“غالي” يدعو إلى مراجعة نقدية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة: إحالة ملفات فارغة للدوائر المتخصصة خطأ يصعّب مهمة الدفاع عنها


2019-04-30    |   

“غالي” يدعو إلى مراجعة نقدية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة: إحالة ملفات فارغة للدوائر المتخصصة خطأ يصعّب مهمة الدفاع عنها

أمين غالي من أبرز الشخصيات الحقوقية التي رافق اسمها مسار العدالة الانتقالية في تونس. من خلال عمله على قضايا العدالة الانتقالية، ساهم غالي في عملية الانتقال الديمقراطي في تونس بشكل كبير. تم تعيينه بعد الثورة كعضو في اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد (من مارس 2011 لغاية فيفري 2012). ليصبح من بعدها عضوا في اللجنة الوطنية لمناقشة العدالة الانتقالية في 2012. “غالي” هو مدير برامج مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية الذي يعمل منذ عام 2012 على البحث في قضايا الديمقراطية والإصلاح والانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية وعقد دورات تدريبية في هذا المجال.

ضمن سلسلة الحوارات التي تعقدها “المفكرة” مع شخصيات مطلعة ومعنية بالعدالة الانتقالية كمحاولة لعرض وجهات نظر مختلفة بشأن مسار العدالة الانتقالية، كان لنا هذا اللقاء مع أمين غالي.

المفكرة: كيف تقيم مسار العدالة الانتقالية وعمل هيئة الحقيقة والكرامة بشأنها؟

أمين غالي: في البداية، يجب أن نعي أن العدالة الانتقالية في تونس لم تبدأ مع الهيئة ولن تنتهي مع انتهاء عملها.  أذكر المسار تمهيدي قبل سنة 2013. برأيي كان هذا المسار من أحسن مسارات العدالة الانتقالية مقارنة بتجارب العالم. حيث شهد حوارا تشاركيا واسعا بين مختلف العناصر المدنية والسياسية، المحلية والعالمية. المجتمع المدني بدأ في 2012 يتكلم عن العدالة الانتقالية بشكل متوازن. الشق اليساري يتكلم بشكل متحفظ ولكنه كان يملك نوعا ما الخبرة. فالتنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية مثلا كان فيها نقابة الصحفيين وجمعية القضاة وأكثر من 25 محاميا وعدد كبير من المكونات التي لها وزنها في المجتمع المحلي والدولي. أما الشق المدني اليميني القريب من الإسلاميين فقد كان وازنا أيضا، بخاصة من الناحية العددية، من خلال الضحايا وتحالفاتهم وجمعياتهم وعائلاتهم. وفيما كان يملك المشروعية، فإنه كان بالمقابل أقل خبرة ونجاعة بالعدالة الانتقالية. هذا التوازن أوجد تعاونا بين الشقين مما أدى إلى إنجاح مسار العدالة الانتقالية. فقد أخرج قانونا مميزا فيه خصوصية تونسية كبيرة، من حيث تعريف الضحية مثلا، والذي كان من خارج الحدود الأيديولوجية. كما وأدخلنا مفهوم المناطق الضحية في القانون، وهي المناطق التي همشت قبل الثورة بشكل عمدي، وغيرها من الأمور التي جعلت العدالة الانتقالية بعيدة قدر المستطاع عن الإسقاط والنقل الحرفي من تجارب العدالة الانتقالية الأخرى. لا أريد أن أدخل في الشعبوية، ولكن حقيقة الحوار الوطني جعل من العدالة الانتقالية مطلبا شعبيا مجتمعيا في تونس وقتها. بكل تواضع، كان لمركز الكواكبي للتحول الديمقراطي الدور الأبرز في نشر ثقافة العدالة الانتقالية وكان له دور في خلق وعي حول هذا المبدأ على امتداد سنوات 2011، 2012 و2013. كما ساهمنا في نشر الخبرة التقنية للعدالة الانتقالية، والتى هي قلب تخصص المركز. فقمنا بالعديد من الندوات، والمؤتمرات، والدورات التدريبية، ونشرنا العديد من المنشورات والدراسات. كما شكلنا تحالفات وتعاونا مع ائتلافات الضحايا.

المفكرة: وبعد نشوء هيئة الحقيقة والكرامة، كيف تقيم تفاعل منظمات المجتمع المدني معها؟

غالي: عندما تشكلت الهيئة في أواخر عام 2013، أخذت مساهماتنا كمركز الكواكبي تتناقص بشكل كبير. كان هذا حال العديد من الجمعيات والمنظمات الحقوقية. ذلك لأن الهيئة منذ بداية عملها لم تتعامل، بقصد أو من غير قصد لا أريد الجزم هنا، مع المنظمات والجمعيات الحقوقية والمجتمع المدني عموما. اطلاعي على تجارب العالم في العدالة الانتقالية تؤكد أنه من الطبيعي أن تكون السلطة الحاكمة والدولة العميقة معادية لعمل الهيئات التى يتركز عملها على كشف الحقيقة ومحاسبة المعتدين. المحيط المساند الطبيعي لهذه الهيئات هو منظمات المجتمع المدني وجمعيات الضحايا وعائلاتهم وتحالفاتهم، المحامون، المجتمع الدولي، ونشطاء التغيير. حتى الأحزاب السياسية الإصلاحية والمعارضة بإمكانها أن تساعد وتحتضن هذه الهيئات. كل هذه الجهات من المفترض أن تكون حاضنة لعمل الهيئة والتي تساعدها على محاربة ليس فقط السلطة الحاكمة بل الدولة العميقة. هيئة الحقيقة والكرامة لم تتواصل مع حلفائها الطبيعيين منذ البداية. الهيئة فشلت فشلا ذريعا في التشبيك مع أي من هذه الجهات. طبعا بعض الجمعيات تابعت من خلال تحالفات الضحايا تواصلها مع الهيئة وحاولت بشق الأنفس العمل معها والضغط عليها لتستكمل عملها. ولكن لأن مقاربة مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية تقنية بحتة، لم نرغب حتى بمحاولة التواصل مع الهيئة لأنه من المستحيل أن نتمكن من العمل في ظل الفجوة الكبيرة بينها وبين المجتمع الحقوقي، والذي تسببت به هي في الأساس. لذلك بقينا في مشاريعنا البحثية طيلة هذه السنين. يجب أن أوضح هنا أن الهيئة لم تكن رافضة أو بعداء معنا. بل كانت لا مبالية إذا صح التعبير. حتى أننا في وقت من الأوقات يئسنا من أن نحصل على أي تجاوب من قبلها. قلنا، خصوصا في 2017، “في كل الأحوال سنستكمل مسار العدالة الانتقالية بعد أن تنهي الهيئة عملها”. اتخذنا هذا القرار لكيلا تنهكنا الهيئة بمشاكلها.

صحيح أن الهيئة لم تبنِ أي جسور تواصل أو تعاون مع المنظمات إلا أن دخول الهيئة في اللعبة السياسية والتجاذبات الأيديولوجية، جعل في المقابل العديد من الحقوقيين والجمعيات تتخلى عنها. لا نستطيع إنكار حقيقة أن الشق اليساري كان بعيدا نسبيا عن الهيئة بل وكان خطابه في بعض الأوقات معارضا لها ولعملها. الهيئة منذ البداية كان لها صبغة أيديولوجية جعلتها بنظر العديد تنتمي لشقّ دون الآخر. الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية الذي سبق وأشرت إليه تزامن مع وجود مجلس وطني تأسيسي الذي كان محور اهتمام وأمل التونسيين. الأمر الذي جعل ما يقارب 98٪ من المشاركين في الحوار الوطني يرشحون المجلس التأسيسي لانتخاب أعضاء الهيئة. الخبراء كان لهم رأي معارض كليا لهذا.

كان التساؤل الذي طرحناه وقتها مرارا وتكرارا “كيف لمؤسسة لها أغلبية حزبية أن تنتج ما هو غير متحزب؟” اقترحنا مشروع قانون ينص أن كل كتلة في المجلس تعادل صوتا واحدا. (8 كتلا = 8 أصوات). النهضة قلبت المعادلة وصادقت على ما ينص أن الكتل الكبيرة في المجلس لها 3 أصوات، المتوسطة 2 والصغيرة 1. بالتالي، اعتقد الكثيرون أن الهيئة ستعمل لحساب حزب وتيار معين. كان ذلك الخطأ الأكبر. كان خروج عن المسار الصحيح للعدالة الانتقالية وكل ما بعده كان محاولات العودة بالمسار.كما وأنه بسبب الإيديولوجيا التي انخرطت فيها بعض منظمات المجتمع المدني، منها اليسارية، وأيضا بعض الضحايا، المنتمون سياسيا أو حزبيا، لا أريد التعميم هنا، بحزب حركة النهضة والذين وجدناهم توجهوا لمقر الحزب للمطالبة بجبر الضرر ورفع مطالب أخرى، لم نستطع الحياد بالهيئة عن التجاذبات وهي لم تحيد بنفسها عنها أيضا.

المفكرة: ما العمل الآن بعد صدور التقرير النهائي وانتهاء ولاية الهيئة؟

غالي: من الناحية التقنية، لا تتجاوز مخرجات عمل الهيئة 40٪ مما كان يفترض يها القيام به. نحن لا ننكر أن الهيئة حققت نجاحات. ولكن حتى النجاحات نجد فيها العديد من المشاكل والكثير من الفشل. فمثلا، حققت السماعات العلنية التى قامت بها الهيئة نجاحا كبيرا جدا. ولكن هذا النجاح كان من نصيب الجلسات الأولى فقط. الهيئة لم تستطع أن تحافظ على وهج هذه السماعات لاحقا. حيث انخفض شعاع الجلسات بالتدريج. فلو أخذت الهيئة تبني على هذه السماعات حوارات مجتمعية أو لو حثت محطات التلفاز والراديو والصحف المستقلة للحديث عنها أو قامت باتفاقيات مع نواد حقوق الإنسان أو نواد شبابية لعرض هذه السماعات لكان النجاح مستحقا فعلا.

نجاح جزئي آخر هو الدوائر القضائية المتخصصة. فالعديد من الملفات مررت فارغة وفي آخر وقت. اليوم هناك محاولة سياسية لإلغاء هذه الدوائر من خلال مشروع القانون المقترح من الحكومة. لو شكلت الهيئة هذه الدوائر قبل ثلاث سنوات وحققت فعليا بملفات الانتهاكات المحالة إلى هذه الدوائر لكانت اليوم أكثر استعدادا للدفاع عنها. ولكن اليوم نحن كمجتمع حقوقي بمنظماته المحلية والدولية سندافع عن الدوائر المتخصصة. الهيئة لن تدافع ولا تستطيع ذلك أصلا.

مقررات جبر الضرر الفردية، وهي حق أساسي للضحايا. لماذا كل هذه المقررات ممضاة في آخر يوم عمل للهيئة؟ أي 31 ديسمبر 2018؟ كما فشلت الهيئة بشكل ذريع في التحكيم.

وإذا لمنا الهيئة في كل ذلك، ستسعى سريعا إلى  تبرير نفسها من خلال الادعاء بأن السلطة لم تساعدها ولم تفتح لها مجالا للعمل بشكل مريح. ولكن، كما سبق وأشرت، في كل تجارب العالم ليس من المتوقع أن تساعد السلطة هذه الهيئات. وهذا يدفعنا للقول إن الجهد الحقيقي يكمن في كيفية تجاوز هذه المعوقات وليس الوقوف عندها. هذا أساس عمل هذا النوع من الهيئات.

أما عن التقرير النهائي، أذكر أنه تمت دعوتي من قبل الهيئة في أول ثلاثة او أربعة أشهر من بداية عملها لتقديم النصائح والتوصيات. كانت التوصية الأولى والأساسية التي بدأت بها حديثي هو كتابة التقرير من اليوم الأول. هذا ما قالوه لي خبراء في العدالة الانتقالية ونقلته وقتها كما هو للهيئة. هذا لم يتم للأسف. سمعنا أن الهيئة استعانت بخبراء لكتابة التقرير. أتساءل كيف لخبراء لم يتابعوا المسار منذ البداية أن يكتبوا تقريرا ختاميا للهيئة؟ هذه المعلومة تكفي لنفهم أن التقرير ضعيف. حسب اطلاعي على التقرير، وجدت أن الكثير منه إنشائي. كما أن التوصيات ضعيفة جدا. المحزن هو أنه بالرغم من أن المجتمع المدني التونسي بعد ثماني سنوات من الثورة استطاع أن يكوّن نوعا ما مهارة في كتابة التقارير، لم نجد مستوى هذه المهارة في التقرير النهائي. نجد اليوم أن تقارير الهيئات الرسمية الأخرى أفضل من تقرير الهيئة من حيث النوعية والمحتوى، بالرغم أن هيئة الحقيقة والكرامة عملت على مدار خمس سنوات.

يجب على منظمات المجتمع المدني التونسي أن تعطي لكل صاحب حق حقه وأن تبين نجاح وفشل الهيئة على حد سواء وأن تقدم نقدا بناء للتقرير النهائي. تقديم المجتمع الدولي لعمل الهيئة على أنه نجاح ممكن أن يكون مبررا ولكنه حتما سيصعب المأمورية على مجتمع المدني المحلي. حيث سيكون للدولة التونسية حجة الاحتفاء الدولي لتبرير رغبتها بإنهاء مسار العدالة الانتقالية والاكتفاء بمخرجات الهيئة.

مقالات ذات صلة:

لقاء مع كريم عبد السلام: وجهنا العدالة الانتقالية نحو الخصام السياسي في حين أنها وسيلة تسوية

لقاء مع الحقوقي أحمد كرعود: ملاحظات حول مسار العدالة الانتقالية وخطاب الحريات الفردية

حوار مع منسق عام اعتصام المصير: تضخيم عدد الضحايا أدى إلى حجب الضحايا الحقيقيين

حوار مع حسين بوشيبة: ننتظر جبر الضرر لأكثر من 40 ألف ضحية

مقابلة مع النائبة يمينة الزغلامي حول أداء هيئة الحقيقة والكرامة: نجاح في السماعات وفشل في معالجة الملفات

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني