هل الزواج المدني يحتاج إلى تعديل دستوري؟ قراءة في المادة 9 من الدستور اللبناني


2019-02-19    |   

هل الزواج المدني يحتاج إلى تعديل دستوري؟ قراءة في المادة 9 من الدستور اللبناني

في خضم النقاش المتجدد حول ما يعرف بالزواج المدني في لبنان، برز موقف دار الفتوى التي اعتبرت في بيان لها أن هذا الأمر “يخالف أحكام الدستور اللبناني في ما يتعلق بوجوب احترام الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الدينية العائدة للبنانيين في المادة التاسعة منه وبالتالي لا يمكن إقراره في المجلس النيابي دون أخذ رأي وموقف دار الفتوى وسائر المرجعيات الدينية في لبنان”. وهذا الموقف لا يقتصر على المرجعيات الدينية كدار الفتوى بل أيضا صدر عن نواب وشخصيات سياسية تنطلق من فرضية حاجة اقرار نظام مدني للأحوال الشخصية إلى تعديل دستوري. فما هو مدى صوابية هذا الموقف لناحية الدستور وطبيعة الدولة اللبنانية؟

نصت المادة التاسعة من الدستور على التالي: “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإِجلال للَّه تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية”.·

ولا شك أن هذه المادة تعتبر حجر الزاوية في تكريس منظومة الأحوال الشخصية الدينية إذ تعترف صراحة بحق الطوائف بتنظيم شؤونها الذاتية أولا والاعتراف بأحوالها الشخصية ثانيا. لكن السؤال لا علاقة له بهذا الشق من القضية كون هذا الاعتراف لا يجادل فيه أحد بل الاشكالية تكمن في معرفة هل يشكل هذا الاعتراف حقا مطلقا للطوائف يشمل جميع اللبنانيين ويحدّ من سلطة الدولة بحيث تفقد هذه الأخيرة صلاحياتها التشريعية في هذا المجال؟ بتعبير آخر، هل اقرار الدستور بنظام الأحوال الشخصية الطائفية يقصي هذا المجال كاملا خارج سلطان الدولة التشريعي؟

ولكي ندرك مرامي هذا السؤال، لا ضير من إجراء مقارنة بسيطة مع حقوق أخرى اعترف بها الدستور. فعندما يكرس الدستور صراحة حرية الاعتقاد وحرية ابداء الرأي قولا وكتابة فهو يضع قيدا على أجهزة الدولة أي أنه يعتبر هذه الحريات تدخل ضمن مجال محصن يخرج عن صلاحيات السلطة التشريعية التي ينحصر تدخلها في تأمين الانتظام العام. وهذه النظرة هي في حقيقة الأمر جوهر مبادئ الليبرالية السياسية التي تعتبر أن الفرد يسبق المجتمع والدولة، وبالتالي هدف الاجتماع السياسي هو حماية الحريات الفردية التي تجد مصدرها في طبيعة الانسان نفسه وليست منحة من الدولة أو من تشريع وضعي ما. وهكذا يصبح السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو التالي: هل الأحوال الشخصية الطائفية تتمتع بالقيمة نفسها كحرية المعتقد وحرية الرأي على سبيل المثال؟ أي هل هي محصنة بشكل مطلق بحيث يمنع على الدولة عبر اختصاصها التشريعي من ولوج هذا المجال عبر قوانينها الوضعية؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من العودة إلى النص الرئيسي الذي يرعى شؤون الطوائف الدينية في لبنان أي القرار 60 ل.ر. الصادر بتاريخ 13 آذار 1936 عن المفوض السامي الفرنسي. فمن خلال مراجعة المذكرة الإعدادية التي وضعها المفتش العام للأوقاف “فيليب جيناردي” سنة 1934 بناء على توجيهات المفوض السامي يتبين بشكل واضح أن هدف القرار هو تنظيم شؤون الطوائف دون المس بحرية الأفراد مع التأكيد على هوية الدولة المدنية وسيادة السلطة المدنية (suprématie du pouvoir civil) على الطوائف وذلك وفقا لروحية المبادئ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية. فالقانون المدني في الأحوال الشخصية هو إذاً القانون العادي بينما الأنظمة الطائفية هي قوانين استثنائية يشترط لتطبيقها احترامها للنظام العام والآداب الحميدة ودستور الدولة وقوانين سائر الطوائف الأساسية. ويتجلى هذا الواقع بشكل ساطع في المادتين 10 و11 من القرار المذكور إذ تنص المادة العاشرة على التالي: “يخصع السوريون واللبنانيون المنتمون إلى طائفة تابعة للحق العادي وكذلك السوريون واللبنانيون الذين لا ينتمون لطائفة ما للقانون المدني في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية”، بينما تنص المادة 11 على أن “كل من أدرك سن الرشد وكان متمتعا بقواه العقلية يمكنه أن يترك أو أن يعتنق طائفة ذات نظام شخصي معترف بها…”. فحقوق الطوائف لا تلغي حقوق الأفراد الذين يتمتعون بحرية تامة في علاقتهم مع تلك الطوائف.

وقد فوض مجلس النواب الطوائف التاريخية المعترف بها صلاحياته التشريعية في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية وأقر لها بتنظيم شؤونها الداخلية. لكن المشترع اشترط على هذه الطوائف أيضا في المادة الخامسة من القرار 60 ل.ر. أن تقترن أحوالها الشخصية وأصول المحاكمات لديها بقانون يصدق عليه مجلس النواب كي تصبح نافذة. أي أن تكريس حق الطوائف في تطبيق أحوالها الشخصية لا يخلّ بمبدأ سمو الدولة التشريعي. وهذا ما أكده صراحة المجلس الدستوري عندما أعلن في قرار له ان المادة التاسعة من الدستور وإن كانت تعطي “للطوائف استقلالا ذاتيا في إدارة شؤونها ومصالحها الدينية، فإنه لا يحجب حق الدولة في سن التشريعات المختلفة والمتعلقة بتنظيم أوضاع هذه الطوائف وفقا لأحكام الدستور. وبما أن حق الدولة في التشريع هو حق من حقوق السيادة التي تستمد مصدرها من الشعب وتمارسها الدولة عبر مؤسساتها الدستورية(…) وبما أن سلطة التشريع هي سلطة أصيلة ومطلقة وقد حصرها الدستور بهيئة واحدة دون غيرها هي مجلس النواب” (قرار رقم 2 تاريخ 8/6/2000).

فإذا كان هذا القرار يسمح للدولة عبر مجلس النواب بتنظيم الطوائف التاريخية “دون أن يتعدى ذلك إلى المساس باستقلال الطوائف في إدارة شؤونها الذاتية أو أن يؤدي إلى الحلول محلها في إدارة هذه الشؤون” (قرار رقم 2 تاريخ 8/6/2000)، فإنه من المنطق التسليم بحق السلطة التشريعية بتنظيم هذا المجال من الأحوال الشخصية الذي لا علاقة له أصلا بالطوائف الدينية، أي الأحوال الشخصية المدنية للبنانيين الذين لا ينتمون إلى طائفة ما، كما يقر به القرار 60 ل.ر، أو حتى اللبنانيين الذين يختارون الخضوع طوعا للتشريع المدني. فمنع الدولة من التشريع في هذا المجال هو اعتداء على سيادتها المنبثقة من الشعب وفقا للفقرة “د” من مقدمة الدستور التي تعلن أن “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”. وبما أن مصدر السيادة هو زمني صرف فالدولة هي مدنية في ماهيتها ولا يمكن لها التنكر لطبيعتها، والجعل من التشريع الطائفي الاستثنائي هو المبدأ الذي يسبقها وجوديا بحيث ينحصر دورها في حمايته.

جراء ما تقدم، يتبين لنا أن الدستور يفرض على الدولة احترام الأحوال الشخصية للطوائف أي أن السلطة التشريعية لا يحق لها إلغاء هذه النصوص برمتها أو المس باستقلالية الطوائف. لكن ذلك لا يعني إطلاقا أن هذا الفرض هو شامل وحصري بحيث يمنع وجود تشريعات مدنية أخرى إلى جانب تلك الطائفية. فالأحوال الشخصية الدينية هي خيار يسمح به الدستور بشكل استثنائي إذ أن عدم تكريس حق الطوائف في أحوالها الشخصية المستقلة في نص دستوري كان سيؤدي حكما إلى اعتبار جميع التشريعات الدينية مخالفة لمبدأ المساواة المكرس دستوريا لأنها نصوص استثنائية وبالتالي كان لا بد من إعطاء هذا الاستثناء القيمة الدستورية بغية السماح به. ولما كان الدستور يسمح بهذا الاستثناء فهذا يعني تلقائيا أن المبدأ هو مدنية الدولة وأن سلطان هذه الأخيرة التشريعي لا يمكن المس به والحد منه. ويتأكد هذا الأمر بشكل جلي مع إعلان الدستور في مقدمته وفي المادة 95 منه بأن الغاء الطائفية السياسية هو هدف وطني ينبغي العمل من أجل تحقيقه. فإلغاء الطائفية السياسية هو مبدأ ذات قيمة دستورية ونتيجته النهائية تكريس مدنية الدولة وتأمين المساواة بين اللبنانيين على صعيد تمثيلهم السياسي في مجلسي النواب والوزراء بغض النظر عن انتمائهم الطائفي. والأمر نفسه ينسحب على إقرار أحوال شخصية مدنية: حيث أن نتيجة هذا الأمر تكون في تكريس مدنية الدولة في مجال محدد تمهيدا لتعميمها مستقبلا على مختلف المستويات، فلا يحتاج هذا الأمر إلى تعديل دستوري كون التشريع المدني هو المبدأ والاستثناء هو الأحوال الشخصية الطائفية.

مقالات ذات صلة:

الحق بالزواج المدني وتكوين أسرة في لبنان: سلاح اضافيّ في معركة لم تحسم بعد

المفكرة تنشر قرارا قضائيا بشأن الزواج المدني في لبنان: سلاح إضافي لمعركة لم تنتهِ بعد

الأزواج غير المعترف بهم يلجؤون إلى القضاء …وإلا إلى قبرص: تمسّك بالمواطنة يعكّره هاجس الولادات

مسألة الزواج المدني وتشويه طبيعة النظام اللبناني

المشنوق على خطى هيئة التشريع والاستشارات

الزواج المدني في لبنان، حقٌ مكتسب مُعلَّق

كتاب الزواج المدني: عندما تتحوّل الثقافة القانونية إلى وسيلة من أجل المواطنة

إيضاح في تعمية

أهم دروس قضية الزواج المدني: المبدأ هو الحرية

مشروع قانون للزواج المدني على الأرض اللبنانية بتوقيع وزارة العدل: اغاظة الطوائف من جهة، والتعويض ماليا عليها من جهة أخرى

أبعد من قضية الزواج المدني، المهن القانونية أمام استحقاق التغيير

الزواج المدني في سوريا في ظل القرار 60 ل/ر

الخطأ الفادح في قراءة المادة 10 من قرار 60 ل/ر

عقد الزواج وعُقدة الدولة

المفكرة القانونية تنشر رأي الهيئة الاستشارية العليا تعميما للفائدة وترحب بأي تعليق عليه

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني