هامش التدخل في اعمال القضاة من قبل زملائهم ومكونات السلطة القضائية


2011-10-18    |   

هامش التدخل في اعمال القضاة من قبل زملائهم ومكونات السلطة القضائية

ألقيت هذه الكلمة خلال جلسات المؤتمر الإقليمي "القضاء العربي في ظلال الثورة (1): قضاة يتمسكون باستقلاليتهم: اي تدخلات؟ اي مقاومات؟ اي مساحة للتضامن" والذي عقدته المفكرة القانونية بالتعاون مع مؤسسة هاينرش بل – مكتب الشرق الاوسط في بيروت يومي 14 و15 تشرين الأول/اكتوبر 2011.

بداية، استميح بعض زملائي عذرا، لأنني سأعالج وإن بشيء من عجالة، موضوعا دقيقا ليس من السهل التطرق له ولو كثر الهمس حوله، فبين التضامن السلبي حول الخطأ المتمثل بمراجعة بعض الزملاء القضاة لبعضهم البعض، وتجاهل هذا الواقع ومحاولة التعمية عليه، وبين كشف المستور وتحديد مكامن الخطأ ومحاولة الاضاءة عليه، اخترت مواجهة الحقيقة وتسليط الضوء على خلل بات يعتري حياتنا القضائية وصار جزءا منها.
ودافعي في ذلك إعلاء شأن السلطة القضائية، وإستعادة هيبة وثقة وإحترام تعتبر بحكم الاقانيم الواجبة الوجود لكل قضاء حر ونزيه ومستقل.
وكتعريف، وكتمهيد، فإن كل تدخل أو تأثير في عمل القاضي الناظر في النزاع، يكون عبر السعي بواسطة الغير لتأمين مصلحة احد الفرقاء في هذا النزاع، وتأييد مطالبه، التي قد تكون محقة أو غير محقة، وذلك خارج الاطر الملحوظة قانونا.
إن هذا الامر يتعارض كليا مع قواعد الاستقلالية والحياد والتجرد. لذا، وبقصد الاضاءة على هذا الموضوع بتشعباته وتفاصيله، فسأعالج في قسم أول منه اسباب التدخل بين الزملاء القضاة وأساليبه وظروفه، ثم تدخلات مكونات السلطة القضائية وأجهزتها معهم، لانتقل في قسم ثان الى محاولة تقديم إقتراحات من شأنها الحد من هذا التدخل ومنعه، وذلك بعد عرض نتائجه.
اسباب التدخل بين القضاة وأساليبه، وتدخل اركان السلطة القضائية ومكوناتها معهم
إن أسباب تدخل قاض في عمل زميل له، أو تدخل أحد اركان السلطة القضائية أو مكوناتها في عمل أحد القضاة كثيرة، إذ أن مثل هذا التدخل قد يجد تبريراته غير المحقة في أسباب اجتماعية تجمع المتدخل مع المتدخل لمصلحته، أو في منافع يحققها أو يستفيد منها المتدخل احيانا، وكذلك المتدخل معه في حالات معينة.
فبالنسبة الى الأسباب الاجتماعية الدافعة الى التدخل، نلحظ ان صلة القرابة او علاقة الصداقة أو الجيرة أو حتى المعرفة، كلّها أسباب تدفع بالقاضي المتدخل الى مراجعة زميله لمصلحة أحد فرقاء النزاع، بقصد تأييد موقف هذا الاخير المحقة او غير المحقة.
هذه الاسباب يجري تبريرها في لبنان بواقع التداخل الاجتماعي والصلات الوثيقة بين مكونات المجتمع اللبناني المبني على معرفة افراده بعضهم بعضا.
أما بالنسبة الى اسباب التدخل المبنية على ما يعتبر من قبيل المنافع، وهي الأخطر، فتتمثل برغبة المتدخل في الظهور اجتماعيا بمظهر الفاعل والقادر وصاحب اليد الطولى والنفوذ، ولو على حساب زملائه.
كما قد تتمثل بإرادة المتدخل محاباة السلطة وأصحاب النفوذ فيها، بقصد البقاء في مركز معين، أو طلبا لمركز معين، مع الاشارة الى أن التدخل الجاري في هذا الاطار قد يحصل بناء على طلب صريح وواضح من أجهزة السلطة السياسية وسواها، أو بناء على إشارات ضمنية، كما قد يحصل إستباقا لمثل هذه الطلبات أو الاشارات.
ومثالا على ذلك، تدخل وزير عدل أسبق وقضاة كبار في دعوى أقامها حزب سياسي موال للدولة في حينه، بوجه شركة تلفزيون معارضة آنذاك، موضوعها وضعها تحت الحراسة القضائية، وطلبهم من قاضي الامور المستعجلة الناظر في النزاع إجابة طلب الحراسة رغم عدم توافر شروطه، وممانعة هذا القاضي ورده دعوى الحراسة رغم الظروف السياسية السائدة آنذاك.
وكذلك توسط قضاة كبار لمصلحة نافذين في قضايا معينة مرتبطة بمصالح هؤلاء المباشرة او غير المباشرة.
وإن التدخل قد يكون مسندا في حالات معينة الى منفعة مادية سعى اليها المتدخل، أو حصل عليها مسبقا من المتدخل لمصلحته، الفريق في النزاع، وهذا النوع من التدخل هو الاكثر تعارضا مع المناقبية القضائية ومع واجبات القاضي.
وقد يجري تبرير التدخل أخيرا بحجة حماية صاحب حق خشي ان يظلم، او بحجة الخوف من التأخير في فصل دعواه.
أما بالنسبة الى كيفية حصول التدخل والأساليب المتبعة بهذا الصدد، فإننا سنعمد الى تعدادها والاضاءة عليها بإختصار، علنا نتمكن من الاحاطة بها.
إن التدخل قد يحصل من قضاة كبار يتبوأون مراكز فاعلة ومقررة ومفصلية في القضاء، كما قد يحصل التدخل من قضاة تدرج معهم القاضي الجاري التدخل معه، أو من قضاة ساهموا في تنشئته القانونية في الجامعة أو في معهد الدروس القضائية، أو قد يكون من يتدخل من بين زملاء القاضي ومعارفه في معهد القضاء أو من بين العاملين أو من عملوا معه في محكمة واحدة، او من بين سواهم من الزملاء الذين أصبح على علاقة صداقة أو معرفة بهم بفعل إنتمائهم الى مؤسسة واحدة.
أما لناحية أساليب التدخل وطرقه ووسائله، فهي متنوعة بتنوع معتمديها والقائمين بها. إذ قد يحصل التدخل من طريق إستدعاء القاضي من المسؤول القضائي والطلب اليه صراحة أو إيحاء بتبني توجه معين مرتبط بنزاع عالق أمامه، وذلك بذرائع مختلفة، قد تبدأ بحماية مصلحة الدولة والمجتمع لتنتهي بتأمين مصلحة شخصية.
كما قد يتحقق التدخل عبر زيارة لهذه الغاية يقوم بها المتدخل لمن يجري التدخل معه، وذلك في منزل هذا الأخير او في مكتبه، مع محاولة إضفاء طابع الخصوصية والانفراد على هذا اللقاء.
ويجري التدخل أحيانا من طريق الاتصال الهاتفي الذي يجريه القاضي المتدخل مع زميله، بحضور صاحب المصلحة الجاري التدخل لمصلحته أحيانا، وذلك "طبعا" من دون معرفة القاضي الجاري التدخل معه.
وقد يحصل هذا التدخل في أحيان أخرى، عندما يعمد المتدخل الى جمع القاضي الجاري التدخل معه مع أحد أفرقاء النزاع أو صاحب المصلحة، وذلك في مناسبة اجتماعية واحدة عبر دعوتهما مثلا معا الى منزله الى مأدبة يقيمها…
كما يتم التدخل في حالات أخرى عن طريق طلب القاضي المتدخل الى أحد أصدقائه من القضاة القيام بهذا الأمر، لمعرفته بما يجمع هذا الأخير مع القاضي الجاري التدخل معه من علاقة صداقة وثقة.
أما لناحية أساليب التدخل فتتفاوت بالدرجة والخطورة، إذ أنها تتجاوز في أحيان معينة درجة الايحاء المباشر وغير المباشر، كما قد تدخل أحيانا أخرى في إطار الترغيب في تأمين منافع معينة للجاري التدخل معه في الاطار الوظيفي أو سواه من الاطر، كما أنها قد تصبح من قبيل التهديد الصريح او الضمني للجاري التدخل معه في كل ما هو متعلق به، سواء على الصعيد الجسدي او العائلي او الاجتماعي او الوظيفي.
ختاما لهذا القسم، وتأسيسا على ما تم عرضه، أيصح أن نردد مع الشاعر العربي، ان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.
نتائج التدخل القضائي في عمل القاضي، ووسائل الحد منها او منعها
إن تدخل أحد القضاة الكبار، أو تدخل قاض زميل في عمل زميل له بقصد إملاء موقف أو توجه ما عليه في نزاع معين، يستتبع إما بموقف تجاوبي صادر عن هذا الاخير، وإما بموقف سلبي رافض، وإما بموقف أطلقت عليه صفة الموقف الحيادي.
إن الموقف المتجاوب مع التدخل لا يتوافق بتاتا مع قواعد المناقبية القضائية، وهو يؤثر سلبيا في عمل المرفق القضائي الملتزم الحياد والاستقلالية والتجرد. كما أن هذا الموقف يفقد القاضي الجاري التدخل معه الصدقية الواجب الحفاظ عليها حتى تجاه الشخص القائم بالتدخل.
