في الحلقة الأولى من هذا المقال، عدنا إلى تفاصيل التصريح الذي حوكم الصحافي آدم شمس الدين على أساسه، وصولا إلى إصدار حكم غيابي بحقه بثلاثة أشهر حبس على خلفية الإساءة إلى سمعة جهاز أمني هو أمن الدولة. وقد بينا في الحلقة تلك أن أخطر ما يعكسه الحكم هو انقلاب القيم الاجتماعية المحدّدة لحرية التعبير، في اتجاه معاقبة “النخوة” (التي طالما كانت في رأس قيمنا) وصولا لتحصين سلوكيات غالبا ما كانت من منظور اجتماعي، محل استهجان شامل. في هذه الحلقة، سنوضح أبرز العوامل التي أسهمت في إعطاء الحكم صيغته المفجعة هذه.

هذه العوامل هي الآتية:

 

الحس الأمني والسياسي لمفوض الحكومة يمليان عليه تحصين الأجهزة الأمنية ضد أي مساءلة

العامل الأول تمثل في فهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس لدوره والذي يتمثل في تحصين الأجهزة الأمنية إزاء أي محاسبة جدية، إعلاميا كما قضائيا. ونستشف هذا الأمر ليس فقط من ملاحقة شمس الدين في هذه القضية إنما أيضا وبالأخص من خلال امتناعه المتكرر عن اتخاذ أي تدبير، ولو على سبيل التحقيق، بحق الأجهزة الأمنية في هذه القضية وحتى في الحالات التي يرجح حصول مخالفات جنائية فيها.

وهذا ما نتبينه بوضوح كلي في قضية زياد عيتاني، حيث امتنع عن إجراء أي تحقيق في شكوى هذا الأخير على خلفية ما ادّعاه من تعذيب وتسريب تحقيقات واحتجاز تعسفا والتي أحالها النائب العام التمييزي إليه. ويلحظ أن جرمانوس لم يكتفِ في هذا السياق بالادّعاء ضد الصحافيين على خلفية الإساءة إلى سمعة أجهزة أمنية أمام المحكمة العسكرية في الحالات التي يكون ذلك ممكنا فيها قانونا (مثلا: التصريح على الفايسبوك أو أي من وسائل التواصل الاجتماعي)، بل أنه ذهب أبعد من ذلك في اتجاه الادعاء على هؤلاء أمام محكمة المطبوعات كما حصل في قضايا أخرى تم توثيقها.

وعليه، شهدنا للمرة الأولى في تاريخ لبنان حسب علمنا، مفوض المحكمة العسكرية يمدّ يده خارج إطار المحكمة العسكرية تمهيدا للادّعاء أمام المحاكم العدلية، كل ذلك وسط دهشة قضاة هذه المحاكم ومحاميها على حدّ سواء. وقد بدا من خلال ذلك أنه لا يجد حرجا في تجاوز القوانين تحقيقا لغايته الأساسية في حماية “هيبة” الأجهزة الأمنية.

ويجدر التذكير هنا بأن تعيين جرمانوس شكّل إحدى العقبات الرئيسية أمام إصدار التشكيلات القضائية في 2017 والتي تعطلت بفعل ذلك لفترة طويلة. وقد اعتبر وزير العدل السابق سليم جريصاتي تعيين جرمانوس في هذا المركز إنجازا شخصيا، وفق ما أعلنه في حفلة أقيمت لتكريم هذا الأخير في 20/12/2017: “لم أتخيّل دقيقة واحدة غير بيتر جرمانوس كمفوّض للحكومة لدى المحكمة العسكرية، لما يتمتّع به من حسّ سياسي وأمني كبيرين وفراسة قانونية تسمح له أن يكون في هذا الموقع. وما قمنا به من تعيينات … هو تغيير جذري لمفهوم عمل النيابات العامة لإخراجها من السطوة السياسية التي كانت تتحكّم بعمل هذه النيابات”. أمام واقع القضية الحاضرة، أمكن التساؤل من دون أي تعسف عن اتجاه التغيير الحاصل في عمل النيابات العامة وبخاصة لدى النيابة العامة العسكرية، والتي يبدو أنها غلبت بالفعل الحس الأمني والسياسي على اعتبارات القانون والصالح العام.

 

القضاء العسكري أداة مثلى لتحصين المؤسسات الأمنية

العامل الثاني المؤثر حكما في هذه القضية هو الطابع الاستثنائي للقضاء العسكري، وانعكاساته السلبية على صعيد ضمانات المحاكمة العادلة. فبفعل نقص هذه الضمانات وفق ما أسهبت “المفكرة” في تفنيده في مكان آخر، غالبا ما تؤدي أعمال القضاء العسكري إلى رسم خطوط حمراء مزدوجة: خطوط حمراء للحريات العامة التي بإمكان المواطنين ممارستها بمعزل عما يمنعه أو يبيحه القانون، وفي الآن نفسه خطوط حمراء للمسؤولية الجزائية للأجهزة العسكرية والأمنية على حد سواء، مع ما يستتبع ذلك من إفلات من العقاب ومن مرونة في مقاربة هذه المسؤولية وقياسها.

يضاف إلى ذلك أن مجرد تكوين القضاء العسكري في غالبيته من ضباط عسكريين وتوسيع اختصاصها ليشمل أي جرم قد يرتكبه عسكري أو يرتكب ضدّه (وهذه هي حال القضية الحاضرة حيث نظر فيها القاضي المنفرد العسكري وهو عميد ركن)، يجرّده من أحد شروط المحاكمة العادلة وهو الحيادية الفعلية ولكن أيضا الظاهرية. وانطلاقا من ذلك، غالبا ما يتحول القضاء العسكري إلى أداة تمييزية لصالح العناصر الأمنية (وبشكل أكبر لصالح الأجهزة الأمنية)، في أي مواجهة لهم مع أشخاص مدنيين.

وهذا ما تبيناه بشكل واسع من خلال اختتام المحاكمة من دون التحقيق في أي من المخالفات المرتكبة في الخبر أو استدعاء أي من الأشخاص المعنيين بها للوقوف عند صحتها أو حتى من دون تعليل النتيجة التي وصلت إليها المحكمة رغم صحة المعطيات التي تضمنها التصريح موضوع الإدانة. ومن هنا، يفهم تماما أن تعدّ بعض القوى السياسية، وفي مقدمتهم نواب من كتلة الجمهورية القوية، هذا الحكم مدعاة للتفكير في حصر صلاحيات المحكمة العسكرية.

 

إنقلاب القيم

بمعزل عن الطابع الاستثنائي للمحكمة العسكرية أو أداء مفوض الحكومة فيها، تعكس هذه القضية مرة أخرى الانزلاق القيمي الحاصل على مستوى حرية التعبير وبخاصة تعريف المصالح الجديرة بالحماية. ومؤداه نتائج عبثية تماما، قوامها معاقبة النخوة في الدفاع عن المظلوم أو القضايا الاجتماعية، في موازاة التبخير لأصحاب النفوذ ومقاماتهم أيا تكن المظالم المرتكبة منهم؛ وكل ذلك طبعا بمنأى عن الحدّ الأدنى من مشاعر العدالة والتضامن الاجتماعي أو اعتبارات الصالح العام.

عسى أن ينتهي اعتراض شمس الدين الذي قدمه اليوم، ليس إلى إعادة الاعتبار له، بل أيضا لبدء الملاحقة ضدّ من يستحق منعا لتكرار خطاياه.

مقالات ذات صلة:

ماذا تخبرنا قضية آدم شمس الدين؟ (1) هكذا أصبحنا نعاقب النخوة

صدمة بعد صدور حكم حبس 3 أشهر بحق صحافيين: النيابة العامة العسكرية مسخّرة لتبييض سمعة أمن الدولة