من أقري إلى قابس: الحقيقة الضائعة


2019-04-15    |   

من أقري إلى قابس: الحقيقة الضائعة

في سياق مسار العدالة الانتقالية في تونس، برزت قضيتان هامتان من قضايا الإخفاء القسري: الأولى، قضية كمال المطماطي الذي يعتقد أنه توفي تحت التعذيب وإن أخفي مصيره وجثمانه عن عائلته على مدى عقود. والثانية، قضية جبل أقري حيث تم قتل عدد من المعارضين للرئيس بورقيبة في 1956، ومنع دفن جثثهم خوفا من تخليد ذكراهم. في هذا المقال، يتحدث الكاتب عن كيفية معالجة هاتين القضيتين خلال مسار العدالة الانتقالية (المحرر).

كمال المطماطي

أحالت هيئة الحقيقة والكرامة بتاريخ 02-03-2018 أول ملفاتها القضائية للدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية. تعلق ذاك الملف الذي تعهدت به الدائرة المتخصصة بقابس بواقعة احتجاز وتعذيب وقتل تحت التعذيب واختفاء قسري للضحية كمال المطماطي. ولم يكن اختيار افتتاح مسار المحاسبة القضائية  عبره اعتباطيا، حيث أن ما تعرض له كمال المطماطي من تعذيب وقتل كان مثالا على وحشية النظام الاستبدادي. وما فاقم من ذلك هو انتهاك حق أسرة الضحية في معرفة مآل ابنها الذي بقي مخفيا لعشرات السنين. أكدت دموع أم كمال وهي تتحدث أمام هيئة المحكمة عن لوعة الفقد ورحلة البحث عن جثة الإبن التي استمرت سنوات أن المحاسبة حق للضحايا، كما هي واجب على دولة تريد أن تتطهر من ماضٍ لا يشرف مؤسساتها.

بعيدا عن صورة الاصلاح تلك وجمالها، سريعا ما تبين أن المحكمة التي تعهدت بنظر القضية ظلت عاجزة عن تحقيق مطلبها البسيط في دفن فلذة الكبد وزيارة قبره. لم تتوصل جهة الإحالة أي الهيئة في عملها على ملف كمال لتحصيل جواب على سؤال ماذا حصل بالضبط بعد التفطن للهلاك تحت التعذيب وكيف أدير ملف إخفاء الجثة ومن تورط فيه  والأهم من كل هذا في نظر أسرته أين جثمانه الآن.

هنا وعند هذا الحدّ، اختار النائب الأول لرئيس مجلس نواب الشعب “عبد الفتاح مورو” أن يتولى تقديم أجوبة لهذه الأسئلة. تنقل المسؤول البارز إلى قابس بتاريخ 09-10-2018 ليقف شاهدا أمام الدائرة المتخصصة يروي شهادة ذكر أنه تلقاها سماعا عن شخصين أحدهما أمني والآخر سجين سياسي سابق تفيد أن جثة كمال قبرت سرا بأمر أمني في أحد الأعمدة الخرسانية لجسر شارع الجمهورية وسط العاصمة تونس[1]. كرر في شهادته تصريحات كان أدلى بها للإعلام سنة 2016. وقد وجد الباحثون عن كمال تبعا لذلك في الجسر مكانا لتحركات احتجاجية عنوانها الحق في الجثة. لكن ملف القضية كما أحيل للمحكمة لم يتضمن أي أبحاث في شأنها.

طرحت الشهادة تحدّيا صعبا لجهة الموازنة بين حقوق الضحايا وقيم العدالة من جهة والكلفة الناجمة عن هدم جسر عالي تكلفة الانجاز وحيوي لحركة السير بالعاصمة من جهة ثانية.

أثناء النقاش الدائر، عقدت “الدائرة المتخصصة” جلسة بتاريخ 09-01-2019 لمواصلة النظر في القضية تلقّت خلالها شهادة لشخص يدعى نبيل الربيعي ذكر أنه كان في تاريخ الوقائع سجينا سياسيا. وقد تبيّن أنه أحد الإثنين اللذين استند لهما مورو في صياغة روايته المؤثرة. أكد نبيل أمام الحضور الرواية المنقولة عنه وهي رواية تهاوت بمحضره وفي ذات اليوم والمكان بفعل مراسلة وردت إلى المحكمة من وزارة التجهيز تؤكد أن الجسر المعني بها شيد قسطه الأول قبل سنة من الاختفاء، فيما شُيّد جزؤه الثاني عشرين حولا من بعده بما يستحيل معه القبول برواية أن يكون قد استعمل مدفنا. خُلطت الأوراق من جديد في ختام حكاية أكدت أن مسار العدالة الانتقالية لم ينجح حتى الآن عن تقديم حقيقة تطلبها روح كمال المطماطي وأهله.

ربما تأتى التعثر حتى الآن في تحديد مكان الجثة في عدم تعاون الدولة مع هيئة الحقيقة والكرامة. وربما تأتى هذا الأمر عن غياب محفزات تشجع من نسب لهم الانتهاك على كشف الحقيقة وطلب الاعتذار. أو ربما أيضا تأنى عن تقاعس في البحث الجديز يبقى أن مجمل هذه العوامل انتهت إلى فرض ضياع  الحقيقة التي ضاعت قبل ذلك ومثل ذلك عند جبل أقري.

معركة جبل أقري

غير بعيد عن قابس حيث كتبت فصول مأساة كمال المطماطي وتحديدا في عمق الصحراء التونسية، وثق التاريخ قبلها بخمس وثلاثين سنة (تحديدا 29-5-1956) استهدافا لمناضلين اصطلح على تسميته معركة أقري. انطلقت الحكاية في بعدها المتعلق بكشف الحقيقة يوم توصلت الهيئة في سنة 2016 بملف “معركة جبل أقري”. ذكر في الملف أنه بتاريخ الوقائع، شنّ أنصار “الديوان السياسي لحزب الدستور” بإسناد مدفعي وجوي من الجيش الفرنسي الذي كان لا زال متركزا بقاعدة رمادة العسكرية هجوما على معاقل “فلاقة” محسوبين على الأمانة العامة لحزبهم رفضوا إلقاء سلاحهم تنفيذا لبنود اتفاقيات الاستقلال[2]. وبدا في هذا الإطار هذا الملف[3] الصفحة الأهم من بين الملفات المتعلقة بذات الصراع لما تضمنه من ادعاء بأن جثث الذين سقطوا فيها بقيت ملقاة في العراء متناثرة في الجبل بقرار من سلطة دولة الاستقلال التي منعت أن يدفنوا فتخلد ذكراهم وتوثق جرائمها.

وعيا بهذه الأهمية، شكلت الهيئة خلال شهر فيفري 2017 وحدة استقصاء ضمت أعضاء منها وطبيبا شرعيا توجهت لموقع الأحداث حيث عاينت كما ذكر حينها بقية هياكل عظمية جمعتها بمساعدة المواطنين الذين دلوا عليها ووجهتها لمعهد باستور وقسم الطب الشرعي بشارل نيكول لفحصها جينيا. كما خصصت الهيئة الحيّز الأكبر من جلسة الاستماع العلنية التي عقدتها بتاريخ 24-03-2017 وكان موضوعها “الانتهاكات الواقعة في سياق خروج المستعمر من تونس” لذات الملف. وقد وعدت يومها أن ينتهي عملها عليه إلى دفن الشهداء بشكل يليق بهم في معلم مخصص لغرض يخلد الذاكرة ويصلح علاقة تونس بتاريخها.

سنتين تقريبا بعد الوعد وعشرة أيام فقط قبل إعلان الهيئة عن نهاية عملها وتسليمها لتقريرها النهائي لرئيس الجمهورية، نشر بموقع الهيئة خبر يفيد أنها “قامت يوم الخميس 20 ديسمبر 2018 بتنظيم موكب لدفن رفات الشهداء الذين سقطوا نتيجة غارات فرنسية على جبال أقري بمنطقة تطاوين بين شهري أفريل وماي 1956، بعد حصولها على إذن قضائي لذلك وبمرافقة وكيل الجمهورية”. وأرفق الخبر بصورة تبين أن موكب الدفن ذاك تم في ساعة متأخرة من المساء وأنه لم يحضر مراسمه غير أعضاء الهيئة والمسؤول القضائي. وقد دُفنت الرفات في مجموعة من صناديق الخفاف حشرت دون مسمى، من دون أن يوضع اسم أي شخص على أي قبر منها.

خانت الصورة ومن قبلها الخبر وعد “كشف الحقيقة ورد الاعتبار” خصوصا بعدما تبين أن موكب الدفن الذي تم على عجل لم يستند لتقرير فحص جيني للرفات يحدد لمن يعود كل منها. بكلام آخر، حضرت الصورة وغابت الحقيقة.

مقالات ذات صلة:

الدوائر المتخصصة في ظل شبح المصالحة الشاملة: إخفاء جثة المطماطي داخل أعمدة جسر الجمهورية في تونس؟

 


[1]   عبد الفتاح مورو  يدلي بشهادته امام المحكمة  كمال المطماطي دفن بخرسانة تحت قنطرة –  فاطمة الجلاصي – الصباح التونسية -10-10-2018

[2]  شطرت اتفاقية الاستقلال الداخلي التي وقعتها  حكومة الطاهر بن عمار عن الجانب التونسي مع الحكومة الفرنسية  بتاريخ 03-06-1955  قيادة  حزب التحرير الوطني الحزب الحر الدستوري لشقين أولهما شق  نسبت له تلك الاتفاقية تزعمه رئيسه  الحبيب بورقيبة الذي عدها الطريق ” الموصل إلى الاستقلال التام الذي يبقى المطلب الأساسي للشعب التونسي. ” وثانيهما شق جاهر بمعارضته لها وتزعمه الأمين العام للحزب صالح بن يوسف الذي اعتبر أن الاستقلال التام هدف الحركة الوطنية وكل تنازل عنه خيانة لها.واستحال أياما قليلة بعدها  إختلاف المواقف والتقييمات  لمواجهات مسلحة بين من كانوا شركاء في الانتماء الحزبي والوطني فرفع جانب من قادة المقاومة المسلحة ممن ساندوا بن يوسف السلاح في وجه غيرهم من الدستوريين لاتهامهم لهم بالخيانة والتواطؤ مع المحتل و الذين من جهتهم انتظموا فيما سمي حينها لجان الرعاية الدستورية وأعلنوا حرب اجتثاث لخصومهم بعد اتهامهم لهم بالتفريط في المصلحة الوطنية خدمة لمصالح أجنبية.

[3] توصلت الهيئة بألف وسبعمائة واثنان وثمانين ملف على علاقة بالنزاع بين بورقيبة وبن يوسف  ” ومن بينها ملف “معركة جبل اقري”

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني