ضحايا براكة الساحل، ثماني سنوات بعد الثورة: الأفق يضيق والعدالة تتعثر

ضحايا براكة الساحل، ثماني سنوات بعد الثورة: الأفق يضيق والعدالة تتعثر

بتاريخ 23-05-1991، عقد وزير الداخلية التونسي آنذاك عبدالله القلال ندوة صحفية خصصها لإعلان نجاح المصالح الأمنية لوزارته في الكشف عن مخطط انقلابي قاده ضباط عسكريون[1]. تحدث الوزير المزهوّ بنصره حينها مطوّلا عن التوافق الذي تم إفشاله بفضل يقظة الدولة التي تفطنت مؤسساتها لعناصر من اجتماعهم الأول المنعقد بجهة برّاكة الساحل. نقل الإعلام التونسي خبر المحاولة الانقلابية كما سمع تفاصيلها واختار تسمية براكة الساحل كعنوان “للجماعة المتآمرة”. بعد الندوة الصحفية، لم تعاود السلطة الحديث عن المجموعة ومنع قانون الصمت طرح السؤال عن بقية فصول روايتها المثيرة. وحدهم من اتهموا بمحاولة الانقلاب كانوا يعلمون أن القلال عاد بعد أيام قليلة من إعلانه النصر، ليقرّ بكون الحكاية كانت مجرد خطأ: اعتذر من بعضهم ولكن هذا الاعتذار لم يكن يعني أن يطلق سراحهم جميعا ولا أن يعودوا لارتداء بدلتهم العسكرية مجددا. فهيبة الدولة تأبى أن يغلق ملف سيّل فيه الجلاد دماء وأزهقت أرواح دون محاكمات ولو لعدد قليل من “الضحايا”. كما أن حيادية المؤسسة العسكرية تمنع أن يعود لها من سبق تعذيبه. كان الحل ببساطة محاكمات لبعض الضباط وتقاعدا وجوبيا يتيح دخلا ماليا محدودا لكل من شملهم البحث. وزد على ذلك مراقبة مستمرة ومنعا من السفر للجميع لكي لا يتناثر الحديث هنا وهناك عن قصة براكة الساحل.

هذه القصة حررتها ثورة 14-01-2011، وقد رجع صداها اعتراف رسمي من المؤسسة العسكرية بكون مظلمة الساحل صفحة سوداء من صفحات الدولة ومظلمة من مظالمها. تدعّم الاعتراف بخطوة فريدة أقدم عليها منصف المرزوقي أول رئيس للجمهورية يصل إلى قصر قرطاج من بوابة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتمثلت في تخصيص احتفالات ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 2012 لتكريم ضحايا جريمة الدولة ورد الاعتبار لهم.

لبس الضباط وضباط الصف يومها زيا عسكريا أحبوا العودة إليه وأنصتوا وانضباطهم العسكري لكلمة القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي وعد أن تتحمل الدولة مسؤوليتها عما لحقهم من ظلم. وكانت لاحقا مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على سنة 2014 على قانون خاص بذات الجماعة[2] يتعلق بسحب مفعول العفو التشريعي العام على من لم تتوفر فيهم شروطه منهم. خطوة ثانية من خطوات الدولة تجاههم تزرع في صفوفهم الأمل في قرب انفراج أزمة عاشوا وأسرهم مرارتها طويلا.

ميّز اعتراف الدولة قبل الثورة وبعدها بخطيئتها جماعة براكة الساحل عن ضحايا الاستبداد الآخرين. فكان يظن أن سبيل تحقيق ما باتوا يجاهرون به من مطالب محاسبة وجبر ضرر سيكون متيسرا خصوصا وأن الجرم الذي سُلّط عليهم ثابت بإقرار له حجية رسمية والضرر اللاحق بكل واحد منهم واضح الأثر معلوم.

هذا التمايز دفعنا، وقد وصل مسار العدالة الانتقالية كما تصوره قانونها الأساسي لخواتيمه، لنقلّب في ملف الجماعة طارحين السؤال: أين وصلوا في رحلة بحثهم عن الحقيقة، عن جبر الضرر، عن حقوقهم التي كانت تظهر قريبة منهم؟ علّ السؤال عنهم ينبئ عن غيرهم ممن كان طريقهم أصعب ومسار إثبات الخطأ في حقهم أعسر. فكان الجواب على السؤال أن الأمل في الوصول بدأ يخفت وأن أغلب الحصاد كان ظلما جديدا ممن كان يرجى منه العدل.

المحاسبة مسار فقد فيه الأمل

دفعت حماسة الأيام الأولى من الثورة عددا من ضباط مجموعة براكة الساحل لتأسيس جمعية “إنصاف قدماء العسكريين”. ظنوا أنفسهم قلة. فكان أن تبينوا أن من شملهم التحقيق بالتهمة ذاتها مائتان وأربعون نفرا لم يكن بين معظمهم معرفة سابقة أو لقاء. بادر سبعة عشر منهم لتقديم دعوى جزائية طلبا لمحاسبة من عذّبوهم، من حكموا على أجسادهم أن تستبطن سقوطا دائما لا براء منه و من حملوا أنفسهم ألما لم يعرفوا له يوما مبررا.

رسمت شكايتهم بالنيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس. إلا أن قاضي التحقيق بالمكتب 15 الذي استمع للشاكين واستند لمطالبتهم بمحاسبة من شارك من زملائهم العسكريين في تعذيبهم، أعلن عدم اختصاص القضاء العدلي بنظر قضيتهم والتخلي بالتالي عن ملفها للقضاء العسكري. تعهد قاضي التحقيق العسكري إذ ذاك بالملف في ثاني محطاته، وقد شملت أبحاثه من عذب ومن أشرف على التعذيب ومن يفترض أنه أمر به، لكن لم تتعرض هذه الأبحاث بتاتا لأي من القادة العسكريين.

كانت تلك أول عثرات مسار انتهى بأحكام قضائية اعتبرت ما صدر عن المتهمين “اعتداء بالعنف نجم عنه سقوط بدني نسبته دون 20%” في تجاهل تام لاختبارات طبية تؤكد أن السقوط العالق بأجساد الضحايا الأحياء تجاوز تلك النسبة وفي تجاهل تام لوقائع على علاقة بالشكاية كان البحث قادرا على الوصول إليها تثبت حالات قتل تحت التعذيب.

تولى لاحقا وخلال سنة 2016 ثمانون من الضحايا ممن لم تشملهم القضية الأولى إيداع شكاية للنيابة العامة العسكرية كما تولت مجموعة ثالثة منهم تتكون من سبعين ضحية تقديم شكاية أخرى  سنة 2017. ختم قاضي التحقيق العسكري بحثه في القضية الثانية وأحالها لدائرة الاتهام حيث ما تزال أخبارها غير معلومة، فيما ظلت القضية الثالثة تراوح مكانها. لم تكن مخرجات القضاء العسكري في مستوى الانتظارات. لكن ما بشر به قانون العدالة الانتقالية من إعادة  للمحاكمات ترك أملا في عدالة جديدة.

هيئة الحقيقة والكرامة: آمال كبرى تبخرت

بمجرد إعلان هيئة الحقيقة والكرامة بداية سنة 2015 فتح أبوابها لتقبل شكايات الضحايا، تجند ناشطو جمعية إنصاف لحث زملائهم على تقديم ملفاتهم لها، وقد استجاب لها مائة وأربعة وتسعون من جماعتهم المكونة من مائتين وأربعة وأربعين ضحية. البقية كانوا فقدوا الأمل واختاروا النسيان.

شملت جلسات الاستماع السرية من تقدموا بملفاتهم. وفي إحدى جلسات الاستماع العلني، حضر العميد “سالم كردون” ليحدث التونسيين والعالم عن ظلم لحق به وزملائه، فكان الأمر مبشرا. لاحقا، اختارت الهيئة أن تستدعي منهم ستة لاستماعهم من قبل لجنتها المتخصصة في البحث والتقصي. وقد تم إعلامهم أنه سيستمع إليهم نيابة عن كل زملائهم كضحايا في سياق إعداد ملفهم لإحالته على الدائرة المتخصصة للعدالة الانتقالية. لم يكن للهيئة التي عملت مدة أربع سنوات كاملة من الوقت ما يكفي لسماع الضحايا واستنطاق الشهود وإجراء المكافحات. فكان أن بدأت نذائر الارتجال في البروز.

هذا الارتجال الذي تأكد يوم تلا رئيس الدائرة المتخصصة للعدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس في محضر الضحايا ونوابهم والحضور ممن واكبوا جلستهم لائحة الاتهام.

لم تتعلق لائحة الإحالة التي حررتها هيئة الحقيقة إلا بمائة وخمسة وثلاثين من الضحايا بمعنى أنها أغفلت حق تسعة وخمسين ممن تعهدت بملفاتهم. كان من بين المنسيين الراحل شريف العريضي الذي مات تحت التعذيب في أقبية وزارة الداخلية. وكان أهله الذين أُجبروا على دفن جثمانه ليلا ودون توديعه ينتظرون يوم المحاكمة ليستشعروا قليلا من الراحة. كما كان أيضا الراحل الناصر الشارني الذي مات يوما واحدا بعد خروجه من السجن وأثبتت شهادة طبية أنه هلك بفعل العنف، وأيضا الراحلان “أحمد عمارة” (الذي كان وفق رواية القلال زعيم الانقلاب وقائده) والراحل محسن الكعبي. أحرج النسيان الفاضح رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين التي وعدت من تضرروا منه بتحرير لائحة تكميلية تضمهم لزملائهم ولكن هذا لم يتحقق. وعلى مستوى ثانٍ، تبين للضحايا بعد اطلاعهم على لائحة الاتهام أن نصها كان وبكل بساطة نقلا بتصرف بسيط لمستندات أحكام المحكمة العسكرية.

المحكمة الإدارية: سبات العدالة المميت

بداية سنة 2014، عهد جانب من ضحايا براكة الساحل المحكمة الإدارية بنظر مائة وخمسة عشرين قضية تعويض منها عشرين ادعى فيها أصحابها على وزارة الداخلية في طلب تعويضها لهم عما لحقهم من ضرر جراء انحرافات مؤسساتها الأمنية والبقية ضد وزارة الدفاع في طلب التعويض عن الضرر الذي لحق المدعين جراء تعطل مسارهم المهني. في نهاية سنة 2017، صدرت أحكام ابتدائية في 21 ملفا منها فقط. بعد سنة من ذلك، ظلّت بقية الملفات مفتوحة من دون أحكام. وحتى بالنسبة إلى الملفات التي حكم فيها، فإن القضاة امتنعوا عن تحرير لوائحها مما يمنع من حكم لفائدتهم من إعلام الإدارة بها ويترك بالتالي إجراءاتها معلقة.

تبعا لطول الانتظار، تبيّن للضحايا أن تحصيل حكم قابل للتنفيذ قد يستدعي عشر سنوات أو أكثر وما عاد لهم من الصبر ولا من العمر ما يكفي انتظار تلك المدة.

قضاة الضمان الاجتماعي: الاستثناء الجميل

أحالت سنة 1992 وزارة الدفاع الوطني كل من شملهم البحث في قضية براكة الساحل على التقاعد الوجوبي وفق القانون الخاص بالعسكريين. فكان أن تمتع هؤلاء في سياق ما بدا إقرارا بالخطأ في حقهم بجريات تقاعد بسيطة بداية من ذاك التاريخ. سنة 2014، صدرت لفائدتهم قرارات إحالة على التقاعد جديدة تعتبر ما أجازه لهم مرسوم العفو التشريعي العام من تسوية الوضعية المهنية.

تمسك الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بمجرد توصله بتلك المقررات بكون ما دفعه لهؤلاء العسكريين قبلها لم يكن مستحقا وطلب منهم ردّه عارضا عليهم تقسيط المبالغ المطلوبة. أجاب هؤلاء أن الدولة وحدها مسؤولة عن الإرباك الحاصل وأنهم لم يتحصلوا أبدا على مبالغ مالية من دون سند، والتجؤوا للموفق الإداري طلبا لحل. نجحت وساطة الموفق الإداري في إيقاف الحجوزات التي شرعت فيها بعض إدارات الصندوق على جرايات بعضهم لكنها لم تفلح في حل الإشكال.

هنا بادر إثنان وثلاثون منهم في بداية سنة 2017 إلى نشر قضايا أمام قضاة الضمان الاجتماعي بالمحاكم الابتدائية المختصة. وكان طلبهم إلزام الصندوق بردّ ما حجزه من أموال راجعة لهم وتصريح قضائي ببراءة ذمتهم تجاهه. لم يكن المدعون ولا بقية زملائهم يعتقدون أن طلباتهم سهلة المنال بفعل ما خبروا من تحفظ القضاء وبطء عمله لكنهم اضطروا لتجربة طريق لم يسلكه من قبل غيرهم. وخلافا لتوقعاتهم وفي ذات السنة بدأت الأحكام الابتدائية في الصدور لفائدتهم: فلقد اجتهد قضاة جيل الثورة فأسسوا لعدالة حقيقية ترفض تحميل الضحية وزر خطأ الدولة. فكان أن رد حكمهم بعض الأمل في عدالة تظهر صعبة.

عدالة انتقالية حقيقية قد نتعثر في الطريق إليها لكن نبل أهدافها يبرر مواصلة المسير رغم العثرات.

  • نشر هذا المقال في العدد | 14 | أبريل 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:

لمن القانون في تونس 2018؟


[1]   أنجز هذا العمل على اثر جلسة عمل عقدت مع كل من العميد أحمد الغيلوفي ، العقيد أحمد الكعبي ، العقيب محسن  مغيري  من جمعية إنصاف قدماء العسكريين وانطلاقا من  ملاحظاتهم ومعطياتهم

[2] قانـــون عدد 28 لسنة 2014 مؤرخ في 19 جوان 2014 يتعلق بتسوية وضعية العسكريين المتضررين من قضية براكة الساحل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني