المؤسسات القضائية و كبار القضاة وهوامش التدخل في أعمال القضاة


2011-10-18    |   

المؤسسات القضائية و كبار القضاة وهوامش التدخل في أعمال القضاة

ألقيت هذه الكلمة خلال جلسات المؤتمر الإقليمي "القضاء العربي في ظلال الثورة (1): قضاة يتمسكون باستقلاليتهم: اي تدخلات؟ اي مقاومات؟ اي مساحة للتضامن" والذي عقدته المفكرة القانونية بالتعاون مع مؤسسة هاينرش بل – مكتب الشرق الاوسط في بيروت يومي 14 و15 تشرين الأول/اكتوبر 2011. (المفكرة)

بداية، أتوجه بالشكر الجزيل للمفكرة القانونية التي أتاحت هذه الفرصة لتلاقي قضاة من بلدين عاشا ثورة كان وقودها تفاقم الظلم والإستبداد والفساد ومن أبرز شعاراتها تحقيق العدالة وضمان الحريات. ولا شك أن القضاء يجب أن يكون الضامن الأول لتحقيق تلك المبادئ، وكلي أمل في أن تكون هذه البادرة خطوة أولى لتبادل تجارب القضاة العرب والتفكير معا وبمعية مكونات المجتمع المدني في سبيل تطوير منظومة العدالة في بلداننا وفقا للمعايير الدولية.
إنه بقدر ما شدني موضوع المداخلة الذي يعتبر من المشاغل الأولى للقضاة التونسيين، بقدر ما بعث في نفسي بعض الحيرة والتي مردها أن الحديث عن هوامش تدخل المؤسسات القضائية في أعمال القضاة يفترض بالضرورة وجود مساحة أو مساحات للحرية واستقلالية القاضي. وهو ما لا تعكسه حالة القضاء التونسي مثلما سيتم بيانه لاحقا.
هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء عبر المجلس الأعلى للقضاء
إنه غني عن البيان أن مبدأ تفريق السلطات يقتضي عدم تدخل أي منها في الأخرى، سواء من حيث هيكلتها أو من حيث قراراتها. وهو ما يبرر وجود المجالس القضائية العليا لتكون وحدها الضامنة لإستقلالية السلطة القضائية. إلا أنه بالرجوع إلى التجربة التونسية، يتضح أن واضعي دستور 1959أعطوا الأولوية المطلقة للمنظومة السياسية والإدارية لبناء دولة الإستقلال على حساب المنظومة القضائية، مما حال دون الإهتمام بمأسسة السلطة القضائية وبتركيز فلسفة فكر قضائي متكامل لضمان إستقلالية حقيقية في هيكلة وتسيير المجلس الأعلى للقضاء. وهو ما أدى إلى سياسة قضائية تحفظية تجاه القضاء و القضاة من طرف دولة الإستقلال. وقد تكرس هذا الإتجاه من خلال الفصل 65 من دستور 56 ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون) الذي لا يتحدث عن قضاء مستقل بل عن قضاة مستقلين.
وسنرى لاحقا أنه لم توفر للقضاة ضمانات تلك الإستقلالية، إذ أسند الفصل 67 من الدستور للمجلس الأعلى للقضاء مهمة السهر على تحقيق الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين والترقية والنقلة، وترك للقانون أمر ضبط تركيبته وإختصاصات المجلس. علما بأن الدستور لم يخصص للسلطة القضائية سوى 4 فصول مقابل 19 فصلاّ للسلطة التشريعية و27 فصلاّ للسلطة التنفيذية.
و تتمثل هشاشة التكريس التشريعي لتنظيم هيكلة وتسيير المجلس الأعلى للقضاء في تأخر صدور القانون الأساسي للقضاة (1967)، و عدم توفر مقر رسمي للمجلس الأعلى للقضاء يدعم إستقلاليته كمجلس دستوري وإستقلالية السلطة القضائية ( يجتمع بوزارة العدل).
ويتضح من القانون الأساسي للقضاة أنه كرس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء و القضاة، و ذلك خاصة من خلال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء الذي يترأسه رئيس الجمهورية وينوبه وزير العدل. ويكون فيه القضاة السامون المعينون في خططهم الوظيفية بأمر من رئيس الجمهورية أعضاء بصفة آلية. ويضاف إليهم 6 أعضاء منتخبون بطريقة فريدة من نوعها طبقا لمنشور 9/1/1973 إذ يعتبر كل القضاة مترشحين وتتم عملية الفرز من طرف لجنة غير معلومة بوزارة العدل، ويصدر وزير العدل منشورا يعلن فيه عن قائمة الفائزين في غياب أية شفافية.
ولا شك أن تركيبة مثل هذه لا يمكن بحال أن تكرس أية إستقلالية للقضاء بل على عكس ذلك. فالسلطة التنفيذية من خلال تركيبة المجلس تتحكم في المسيرة المهنية للقضاة ( نقلة- ترقية- إسناد الوظائف).
وهو ما نشأ عن مصطلح "القضاة المنسجمين" مقابل "القضاة غير المنسجمين". و قد تفاقم تدخل السلطة التنفيذية عبر المجلس الأعلى للقضاء في سنوات الإستبداد والفساد التي عرفها النظام البائد من خلال أحكام تأتي جاهزة من وزارة العدل لفائدة العائلة الحاكمة والمقربين منها والمتنفذين. وصدرت بذلك أحكام جائرة وانتهكت حقوق المعارضين أشخاصا وأحزابا وجمعيات ( الرابطة- نقابة الصحفيين- جمعية القضاة التونسيين….). وسلبت أرزاق وعقارات على ملك خاص أو على ملك الدولة. و قد تكرست تلك الهيمنة من خلال قضاة إما مورطين في فساد مالي أو طامعين في ترقية أو وظيفة قضائية أو خائفين من نقلة تعسفية إعتبارا إلى عدم وجود معايير موضوعية لذلك ولا ضمانات لإستقلال القاضي وفق المعايير الدولية. وبهذه الطريقة وفي غياب تلك المعايير الدولية تشكلت على مدى عقود وسنوات منظومة قضائية سمتها الفساد المالي والإداري في تحالف مع نظام إستبدادي وفاسد.
 ولقائل أن يتساءل أين هم بقية القضاة من ذلك؟ والجواب هو أن العديد من القضاة آمنوا بنبل رسالتهم وكانت لهم إستقلالية ذاتية، إلا أنهم كانوا دوما مغيبين عن سلطة القرار أي مستبعدين من الوظائف القضائية ومن الدوائر الحساسسة أو مهمشين داخل دوائر لا يشكلون فيها إلا أقلية طبق القانون أو منفيين داخل الجمهورية.
تدخل إدارة المحاكم في أعمال القضاة
لا بد من الملاحظة بأن المحاكم تدار من قبل رئيس المحكمة ووكيل الجمهورية الذي يخضع قانونا لسلطة وزير العدل. والمسؤوليات المذكورة لا تسند من قبل المجلس الأعلى للقضاء إلا للقضاة الموالين. وفي الواقع فإن دورهما الأساسي وخاصة في العقد الأخير يتمثل في مراقبة القضاة و إرسال التقارير إلى وزارة العدل في شأن كل من تشتم منه رائحة إستقلالية وقوة الشخصية، مع الإشارة إلى أن توزيع العمل بدوائر المحكمة يتم وفقا لمعيار غير معلن ولكنه معلوم من قبل جميع القضاة، ألا وهو معيار الولاء والإستعداد لإصدار أحكام وفق الطلب ولا يصبح التوزيع الداخلي للمحاكم نافذا إلا بمصادقة وزارة العدل عليه.
كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن وكيل الجمهورية عند إحالة المحاضر للتحقيق يختار مكتب التحقيق الذي سيباشرها حسب أهمية القضية وحساسيتها طبق معيار ولاء قاضي التحقيق من عدمه. وتشكلت بذلك داخل المحاكم مكاتب تحقيق الموالية للتعهد بقضايا العائلة والمرتبطين بها، إلى جانب مكاتب التحقيق العادية التي لا تحال إليها سوى ملفات من لا ولي له. وبطبيعة الحال، فالشأن ذاته بالنسبة لدوائر الإتهام والدوائر الجناحية والجنائية. علما بأن الوضع متواصل إلى الآن، أي بعد 14/01، مما يدل على أن قوى الردة لا تزال فاعلة وتتصدى للمحاسبة وللمحاكمات العادلة والشفافة. وهو ما يفسر إلى حد كبير غليان الشارع والمجتمع المدني إزاء التباطؤ في فتح الملفات الكبيرة المتعلقة سواء بالفساد المالي أو بقضايا الشهداء وجرحى الثورة.
ولا بد كذلك من الإشارة إلى أن الأعداد الصناعية المسندة للقضاة من قبل المجلس الأعلى للقضاء[1] تتم بناء على تقييم رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية. وهذا التقييم يخضع بالأساس إلى معيار الولاء والإنسجام ولا علاقة له بالكفاءة والإنضباط.
               I.            تفاعل القضاة الشبان مع الهرمية داخل القضاء
بداية، لا بد من الملاحظة بأن إنتداب القضاة كان يتم عن طريق مناظرة للمجازين في الحقوق. يخضع الناجحون فيها إلى تربص مدته عامان. إلا أنه ومن تداعيات أول إضراب للقضاة سنة 1985 صدر أمر رئاسي بإنشاء المعهد الأعلى للقضاء.
وإن كانت هذه الفكرة من مطالب جمعية القضاة الشبان وهي موجودة فعلا في عديد الدول، إلا أن خلفية صدور ذلك الأمر ليست بخافية عن أحد إذ لم يكن الهدف من إنشاء المعهد تكوين القضاة المتشيعين بفكرة إستقلال القضاء، بل تدجين القضاة وتكريس ثقافة القاضي الخادم للنظام الإستبدادي الفاسد، عوضا عن القاضي حامي الحريات وحقوق الإنسان والضامن لها، مع العلم بأن النجاح في مناظرة المعهد الإلتحاق بالمعهد الأعلى للقضاء رهين بحث أمني للمترشح وأفراد عائلته.
ودون التعميم أو التجني على القضاة المتخرجين من المعهد فإنه لا بد من الإقرار بنجاح النظام في تكوين فئة من القضاة غابت عنهم ثقافة الإستقلالية. فإستعملتهم السلطة في إصدار أحكام حسب الطلب لقاء تدرجهم في حياتهم المهنية على حساب من رفض الخضوع لإرادة الحاكم. لكن إلى جانب هؤلاء، تخرج من المعهد قضاة أكفاء آمنوا برسالتهم فتم تهميشهم (تجميد الترقية- نقل تعسفية- حرمان من الوظائف القضائية) وفيهم من بقي صامدا وعلى إستعداد لدفع ثمن إستقلاليته. لكن ترسب لدى العديد منهم شعور بالغبن والإحتقان وحتى الندم على إختيار هذه الوظيفة السامية. فإختار الإستقالة أو يفكر فيها ولعل ثورة 14 جانفي (كانون الثاني، يناير) ستعيد الأمل إلى نفوسهم.
           II.            الخاتمة
ربما تبدو لكم الصورة قاتمة. ولكنها تعكس في جانب كبير منها وضعية القضاء التونسي الذي تم تكريسه على مدى عقود لخدمة النظام الإستبدادي الفاسد ودوائره لا لأداء رسالته النبيلة في حماية الحريات العامة والخاصة. وهو ما جعل مسألة تطوير المنظومة القضائية وتطهير القضاء من رموز الفساد المالي والإداري مطروحة بشدة بعد 14 جانفي. إذ فقد القضاء شيئا فشيئا ثقة المواطن ولم يعد في جانب كبير منه ملجأ المظلوم، بل عصا النظام لضرب معارضيه وإخماد كل نفس إستقلالية داخل المجتمع المدني، وكذلك وسيلة طبيعية لنهب الثروات العامة والخاصة من قبل العائلة الحاكمة والمتنفذين المرتبطين بها.
ولكن رغم هذه الصورة القاتمة، فإن 14 جانفي بعث بصيص أمل لبناء قضاء مستقل ومحايد ونزيه سيما أن الألسن تحررت سواء في أوساط القضاة أو المجتمع المدني عامة. والجميع على وعي بأنه لا يمكن بحال التوق إلى إرساء نظام ديمقراطي بدون قضاء مستقل يكون فيه الجميع سواسية أمام القانون وتكون فيه المحاكم منارة للعدالة لا قلعة للظلم والفساد. وإن لم يتحقق إلى الآن أي تقدم في ذلك الإتجاه عدى ما فرضته الثورة من ممارسة القضاة لحق الإجتماع والتعبير. إلا أن الأمل يبقى قائما لتحقيق مطلب نادى به القضاة الشبان ومن بعدها جمعية القضاة التونسيين. والأمل معقود على المجلس التأسيسي لتكريس المبادئ الأساسية والضمانات اللازمة لإستقلال القضاء وإرسائه كسلطة دستورية وفق المعايير الدولية. ولعل هذه المبادرة من المفكرة القانونية تكون دافعا لتبادل مختلف التصورات للوصول إلى الغاية المنشودة.
 وغني عن البيان أن القضاة بقدر ما يتحملون في جزء كبير مسؤولية تردي الأوضاع في بلدانهم زمن الإستبداد والفساد، فإنهم يتحملون وخاصة الشرفاء منهم مسؤولية خوض معركة إرساء القضاء المستقل. وهي مهمة على غاية من الدقة والصعوبة. إذ من المعلوم أن أية سلطة سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ستعمل جاهدة على توظيف القضاء لخدمة ما تراه هي حقيقة. وبالتالي فإن إستقلال القضاء لا يمنح بل يفرض بنضالات القضاة عبر هياكلهم الممثلة وبمساندة مكونات المجتمع المدني وخاصة منها تلك التي إكتوت بنار الأحكام الجائرة للقضاء الفاسد.



[1] وهي تقيس مدى انتاجية القاضي كما ونوعا، (التفسير للمحرر).
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني