مكافحة الفساد: عزف منفرد للرئاسة ونَسف هياكل الرقابة


2024-04-19    |   

مكافحة الفساد: عزف منفرد للرئاسة ونَسف هياكل الرقابة
رسم عثمان سلمي

بُنيت فلسفة محاربة الفساد، في فترة الانتقال الديمقراطي، على إحداث هيئات ومؤسسات مستقلّة تُراقب السلطة وتحدّ من تجاوزاتها، بعد عقود من الاستبداد والفساد. فأُحدِثت اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد بمقتضى المرسوم عدد 7 لسنة 2011. وجاءت الهيئة الوطنيّة لمقاومة الفساد لتحلّ محلّها، وفق الفصل 41 من المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 المتعلّق بمكافحة الفساد، إلى حين تثبيت الهيئة الدستوريّة المختصّة بالحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، الّتي نصّ عليها دستور 2014 في باب الهيئات الدستورية المستقلّة. ولكنّ يبدو أنّ قيس سعيّد لم ترُق له هذه الهندسة المؤسساتية، فأجهز عليها بعد اتّخاذ “تدابيره” الاستثنائية في 25 جويلية 2021.

قُبيل هذا العهد بأربعة أشهر، استقبل قيس سعيّد في 03 مارس 2021 الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عماد بوخريص، وبعَثَ بإشارات ربّما استخفّ بها خصومه وأنصاره في تلك الفترة، بخصوص مقاومة الفساد والقضاء على جيوبه. إذ وصف الحرب على الفساد بأنّها “معركة حياة أو موت”، وتوجّه لرئيس الهيئة بالشكر على الجهد الّذي تبذله “الهيئة ورئيسها، بكلّ صدق بعيدا عن أي سياسة، بعيدا عن أي حساب”. خلال ذلك اللقاء، لم يكن قيس سعيّد غاضبًا ولا متوعّدًا، على عكس النبرة التي طبعت خطاباته بعد 25 جويلية 2021. بل أبدى حرصه على معاضدة جهد الهيئة في مهمّتها، متوجّها بالحديث لرئيسها: “لن تجدوا مني إلا الدّعم”. لكنّ هذا الدّعم لم يصمد لأكثر من أربعة أشهر، إذ لم يلبث أن جمّد “مسار 25 جويلية” الهيئة التي أُغلق مقرَّاتها ونُصبت أمامها سيارات الشرطة كأنّها تمثّل خطرًا داهمًا، ووُضع رئيسها السابق شوقي الطبيب تحت الإقامة الجبرية، فيما أُنهيت مهامّ كاتبها العامّ أنور بن حسن، أيّامًا بعد اتّخاذ التدابير الاستثنائية، في 20 أوت 2021.

وضعية هشّة لأعوان هيئة مكافحة الفساد

منذ ذلك التاريخ، بقي مصير الهيئة رهين مزاج السلطة الّتي يبدو أنّها لم تحسم أمرها بعد، وكأنّها تراقبها من بعيد حتّى تتآكل من الدّاخل لتعلن “حلّها” بشكل رسمي. إذ أنّ تقرير ميزانية الدّولة لسنة 2022 (ص.52)، يتحدّث عن رصد “الاعتمادات اللازمة” لفائدة الهيئات التي ما زالت “في طور التركيز” مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فيما أسندَت مهمة رئاسة الحكومة (ص.208)  منحة قيمتها 4 مليون و500 ألف دينار لفائدة الهيئة. أمّا ميزانية 2024، فقد خصّصت للهيئة منحة قدرها 4 مليون و139 ألف دينار وفق وثيقة الميزانية (ص.215). ورغم ذلك، ما زال الغموض يلفّ مصير الهيئة وموظّفيها وأعوانها، ولم يعدْ لفلسفة مكافحة الفساد معنى في ظلّ انفراد الرئيس بالسلطة وإجهازه على كلّ مؤسسات البناء الديمقراطي، إذ تراجع ترتيب تونس في مؤشر مدركات الفساد لتحتلّ المرتبة 87 عالميّا من أصل 180 دولة، وهي أدنى مرتبة لها منذ سنة 2012، وفق الأرقام التي نشرتها منظمة أنا يقظ بتاريخ 30 جانفي 2024، وهو ما يعكس، وفق المنظّمة “ركودًا في سياسات الدولة لمواجهة هذه الظاهرة”. ومن بين أسباب هذا التراجع غلق مقرّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أيّامًا بعد اتّخاذ التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021.

تبعا لذلك، قرّر العاملون بالهيئة الدّخول في اعتصام مفتوح أعلنوا عنه في 09 فيفري 2023، مهدّدين بالتصعيد والدخول في إضراب عن الطّعام، بسبب عدم صرف مستحقاتهم الماليّة وإيقاف مساهماتهم الاجتماعية. وبعد شهرَين من تنصيب المجلس التشريعي الحالي، خاض أعوان الهيئة تحرّكًا بتاريخ 16 ماي 2023، أمام مبنى البرلمان، ولكنّه كان تحرّكًا غير ذي جدوى.

تراجَعَ ترتيب تونس في مؤشر مدركات الفساد لتحتلّ المرتبة 87 عالميّا من أصل 180 دولة

تعليق حماية المبلّغين إلى حين

بعد ندوة صحفيّة عُقدت يوم 06 ديسمبر 2023 بمقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، توجّه عدد من المبلّغين والمبلّغات عن الفساد يوم 25 ديسمبر إلى مبنى وزارة العدل للمطالبة بإطار قانوني يحميهم من العقوبات الإدارية والتهم الكيديّة والتنكيل التي قد تطالهم. إذ أدّى تجميد عمل الهيئة وغلق مقرَّيْها بالقوّة العامّة إلى مزيد تعقيد وضعية المبلّغين عن الفساد. ففي الظروف العاديّة، يتمتّع المبلّغ وأصوله وفروعه وكلّ من تقدّر الهيئة أنّه عرضة للضرر بسبب التبليغ بحماية الهيئة، وفق القانون عدد 10 لسنة 2017 المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين عنه. وفي الوضعية الحالية، تتواتر الشهادات حول التنكيل بالمبلّغين عن الفساد وطردهم تعسّفيًّا وتجميدهم إداريّا، مقابل عزوف شقّ واسع من المواطنين عن التبليغ في ظلّ غياب الضمانات القانونية لحمايتهم.

يقول العميد السابق بالديوانة محمّد البيزاني إنّه قام صحبة عدد من زملائه بالتبليغ عن ملفّات خطيرة من بينها النفايات الإيطاليّة، ولكن عوض حمايته إلى حين تقصّي الأمر وكشف الحقيقة، اختارتْ الديوانة عزله وزملاءه، وهو ما يكشف عجز المنظومة الحاليّة عن حماية المبلّغين عن الفساد. والحال أنّ الرّئيس قيس سعيد قد أكّد عند استقدام وزيرة العدل ليلى جفّال في 08 ماي 2023 ضرورة “حماية المبلّغين عن الفساد”، شريطة “أن يكونوا على حقّ”، مضيفا أنّ “الّذين يبلّغون عن الفساد يدفعون الثمن باهظا نتيجة فضحهم لممارسات عدد من الأشخاص الذين يعتقدون أنّهم فوق القانون، ولا بدّ من إنصاف الجميع. لا يمكن أن تستقيم الدّولة إلا بوضع حدّ للشبكات التي تعربد داخل أجهزة الدّولة”.

بالإضافة إلى عدم توفّر ضمانات حماية المبلّغين عن الفساد، فإنّ هامش الشفافية في الحياة العامّة بدأ ينحسر تدريجيّا، بعد إلغاء الهيكل المكلّف بقبول التصاريح بالمكاسب للموظّفين والأعوان وفق القانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح، وهو ما من شأنه أن يكون أرضيّة خصبة لاكتساب الأموال بطريقة غير مشروعة واستفحال الممارسات الفاسدة.

وقد سَعَى بعض النوّاب في الفترة الحاليّة إلى الاستفسار عن مصير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، حيث توجّه النائب بدر الدين القمودي عن كتلة الخط الوطني السيادي، والّذي كان يترأس لجنة الإصلاح الإداري بالبرلمان المنحلّ، بسؤال كتابي لرئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن حول مصير الهيئة وموظّفيها، وعن سياسة الحكومة في حماية المبلّغين عن الفساد. وفي ظلّ سياسة التعتيم عن المعلومة التي تتبّعها حكومتَا قيس سعيّد، فإنّ هذا السؤال الكتابي بقي حبيس أدراج رئاسة الحكومة.

هيئات الرقابة العامّة: امتداد للسلطة التنفيذية

لا تقتصر محاربة الفساد على إحداث هيئة وطنية للغرض. إذ تُوجد هيئات للرقابة العامّة تتعهّد بملفّات أو مهامّ تفقّد لعدد من الهياكل والوزارات. إلاّ أنّ مجهودها يبقى دون المأمول، فهي تبقى دائما هياكل تنفيذيّة تابعة لوزارات. يبلغ عدد هذه الهياكل الرقابية ثلاثة، وهي على التوالي: هيئة الرقابة العامّة للمصالح العموميّة التّي تتبع رئاسة الحكومة، والرقابة العامة للماليّة التابعة لوزارة المالية، وأخيرًا الرقابة العامّة لأملاك الدولة والشؤون العقارية والتّي تعود بالنظر لوزارة أملاك الدولة والشّؤون العقارية. إلى جانب الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية التي تشرف عليها رئاسة الجمهورية، والتي تتولّى تنسيق برامج التدخل بين هيئات الرقابة العامّة.

تتمثّل نقطة ضعف هذه الهيئات في تبعيّتها للجهاز التنفيذي، وفي كونها لا تعدو أن تكون إدارات عامّة، لا تتعهّد بالرقابة من تلقاء نفسها وإنّما بعد إذن بمأموريّة يمضي عليه الوزير المشرف نفسه. رؤساء هذه الهيئات هم أعضاء في لجنة القيادة التي أحدثَها الأمر الرئاسي المتعلق بالتدقيق في الانتدابات، في إطار مشروع “تطهير الإدارة ممّن تسلّلوا إليها”، وفق عبارة الرئيس. فهذه الهيئات تُشكّل أحد أذرع السلطة التنفيذية التي لا يمكن لها أن تعارضها، وبالتالي فإنّ مهمّة الرقابة الموكولة إليها قد تشوبها بعض النقائص، أو قد تحتوي قرائن يتمّ وأدها ولا يُعتدّ بها قضائيًّا

هامش الشفافية في الحياة العامّة بدأ ينحَسِر تدريجيّا

الهيئات المستقلة: سلطة تحدّ من السلطة

جاءت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتحلّ محلّ اللجنة الوطنيّة لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد التي كان يترأسها عبد الفتّاح عمر أستاذ القانون العامّ، لكن يبدو أنّ قيس سعيّد لم يكن راضيًا عن أدائها، وكان دائمًا ما يستند في حديثه عن محاربة الفساد إلى تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد التي كان يترأسها أستاذه عبد الفتّاح عمر. ولدى لقائه رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة سمير ماجول في 28 جويلية 2021، قال رئيس الدّولة إنّ “عدد الّذين نهبُوا البلاد 460 بناءً على هذا التقرير”، وأنّ قيمة الأموال المنهوبة تُقدَّر ب ـ13500 مليار، واستغلّ الفرصة آنذاك للحديث عن الصلح الجزائي[1] كوصفة سحريّة لاسترجاع الأموال المنهوبة، وكان لا يفوّت الفرص ليُذكّر بأنّ فكرة الصلح الجزائي اقترحها على المجلس التأسيسي منذ سنة 2012، ولكنّها لم تُعتمد آنذاك.

يُواصل قيس سعيّد عزفه المنفرد في محاربة الفساد، عبر إحداث مسارات موازية، مثل اللجنة الخاصة برئاسة الجمهورية لاسترجاع الأموال المنهوبة الموجودة بالخارج، ليقفز بذلك على المسارات القضائية والهيئات والمؤسسات المُحدثة منذ سنة 2011، مثل لجنة المصادرة واللجنة الوطنية للتصرّف في الأموال والممتلكات المعنية بالمصادرة أو الاسترجاع لفائدة الدولة. لم تتمكن هذه اللجنة الرئاسية من استرجاع سوى 3.5 مليون دينار أودعتها البنوك السويسرية في حساب الدولة التونسية بالبنك المركزي، وفق بلاغ لرئاسة الجمهورية.

بالإضافة إلى إجراء تدقيق شامل للانتدابات عبر إصدار أمر رئاسي في 21 سبتمبر 2023 يتعلّق بإجراء تدقيق شامل لعمليات الانتداب المنجزة من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية. كان من المفترض أن تنتهي مدّة عمل هذه اللّجنة بعد شهرين من تركيزها، إلاّ أنّ قيس سعيّد مدّد في فترة عملها بأمر رئاسي ثان يمدّد فترة عملها شهرين إضافيّين، بداية من 20 ديسمبر 2023، وهو ما يعزّز المسار الفردي في مكافحة الفساد.

نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لقراءة الملف بصيغة PDF


[1] في هذا السياق انظر في الملف نفسه مقال أسماء سلايمية حول الصلح الجزائي (هامش من وضع المحرّر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني