المسموح بها قانونا (48 ساعة تقبل التمديد مرة واحدة)، هذا فضلا عن الأخطاء الفنية المرتكبة في تقييم الوثائق المسلمة إليه أو في الاستجواب والتحقيق. وما يفاقم من مسؤولية هذا الجهاز هو الإقرار الحاصل أمام المحكمة العسكرية بوجود “الغرفة السوداء”. وثمة أدلة قوية على أن هذه الأخطاء لا تشكل أخطاء فردية بل أخطاء جهاز، بدليل أن المديرية العامة لأمن الدولة أصدرت بيانين سميّا العملية بالإنجاز وكشفا العديد من المعلومات، وأن “الغرفة السوداء” التي جرى فيها التعذيب ثبت وجودها في مركز أمن الدولة حسبما أقر به عناصره أمام المحكمة العسكرية. كما أن العديد من الإعلاميين رجحوا أن تكون التسريبات حصلت من قبل أمن الدولة بهدف الترويج لدوره بما أسمته “المفكرة” بـ “الأمن الديماغوجي”.

ثالثا، أن القضاء بدوره ارتكب انزلاقات فادحة على صعيد هذه الدعوى. فقد ارتكب مفوض الحكومة العسكري بيتر جرمانوس خطأ مريعا حين لزم الصمت إزاء تسريب التحقيقات الأولية، فلم يتحرك لا لمحاسبة الفاعلين ولا حتى لوقفها، علما أن هذه التسريبات تشكل جرائم واضحة. كما أنه حتى نهاية آذار 2019 (أي بعد مرور سنة على افتضاح الأخطاء) لم يقم بأي تحقيق أو ملاحقة، على الرغم من تقدم عيتاني بشكوى في هذا الخصوص. وبالطبع، تتحمل النيابة العامة التمييزية من موقعها الهرمي، جزءا من المسؤولية في هذا الإطار، ولا سيما أنها عادت وأحالت شكوى عيتاني المقدمة إليها إلى مفوض الحكومة العسكري، خلافا للمادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنح اختصاص النظر في أخطاء الضابطة العدلية في التحقيقات الأولية للمحاكم العدلية وليس للمحاكم العسكرية. فضلا عن ذلك، ثمة أسئلة تحتاج إلى أجوبة دقيقة حول كيفية إدارة الملف من قبل قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا، لجهة كيفية تعامله مع ادعاء عيتاني بتعرضه للتعذيب أو مع عزل عيتاني لفترة طويلة مع منع زيارته، من أي كان بما فيهم ذويه ومحاميه.

المجاملة بدلا عن المحاسبة

الأمر الثاني الذي نتعلمه من قضية عيتاني وهو ملازم لتراجع القيم المهنية، هو سواد المجاملة في التعامل بين مختلف الأجهزة والمؤسسات. فالإعلام ينقل التحقيقات كما وردت من دون تحقيق كأنما وسائل الإعلام مجرد علبة بريد يضع فيها الجهاز الأمني ما يشاء. كما أن القضاء يترك التسريبات جارية على قدم وساق من دون أن يستشعر أي حاجة للتدخل، متناسيا أن هذه التحقيقات تجري قانونا بإشرافه وتحت مسؤوليته.

ولا تتأتى المجاملة عن التخلي عن الدور الرقابي وحسب، بل هي تنسحب على التخلي عن أدوار المحاسبة والمساءلة بدليل غياب أي ملاحقة رغم انقضاء ما يزيد عن السنة على انفضاح التجاوزات الحاصلة في التحقيقات الأولية. وعليه، وبدل أن يضع الإعلام والقضاء يديهما على تجاوزات أمن الدولة، تُبذل على العكس من ذلك جهود كبيرة للتستر على هذه التجاوزات، وفق ما نستشفه من التصريحات المتلاحقة بعد افتضاح حادثة تلفيق تهمة العمالة.

وبالطبع من شأن هذا الواقع أن يمهد لمزيد من الانهيار على صعيد القيم المهنية وأقله لتكرار ما حصل. وبالفعل، في غضون أقل من سنة، عاد الجهاز الأمني نفسه وبعض الإعلاميين أنفسهم ليكرروا الفعل نفسه في ما عرف بقضية صانع الأوشام[27] المتعايش مع فيروس نقص المناعة.

مخالفات جسيمة على صعيد المحاكمة العادلة

تخبرنا القضية علاوة على ذلك عن ارتكاب مخالفات جسيمة على صعيد المحاكمة العادلة وانتهاك قرينة البراءة. ويتحصل ذلك من التجاوزات الحاصلة خلال التحقيقات الأولية وأهمها الآتية:

  • تعذيب معنوي ومادي،
  • تسريب تحقيقات أولية على نحو أضر بسمعة عيتاني ضررا بليغا،
  • منع عيتاني من الاتصال بذويه أو بمحاميه خلافا للمادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية،
  • إبقاء عيتاني موقوفا قيد التحقيق الأولي لدى أمن الدولة طوال 6 أيام بما يتجاوز مدة التحقيقات الأولية المسموح بها وهي 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة،
  • إبقاء عيتاني في الانفرادي طوال فترة شهر ومنعه من التواصل مع ذويه ومحاميه،
  • غض قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا الطرف عن واقعة التعذيب الظاهرة على جسد عيتاني والتي عبر عنها منذ لقائه الأول به، بما يناقض اتفاقية مناهضة التعذيب وواجبات القاضي في حماية حقوق المشتبه بهم كما سائر المتقاضين،
  • وأخيرا، محاكمة ملفقي تهمة عيتاني أمام المحكمة العسكرية المكونة في غالبيتها من ضباط، من دون أن يكون لعيتاني أن يتمثل في المحاكمة. ومن شأن هذا الأمر أن يمهد لإفلات هؤلاء من العقاب أو للحكم عليهم بعقوبات غير متناسبة مع خطورة الجرم، وأن يهدد حق عيتاني بالحصول على تعويض عن الأضرار الجسيمة التي أصابته.

الفوبيا تمهيدا للمخالفات ونقض قرينة البراءة

بالإضافة إلى ما تقدم، تظهر قضية عيتاني هشاشة مضاعفة للأشخاص المشتبه بهم بارتكاب أفعال تثير فوبيا لدى الرأي العام كما هي أفعال العمالة. الأمر نفسه نتبينه في القضايا التي يكون فيها المشتبه به من الفئات الهشة المعرضة للمواقف المسبقة (الفوبيا) مثل اللاجئين أو المثليين أو متعاطي المخدرات … إلخ. ففي هذه الحالات، تسهّل الأحكام المسبقة والفوبيا ارتكاب الانتهاكات فيما يشكل الدفاع عن هؤلاء الأشخاص أو الاعتراض على الانتهاكات المرتكبة ضدهم أعمالا غير شعبية إن لم نقل أعمالا مرفوضة اجتماعيا.

قصور اجتماعي عن استثمار المظالم لبناء منظومة حقوقية

بخلاف ما يجري في دول عدة حيث تنتهي فضائح كهذه إلى اضطراب ضميري واسع وإصلاحات بنيوية منعا لتكرارها مستقبلا، سرعان ما تجاوز الرأي العام اللبناني صدمة عيتاني بعدما تم إغراقها في المهاترات السياسوية والطائفية. وقد تمّ ذلك بمساهمة فاعلة من أطراف سياسيين، في مقدمتهم رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك المشنوق، الذين سعوا إلى استثمار الإفراج عن عيتاني لتحقيق مكاسب انتخابية. كما تم بفعل الأطراف الذين سعوا إلى التستر على أخطاء جهاز أمن الدولة، وقد استغلّ هؤلاء مساعي الاستثمار السياسي للقضية لادّعاء وجود مؤامرة أدت إلى قلب الحقائق وتصوير عميل على أنه ضحية. ولم يتردد بعض المتحدثين في الإعلام عن التشويش على القضية وإغراقها في لعبة التطييف والتسييس على نحو يبدّد أي اضطراب ضميري حولها. ومن اللافت في هذا الإطار الهجوم الذي شنه سياسيون وإعلاميون ووزير العدل نفسه على القاضي رياض أبو غيدا بعدما تجرأ على توضيح بعض الحقائق في الملف الذي هو في عهدته، فيما أن هؤلاء لم يتفوهوا بكلمة إزاء التسريبات الإعلامية لملف التحقيقات الأولية. بل أن أحدهم كان ممن يسربون هذه التحقيقات. وعليه، وبدل أن يدفعنا انهيار القيم المهنية إلى فتح ورشة إصلاحية واسعة، فإذا بنا نعتبر هذا الانهيار قدرا ونتيجة طبيعية للتطييف على نحو يجعلنا عاجزين عن التسليم ببراءة عيتاني. ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا التشويش الحاصل في هذه القضية أدى إلى تفتيت الرأي العام حولها وبالنتيجة إضعاف التعاطف مع عيتاني إلى درجة كبيرة.

لا تعويض للضحية

الأمر الأخير الذي تعلمنا إياه هذه القضية، وهي أيضا ملازمة لكل ما تقدم، هو إعراض الدولة عن منح أي تعويض معنوي أو مادي لعيتاني، رغم تورط العديد من أجهزتها في التسبب بضرره. وهكذا، كان عليه أن يتحمل وحده الضرر الناتج عن توقيفه طوال 109 يوما والاعتداءات الجسيمة المرتكبة ضده والتي رافقت هذا التوقيف. ويبدو تسامح الرقابة (الأمن العام) في منحه إجازة عرض مسرحيته اللفتة الرسمية الوحيدة تجاهه وهي لفتة لا تزيد شيئا عما تجيزه له حرية التعبير المضمونة دستوريا، والتي تفترض حكما الحق بفضح الظلم والاعتراض عليه.

  • نشر هذا المقال في العدد | 59 |  نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 لمن القانون في لبنان؟


[1]  مسرحية مقتبسة عن الحادثة التي تعرّض لها الممثل زياد عيتاني.

[2]  تجدون النسخة الكاملة من التقرير على الموقع الالكتروني للمفكرة.

[3]  إلهام برجس. استجواب لافت في قضية “تلفيق تهمة العمالة لزياد عيتاني”: الغرفة السوداء موجودة وجرمانوس لا يحقّق في قضايا التعذيب. المفكرة القانونية، 23 شباط 2019

[4]  لبنان: زياد عيتاني يروي تفاصيل تعذيبه

https://www.hrw.org/ar/news/2018/07/15/320264

[5]  أنا هيك. قناة الجديد، 21 تشرين الثاني 2018

[6]  “أمن الدولة”: هذه اعترافات المسرحي زياد عيتاني الموقوف بتهمة التواصل مع العدو

https://bit.ly/2A8r4ES

[7]  إحباط مخطط اسرائيلي لاغتيال المشنوق. تلفزيون المستقبل، 24 تشرين الثاني 2017

[8]   ريما كركي. برنامج للنشر. قناة الجديد، 27 تشرين الثاني 2017   http://bit.ly/2CTLYwi

[9]  جو معلوف. هوا الحرية. قناة أل.بي.سي.، 27 تشرين الثاني 2017

[10]   العين بالعين: حلقة التعامل والعملاء. قناة الجديد، 30 تشرين الثاني 2017

http://bit.ly/2CGlUAH

 

[11]  امن الدولة يختتم التحقيق مع زياد عيتاني… وهكذا اوضح التسريبات

https://bit.ly/2uOTuCa

[12]  منير الربيع. التسريبات في قضية زياد عيتاني.. لتدجين الصحافيين! جريدة المدن، 29 تشرين الثاني 2017

[13]  عمر نشابة. مذكور أعلاه.

[14]  زافين قيومجيان. بلا طول سيرة. قناة المستقبل، 2 كانون الأول 2017

[15]  لبنان: زياد عيتاني يروي تفاصيل تعذيبه، المرجع المذكور أعلاه

[16]  تابعت بعض وسائل الاعلام تطور القضية في القضاء. فعلى سبيل المثال، ذكرت جريدة “المدن” الالكترونية في 5 كانون الأول 2017 أن المحامي صليبا الحاج استأنف “قرار قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا برد الدفع الشكلي المتعلق بإبطال التحقيقات الأولية، التي أجرتها المديرية العامة لأمن الدولة، لمخالفتها أحكام المادتين 42 و47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية “. ونقلت عن الحاج في 18 كانون الأول 2017 أن “التحقيقات (مع عيتاني) جرت وفقاً للأصول القانونية وستستكمل لاحقاً “. “ونقلت عن مصدر أن “وضع عيتاني الصحي إلى تحسن، وأصبحت زيارته مسموحة ” دون أي تفاصيل إضافية.

[17]  المشنوق: كل اللبنانيين يعتذرون من زياد عيتاني. جريدة المستقبل، 2 آذار 2018

[18]  راشيل كرم. كيف دخلت الإنتخابات على قضية زياد عيتاني؟ قناة الجديد، 3 آذار 2018

[19]  الحدث اليوم. قناة الجديد، 3 آذار 2018

[20]  الأسبوع في ساعة. قناة الجديد، 4 آذار 2018

[21]  سحب قضية زياد عيتاني من التجاذب السياسي والإعلامي. جريدة المدن، 3 آذار 2018

[22]  حسان الرفاعي. زياد عيتاني يختم مسرحية اعتقاله بالبراءة. قناة الجديد، 13 آذار 2018