أما الموقف السلبي الرافض للتدخل، فلا يفترض أن يتبع تلقائيا بتبني موقف معاكس للجهة الجاري التدخل لمصلحتها، لمجرد حصول هذا التدخل، ولو على حساب أحقية مطالبها أحيانا. ذلك أن الحياد القضائي يفترض من جهة اولى رفض التدخل بأسلوب حاسم يستشعره المتدخل بصورة واضحة، كما أن هذا الحياد يستتبع من جهة ثانية بوجوب الفصل في النزاع بصورة موضوعية بعيدة عن كل تأثر سلبي أو إيجابي بالتدخل الحاصل، ودون اللجوء طبعا الى اسلوب التنحي غير المبرر.
أما بالنسبة الى الوسائل والاساليب الممكن إتباعها للحد من التدخلات الحاصلة أو محاولة منعها فهي كثيرة، ويمكن تفعيلها عبر الاقتراحات الاتية:
1-  الاستفادة الى أقصى الحدود من عدم وجود هرمية قضائية مماثلة للهرمية الوظيفية، ومن الاحكام الدستورية والقانونية التي كرست إستقلال القاضي في إصدار الاحكام.
2-  اللجوء الى تطبيق الاحكام الجزائية المتعلقة بالرشوة، وصرف النفوذ، وإستثمار الوظيفة، وإساءة إستعمال السلطة، والاخلال بواجبات الوظيفة، المنصوص عنها في المادة 350 وما يليها من قانون العقوبات، وتفعيل تطبيق نص المادة 419 من القانون عينه التي تعاقب على فعل إستعطاف القاضي لمصلحة أحد الخصوم.
وبالتالي ملاحقة المتدخلين ومعاقبتهم، وكذلك المذعنين للتدخلات جزائيا، بالإضافة الى ملاحقتهم ومعاقبتهم تأديبيا.
3-  تأمين إجراء التعيينات والتشكيلات القضائية وفق أسس ومعايير موضوعية تضمن وصول القاضي المناسب الى المركز المناسب، بمعزل عن محاباة النافذين من القضاة أو سواهم.
مع ضمان مستوى حياتي لائق بالقاضي يمنع عنه الحاجة، ويوفر له المناعة التي تحميه من اي إحتياج.
4-  إعلام التفتيش القضائي ومجلس القضاء الاعلى من القاضي الجاري التدخل معه، أو حتى من الغير، بواقعة حصول هذا التدخل لترتيب النتائج المتفرعة من ذلك.
5-  إعلام القاضي زملاءه في هيئة المحكمة بالتدخل الحاصل معه، بما يؤمن شفافية التعاطي بين الزملاء العاملين في الهيئة الواحدة.
6-  إمتناع القضاة عن التدخل مع زملائهم، لكي لا يفتحوا أمام هؤلاء باب التدخل معهم بالمقابل عملا بمبدأ المعاملة بالمثل.
7-  عدم الغرق في الحياة الاجتماعية وفي المناسبات الناشئة عنها، وعدم المخالطة غير المبررة لاصحاب النفوذ والمصالح الراغبين دوما في توثيق علاقاتهم مع القضاة لكي يتسنى لهم عند الحاجة طلب الخدمات منهم.
8-  التركيز في معهد القضاء على ما هو متعلق بادبيات القاضي ومناقبيته وسلوكياته واخلاقياته، بالإضافة الى ما هو متعلق بعلم النفس وعلم الاجتماع القانوني، مع إخضاع القضاة المتدرجين لرقابة صارمة لهذه الجهة تضمن تقيدهم بهذه المبادئ، تحت طائلة إعلان عدم أهليتهم وفق ما يتيحه القانون بهذا الصدد، مع الاشارة الى أن معهد القضاء في لبنان باشر في تطبيق هذا الأمر.
9-  إمكان تأسيس جمعية أو ناد للقضاة من بين مهامه المدافعة عن القضاة المستقلين الذين قد يتعرضون "للانتقام" نتيجة عدم تجاوبهم مع التدخلات الجارية معهم من أي جهة أتت.
وبعد، وبعيدا عن كل ما هو غير واقعي، فإن الحقيقة تفرض الاعتراف بأن منع كل التدخلات في القضاء يبقى حلما صعب المنال، لكن ذلك لا يعني الاستسلام لهذا الواقع، بل يفترض مجابهته والحد منه بالوسائل التي عرضنا لها.
مع التذكير بأن الضمانة الاقوى تبقى لصيقة بأخلاقيات القاضي، الواجب التركيز على التثبت منها عند إختياره، والواجب العمل على تثبيتها وتعزيزها في معهد الدروس القضائية وفي مرحلة العمل القضائي لاحقا. ومع التنويه بان الاستقلالية والحياد والنزاهة والامانة والتجرد وما هو مفترض أن يتحلى به كل قاض، تبقى مرتبطة بشخصيته الممكن العمل على تطويرها من دون القدرة على قولبتها من جديد.
ولبناننا اليوم بحاجة ماسة الى من يتحلى بهذه الصفات، وهم ليسوا بقلة. فلنضع بين أيديهم دفة القضاء علّهم يصلون بالعدالة الى مرفأ الأمان. وإن كرة "سيزيف" بين ايدينا، وإننا أصحاب الخيار في متابعة الطريق والمحاولات أو في انتظار "غودو".
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني