حرّر هذا المقال أمس تعليقاً على تصريحات وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن الأخيرة بشأن الكسارات والمقالع. وقبيل نشره بقليل، وصلنا نبأ إغلاق مقالع كفرحزير والكورة بقرار من الوزيرة الحسن بالتنسيق مع وزير البيئة فادي جريصاتي، وهو نبأ يؤدي في حال صحته إلى تحقيق انتصار ثمين جدا لأهالي الكورة وللمفكرة معهم. على أمل أن يتم ذلك، ننشر هذا المقال واضعين إياه برسم القوى السياسية كافة. فما هي الخطوات التي يتيعن اتخاذها حين نكتشف أكبر ملف فساد في لبنان؟ (المحرر).

 

في 17 شباط 2019، أعلنت وزيرة الداخلية والبلديات ريا الحسن للنشرة “أنها ستتشدد في تطبيق القانون المتعلق بالكسارات والمرامل وتنفيذ القرارات الصادرة عن المجلس الوطني للمقالع والكسارات من ناحية استيفاء الشروط المطلوبة لعملها”. وإذ عبّرت في الآن نفسه عن قلقها من مشاهدة جرائم الطبيعة في لبنان، فإنها خصّت بالذكر “ما تراه حين تذهب إلى الشمال بين شكا وأميون مع استفحال الكسارات والمرامل وتشويه الطبيعة”. وليس غريبا أن تشدد الوزيرة على هذه الكسارات التي هي على الأرجح الأضخم والأكثر إضرارا في بيئتها ومحيطها، علما أن الجزء المرئي منها لسالكي طريق شكا أميون لا يشكل إلا جزءا بسيطا من مجموع الكسارات التي تستثمرها شركتا الإسمنت هولسيم والسبع في المنطقة. وهذا ما كانت المفكرة وثقته في عددها الخاص الذي أعطيناه عنوان: “الكورة في فم التنين”.

كما عادت الحسن وصرحت في مكان آخر، وتحديداً في حديث لمجلة الأمن: “ثمة وعد حقيقي، بأن أبقى كوزيرة للداخلية خارج نظام الخدمات الزبائنية التي تعوَّد عليها كثيرون في البلد، والتشدد في تطبيق القوانين لا سيما في ما يتعلق بمسألة المرامل والكسارات. وسأحرص على خدمة من هو بحاجة إليها فعلاً من ضمن إطار القانون وبعيداً تماماً عن المحسوبيات السياسية”. وهي بذلك بدت وفيما يسجل إيجابيا إعلان نواياها بالعمل بحيادية ونزاهة (وهذا ما يأمله كل مواطن)، فإن كلامها يبقى بالغ الخطورة لجهة أنه يؤكد رسميا الممارسات التي انتهجها وزراء داخلية سابقون في ملف المرامل والكسارات والقائمة على الزبائنية والمحسوبيات السياسية.

وما يزيد من خطورة كلام الوزيرة الحسن هو تأكيدها الضمني في تتمة حديثها السابق للنشرة بأن الممارسات المعتمدة من قبل سلفها (أو أسلافها)، إنما هي تخرج بالواقع عن الصلاحيات المناطة به(م) قانونا. وهذا ما نتبينه بوضوح كلي من إعلانها أنها ستلجأ “إلى المجلس الوطني للمقالع والكسارات ولوزارة البيئة اللذين يدخل هذا الملف في نطاق عملهما، لكي يدرسا وضع المرامل والكسارات لناحية استيفائها الشروط البيئية المطلوبة أو طلب توقيف عملها”.

وإذ أكد وزير البيئة فادي جريصاتي في تغريدة بثها بتاريخ 20 شباط 2019 التزام الوزيرة الحسن فعليا بما وعدت به لجهة إحالة الملفات إلى وزارة البيئة، فإنه أضاف معلومة ثمينة جدا قوامها أن الإحالة شملت أكثر من 150 ملفا للكسارات والمقالع.

وهذه التصريحات الهامة جدا، والتي مرت مرور الكرام في النقاش العام، إنما تستدعي إبداء عدد من الملاحظات الأساسية أبرزها الآتية:

 

أولا، صكوك الحماية باطلة

إذ أكدت الوزيرة الحسن بوضوح كلي أنه ليس لوزارة الداخلية أي صلاحية في السماح باستثمار كسارات أو مقالع  أو مرامل، فإنها لم تفعل بالواقع شيئا سوى التسليم بما هو بديهي قانونا، حيث أن النصوص واضحة جدا في هذا المجال ولا تقبل أي لبس، وهي تولي هذه الصلاحية للمجلس الوطني للمقالع والكسارات ولوزارة البيئة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تحديد المرجع الصالح للترخيص بالمقالع والكسارات لا يتصل باعتبارات تنظيمية أو سياسية (معايير تقاسم السلطة أو الصلاحيات بين الوزارات أو القوى السياسية التي تتولاها)، إنما بالدرجة الأولى والأخيرة بالتخصّص والضمانات التي تنص عليها هذه النصوص للحدّ من الضرر البيئي أو التخفيف منه، ومن أهمها حصر إقامة الكسارات في مناطق جغرافية محددة تبعد عموما عن المجمعات السكنية وعن المياه الجوفية، فضلا عن وجوب الإلتزام بأصول معيّنة للحفر واستخراج الصخور والمرامل أو إعادة تأهيل الأماكن.

وفيما وُضعت هذه النصوص في 2002 تبعاً لكمّ هائل من النشاطات المدمرة للبيئة والحراكات الاجتماعية ضدها، وقُدّمت بعد طول تسويف على أنها مكسب وطني، جاءت ممارسات وزارة الداخلية بتجاوز هذه النصوص لتنسف كل هذه الضمانات. وقد فعلت ذلك في غالبية الحالات من خلال توجيه تعليمات “غير قانونية” إلى المحافظين وقوى الأمن الداخلي، تمنعهم فيها من اتخاذ أي تدبير بحق الكسارات التي قررت (هي) أن تمنحها الحماية. هذه التعليمات هي التي وصفناها في العنوان أعلاه على أنها صكوك حماية.

كما أن من شأن تجاوز هذه الصلاحيات على هذا الوجه أن يؤدّي إلى حرمان الدولة من الرسوم التي قد تعود إليها من جراء نشاطات كهذه. وعليه، وبفعل هذا التجاوز، لا يتمّ نقض مبدأ “الملوّث يدفع” الذي نص عليه قانون حماية البيئة وحسب، إنما يتم قبل ذلك نقض مبدأ المساواة في تحمّل الأعباء العامة، أي ما يجدر بأي مواطن أن يسدده للدولة من جراء نشاطاته فيها، بمعزل عما إذا كان ملوثا أم لم يكن كذلك. فما قد يدفعه الملوث اليوم، على الأرجح لقاء صكوك الحماية، إنما يوصف على أنه خوّة أو رشوة، تستقر في جيوب البعض ولكن خارج الخزنة العامة.

ومن النتائج الطبيعية لهذا الأمر، القول أن كل “الرخص” التي أعطيت سابقا باطلة بطلانا مطلقا وبحكم غير الموجودة طالما أنها صدرت عن مصدر غير مختص، الأمر الذي يفرض وقفها فورا. وهذه النتيجة تكاد تكون بديهية من الناحية القانونية، وفق فقه واجتهاد راسخين، وهي تحتّم وقفا فوريا لجميع هذه النشاطات، بانتظار استيفاء درسها من قبل المراجع المختصة المشار إليها أعلاه.

 

ثانيا، هذا هو الفساد الكبير

تؤكد تصريحات الوزيرة الحسن على نحو لا يقلّ وضوحا أن هذه الرخص تدخل ضمن المحسوبية السياسية والزبونية. وهذا الأمر يعني حكماً أننا بأقل تقدير أمام فساد إداري يقوم على استغلال النفوذ لمنح منافع لمناصرين أو زبائن خلافا للقانون. كما يرجّح أمام ضخامة الأرباح المحقّقة من نشاطات كهذه وفي ظل الأعراف اللبنانية (للأسف)، أن نكون أيضا أمام فساد مالي، أي فساد يقوم على استغلال النفوذ لمنح منافع مقابل رشى مالية، أي ما يعرف بالمال السياسي، أو الأصح الخوّات. ولا نبالغ إذا قلنا أن الفساد الذي نحن بصدده هو من أضخم أشكال الفساد، إن لم يكن أضخمها على الإطلاق.

وهذا الأمر لا يتأتى وحسب عن عدد الكسارات المنتشرة على طول لبنان وعرضه، وقد بلغت 150 وفق تغريدة وزير البيئة جريصاتي أي بمعدّل ملف لكل 69 كلم مربع، إنما أيضا وبالأخص عن ضررها الجسيم على عناصر البيئة كافة وتاليا على شروط الحياة الأساسية. فبفعل تقويض المحاذير والضمانات البيئية المنصوص عليها قانونا، لا يؤدي هذا الفساد الذي نحن بصدده إلى إثراء أصحاب الكسارات أو أيضا إثراء قوى سياسية في حال ثبوت فساد مالي، إنما أيضا وبما يزيد أهمية، إلى أضرار بيئية وحياتية جسيمة، وبخاصة أنه يجري من دون اتّباع أي من الأصول المقررة قانونيا. فكثيرة هي الكسارات (ومنها وبالأخصّ الكسارات الواقعة في منطقة الكورة والتي رأت الوزيرة الحسن بأمّ عينها) التي تؤدي إلى نهش عناصر البيئة كافة من ماء وهواء وتربة ومناظر مع ما يستتبع ذلك بالضرورة من تقويض لقطاعات إنتاجية بعضها قديم وجدّ منتج، وكثيرة أيضا هي الكسارات التي تؤدي من خلال الغبار الذي تثيره إلى رفع نسب الأمراض الرئوية والسرطانات وتاليا إلى قتل الناس، كل ذلك من دون أي مساءلة. وبكلام آخر، الفساد الذي نحن في صدده، هو فساد ينخر بيئتنا، يدمرها، فساد يستبيح أثمن ما يتعين على إدارات الدولة أن تحميه (شروط الحياة)، فساد يلوث ويقتل.

فتماما كما ينهش فساد الكسارات (والخوّات) مؤسسات الدولة وإداراتها، هو ينهش عناصر البيئة إلى حد القتل والتدمير. ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا الملف يكشف أن البلد بات يجثم على بركان من الفساد، بركان يقذف حممه فيدمر كل شيء.

 

ثالثا، أمام انكشاف فساد كهذا وبهذا الحجم، ما العمل؟

نتيجة ما سبق، ما العمل؟ وهذا سؤال نضعه برسم القوى السياسية كافة، وهو سؤال يزداد إلحاحا بقدر ما تتفاقم الحمم الناتجة عنه، وهي هائلة لا يمكن التغاضي عنها. فأن تصمت هذه القوى أو تراعي بعضها البعض في قضايا فساد صغيرة، هذا أمر ممكن. لكن أن يستمر هذا الصمت في قضية بلغ فيها الفساد حدّ القتل والتدمير، فهذا أمر ينزع عن هذه القوى أي مصداقية. ولعل الخطوات المطلوبة في هذا الصدد تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول من الخطوات والذي يبدو الأكثر إلحاحا يتمثل في اتخاذ قرارات فورية في وقف هذه الكسارات والمقالع. فمن المفروض أن يسبق وقف الكسارات درس مدى توفر شروطها البيئية، طالما أن الـتأكد من توفر الشروط البيئية، ليس من الكماليات إنما هو شرط أساسي لمنع ترخيص بمباشرة العمل فيها. وهذا الأمر يصح من باب أولى في المناطق التي لا يسمح فيها القانون بإقامة أي كسارة أو مقلع وفق الخرائط المرفقة بمرسوم 2002.

الخطوة الثانية، هي مباشرة أعمال المحاسبة بحق الوزير السابق نهاد المشنوق الذي استباح حقوق الخزنة العام والبيئة برمتها، وإن جاز التساؤل حول هوية المستفيدين من هذا الفساد. هل هم الشركات التي عبثت في الطبيعة وحدها؟ هل استفاد هو أو أي من الوزراء السابقين منها؟ هل هو عمل بقرار منه أم بالتواطؤ مع قوى سياسية أخرى؟ وكلها تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها إلا في إطار ملاحقة قضائية جدية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن من شأن التحقيقات في هذا الملف أن تؤدي إلى تفعيل اجراءات قانون الإثراء غير المشروع بحق هذا الوزير أو سواه.

الخطوة الثالثة، وهي لا تقل أهمية، هي وجوب ملاحقة الشركات التي استباحت البيئة وحيوات الناس من دون ترخيص، وذلك ليس فقط عملا بقواعد المسؤولية العادية، إنما أيضا تطبيقا لمبدأ “الملوث يدفع”. ولا بأس من الاستلهام في هذا الصدد بالملاحقات الحاصلة ضدّ الشركات الملوثة على حوضي الليطاني أمام قضاة زحلة، وهي ملاحقات ترسم الطريق لمزيد من الحراك، دفاعا عن النفس وعن المجتمع.

فلننهض…

لقراءة المقال باللغة الانجليزية انقروا على الرابط أدناه:

Environmental Crimes in Lebanon: Unlawful Enrichment That Kills

مقالات ذات صلة:

شركة السبع للإسمنت تدّعي ضد”جورج عيناتي”: مواطن يمثل أمام القضاء بتهمة الدفاع عن بلدته وبيئتها وأهلها

العدد الخاص من مجلة المفكرة القانونية: الكورة في فم التنين

التحاصص في الحصى: حكاية قانون تنظيم المقالع

أن نقرأ خريطة المقالع في لبنان

شكا والجوار الكوراني: خريطة المعالم واستخدامات الأراضي

تحوّل أرض الكورة من مورد خصــب إلى مادة أوليــــة لشركات الإسمنت

قرار رائد لمطبوعات بيروت في قضية حماية الآثار: “لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب على الفساد والخلل بشكل موضوعي”

4 قرارات للقاضية صفا بكفّ التعقبات بحق ناشطي الحراك اللبناني: الدفاع عن المجتمع يبرّر المسّ الظاهر بكرامة الحكومة ووزرائها

من يدافع عن الدولة، وكيف؟ حكم قضائي يكرس دور الناس في مكافحة الفساد ويفضح دور هيئة القضايا في منعها

نظام المقامات في لبنان